قبل عشرين سنة، حين أعلن الرئيس الأسبق جورج بوش الابن للأميركيين وللعالم عن غزو العراق “لنزع سلاحه، وتحرير شعبه، والدفاع عن العالم ضد خطر جسيم”، لم يكن يدرك أن الغزو سيحدد طبيعة ولايته، وسوف يغير مسيