ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
فاجأت التظاهرات الاحتجاجية التي عمت المدن والبلدات الإيرانية في الأيام الأخيرة الحكومة الأمريكية، كما فاجأت الخبراء في الشؤون الإيرانية في مراكز الأبحاث والأكاديميين في الجامعات الأمريكية، وخلقت نقاشا واسعا وحادا في بعض الأحيان، حول الخيارات العملية المتوفرة لإدارة الرئيس ترامب لمساعدة المتظاهرين، الذين بدأوا حراكهم بمطالب اقتصادية، مثل توفير العمالة ومكافحة الفساد، وتطورت بسرعة إلى مطالب سياسية مثل إجراء استفتاء جديد حول طبيعة النظام السياسي، والمطالبة باستقالة الرئيس حسن روحاني، وحتى اسقاط “الديكتاتور” في إشارة إلى المرشد آية الله علي خامنئي.
الرئيس ترامب سارع عبر تغريداته المتلاحقة إلى تأييد المتظاهرين الذين يمثلون “الشعب الإيراني العظيم” ضد “النظام الوحشي”، وتبعته مندوبة واشنطن في الأمم المتحدة نيكي هايلي بالقول إن الولايات المتحدة لن تلتزم الصمت وسوف تحاسب النظام الإيراني إذا قمع التظاهرات بالقوة، ولاحقا حضّت وزارة الخارجية العالم على دعم المتظاهرين ومطالبهم. ولكن هذه المواقف الأخلاقية واللفظية الأولية أكدت من جملة ما أكدته أن واشنطن بالفعل قد فوجئت بهذا الحراك الشعبي، وأنها تفتقر إلى سياسة واضحة وعملية في التعامل مع إيران، تتخطى استياء الرئيس ترامب من الاتفاق النووي الدولي مع إيران الذي وقعته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما في 2015.
التظاهرات ومستقبل الاتفاق النووي
وبعد أن تبين للمسؤولين الأمريكيين أن التظاهرات انتشرت إلى مختلف المناطق الإيرانية، سارع هؤلاء في مجلس الأمن القومي ووزراتي الخارجية والدفاع وأجهزة الاستخبارات إلى مناقشة وتقييم المعلومات المتوفرة لديهم، وبحث الخيارات والتوصيات التي يرفعونها إلى الرئيس ترامب، خاصة وأن عليه أن يقرر في 11 من الشهر الجاري، ما إذا كان عليه أن يجدد تعليق تطبيق العقوبات على إيران وفقا للاتفاق النووي، أو أن ينفذ تهديده بالانسحاب منه في حال لم يقم الكونغرس والدول الأخرى الموقعة على الاتفاق النووي بتعزيز القيود المفروضة على طهران. وقالت لنا مصادر مطلعة على النقاش الحكومي –الذي يشمل أيضا استشارة خبراء بالشؤون الإيرانية في مراكز الأبحاث- أن الأجهزة المختلفة تقترب من الانتهاء من صياغة التوصيات. وكشفت هذه المصادر أن الاتجاه العام هو توصية الرئيس ترامب بعدم الانسحاب من الاتفاق النووي، على الأقل ليس في هذا الوقت، وعدم اتخاذ أي قرار يتعلق بالعقوبات التي رفعت بموجب الاتفاق، لأن ذلك سيخدم السلطات الإيرانية وادعاءاتها بأن الولايات المتحدة وغيرها من “أعداء” إيران هم الذين حرضوا على التظاهرات، كما أن التعرض للاتفاق النووي سيبعد الاهتمام الاعلامي والسياسي عن التظاهرات الاحتجاجية ويضعه مجددا على البرنامج النووي الإيراني.
هذا الموقف ينسجم مع الرأي السائد في أوساط الخبراء والأكاديميين والمسؤولين السابقين الذين يحذرون من أي مواقف أو إجراءات أمريكية يمكن أن تقوض مطالب المتظاهرين عن غير قصد من خلال إعادة الاتفاق النووي إلى الواجهة على حساب دعم الحراك الشعبي بطرق عملية وحكيمة تتفادى إعطاء النظام الإيراني الذرائع لاستخدام القوة على نطاق واسع لقمع التظاهرات.
ويقول مايك سينغ الباحث البارز في معهد واشنطن لدراسة الشرق الأدنى في حوار خاص “إذا انسحب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي، فإنه سيخدم المتطرفين في إيران، وسوف يحول الاهتمام عن المتظاهرين ومطالبهم، بينما المطلوب هو تعزيز الضغوط الدولية السياسية والمعنوية على النظام الإيراني في المرحلة الحرجة التي يمر بها الآن”. ويضيف سينغ الذي كان مسؤولا عن قسم الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي خلال ولاية الرئيس جورج بوش أن الرئيس ترامب فعل الشيء الصحيح عندما سارع بتركيز الاهتمام الاعلامي والسياسي على المتظاهرين وعلى تحذير السلطات الإيرانية بأن الولايات المتحدة وكذلك المجتمع الدولي يراقبون عن كثب ما يجري في إيران، والتلويح بعقوبات اضافية إذا لجأت السلطات الإيرانية إلى تصعيد العنف إلى مستويات صارخة. ويرى سينغ أن تردد الدول الأوروبية في انتقاد عنف السلطات الإيرانية يضعف من إمكانية اتخاذ موقف غربي فعال للضغط على السلطات الإيرانية، وخاصة تنسيق المواقف بين الدول الغربية لحرمان السلطات الإيرانية أو تقييد ايديها إذا سعت لاستخدام الوسائل الالكترونية للتعتيم عن التظاهرات أو تعطيل شبكة الإنترنت وحرمان المتظاهرين من استخدام وسائل الاتصال الاجتماعي.
صدقية ترامب في الميزان
وفور اندلاع التظاهرات وترحيب البيت الأبيض بها ودعمها، حظي موقف ترامب القوي من التظاهرات بتأييد من خبراء عديدين بالشؤون الإيرانية، الذين قارنوا موقف ترامب الواضح، بموقف الرئيس أوباما خلال التظاهرات التي عمت إيران في 2009 احتجاجا على تزوير انتخابات الرئاسة لصالح الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، حين تردد أوباما وتأخر في تأييد التظاهرات وإدانة قمعها، الأمر الذي ساهم برأي بعض المحللين في التعجيل بقمعها. اللافت أن بعض هؤلاء الخبراء معروفون بمعارضتهم لسياسات الرئيس ترامب بشكل عام، ولكنهم ركزوا على أهمية قيام الحكومة الأمريكية باتخاذ موقف سياسي أخلاقي واضح من هذه التظاهرات. ولكن هناك إدراك واضح في أوساط المشرعين في الكونغرس، وأوساط الخبراء والاعلاميين أن الرئيس ترامب يفتقر إلى المكانة الأخلاقية والسياسية التي تجعله فعالا في دعم الحراك الشعبي الإيراني، لأنه خلال سنته الأولى في البيت الأبيض امتنع عن تأييد حقوق الإنسان في العالم، كما تفادى انتقاد انتهاك حقوق الإنسان في دول مثل روسيا والصين، ناهيك عن الدول القريبة تقليديا من واشنطن مثل الفيليبين وتركيا ومصر. وهناك سبب آخر يضعف من قدرة ترامب على إقناع المواطنين الإيرانيين بجديته وصدقيته، وهو حظر دخول رعايا عدد من الدول ذات الأكثرية المسلمة، ومن بينها إيران إلى الولايات المتحدة. أي كيف يمكن لترامب التوفيق بين حظر دخول إيرانيين، من بينهم لاجئون وناشطون في مجال حقوق الإنسان من معارضي النظام الإيراني إلى الولايات المتحدة، ودعمه للمتظاهرين الذين يطالبون بحرياتهم؟
“لا غزة ولا لبنان، حياتي من أجل إيران“
وكان من المتوقع أن تتم المقارنة بين تظاهرات 2009 والتظاهرات الحالية، وكان هناك شبه إجماع على أن أحد الفوارق الرئيسية هو شيوع استخدام وسائل الاتصال الاجتماعي في التظاهرات الحالية نظرا لوجود 40 مليون هاتف ذكي في أيدي الإيرانيين، مقابل مليون هاتف نقال في 2009. وبينما تمحورت مطالب المتظاهرين في 2009 بمعظمها حول رفض ما اعتبروه رئاسة أحمدي نجاد المزورة، فإن التظاهرات الراهنة، وإن بدأت بمطالب اقتصادية، فإنها تطورت بسرعة لمطالب سياسية رفضت جوهر النظام الإسلامي في طهران، أي مبدأ “ولاية الفقيه”. ولوحظ في هذا السياق أن المتظاهرين في بعض المناطق ركزوا غضبهم على السياسة الإيرانية الخارجية وتحديدا تورط إيران في النزاعات الدموية في سوريا والعراق واليمن، والكلفة المالية الضخمة لهذه الحروب التي يشارك فيها خبراء وعسكريون إيرانيون من الحرس الثوري، والدعم المالي الذي توفره إيران لتنظيمات شيعية مثل حزب الله اللبناني وتنظيمات مماثلة في العراق تعتبرها طهران جزءا من منظومتها العسكرية الإقليمية، ودعم حركات أخرى مثل حركة حماس في غزة. هذا الاستياء عكسته هتافات المتظاهرين من نوع “لا غزة ولا لبنان، حياتي من أجل إيران”، في رفض واضح لأي خسائر إيرانية في حروب الوكالة التي يشنها النظام في المنطقة. وتقدر كلفة مشاركة إيران في حرب الرئيس السوري بشار الأسد ضد معارضيه في السنوات الأخيرة بمليارات الدولارات في السنة. بينما تقدر المساعدات المالية الإيرانية لحزب الله بأكثر من 800 مليون دولار في السنة. وهذه الكلفة ارتفعت مع مشاركة حزب الله في القتال إلى جانب النظام السوري. وفي هذا السياق قالت مصادر مطلعة على النقاش الحكومي بشأن إيران، إن إدارة الرئيس ترامب تميل إلى الإعلان عن تقييمها لحجم المساعدات المالية والمادية والعسكرية لنظام الأسد في سوريا، وحزب الله اللبناني، وميليشيات ما يسمى بوحدات الحشد الشعبي الشيعية بمعظمها في العراق، وميليشيات الحوثيين في اليمن، وذلك لاحراج النظام الإيراني الذي ينفق هذه المبالغ الكبيرة على الحروب والنزاعات بدلا من انفاقها لتلبية احتياجات الشعب الإيراني.
وبعكس تظاهرات 2009، التي كان لها قيادات سياسية معروفة على الصعيد الوطني وبعض المطالب المحددة، فإن التظاهرات الراهنة تبدو عفوية وتفتقر، وفق المعلومات الأولية المتوفرة حتى الآن لدى المسؤولين الأمريكيين، إلى قيادات معروفة أو مركزية. وفي هذا السياق قال بعض الخبراء إن غياب قيادات معروفة يحرم النظام من فرصة اعتقالها، ويرى هؤلاء أن استمرار التظاهرات سوف يؤدي إلى بروز قيادات جديدة. ويقر المسؤولون الأمريكيون بأن معلوماتهم عن قادة هذه التظاهرات محدودة للغاية. ولاحظ المسؤولون الحكوميون والخبراء أن قيادات تظاهرات 2009، لا يقودون التظاهرات الحالية، وأنها بدأت في بلدات ومناطق محافظة في شمال شرق البلاد، وأن العاصمة طهران، ليست اليوم مركز التظاهرات الكبيرة كما كانت في 2009. وحتى أكثر الخبراء تعاطفا مع الحراك الشعبي الراهن، لا يتوقعون رؤية بداية النهاية للجمهورية الإسلامية في إيران قريبا، ولكنهم يجمعون على القول إنه حتى ولو نجح النظام بقمع التظاهرات، فإن هذا لا يلغي حقيقة أنه أُصيب بنكسة سياسية محرجة، وأن التظاهرات كشفت وجود عفن في البنى السياسية والاقتصادية للنظام. ويرى الباحث سينغ أن النظام أيضا تعلّم بعض الدروس من تظاهرات 2009، وأنه بدأ بتنظيم تظاهرات موالية للحكومة، وأنه سيسعى إلى ترهيب واعتقال منظمي التظاهرات، والتعتيم عليهم وعلى نشاطاتهم والتشويش على اتصالاتهم، والاحتفاظ بحق استخدام العنف المكثف وعلى نطاق واسع إذا لم تنجح أساليب الترهيب. ويبدو أن للمسؤولين الأمريكيين الذين يتابعون التطورات الإيرانية عن كثب موقف مماثل لأنهم لاحظوا أن النظام، وإن كان يشعر باحراج كبير، لا يتصرف وكأنه في خطر، لأنه لا يزال يعتمد على قوى الشرطة المحلية لاحتواء وقمع التظاهرات، ولم يلجأ كما فعل في 2009 إلى نشر عناصر الباسيج والحرس الثوري المكلفة بمهام حماية النظام الإسلامي.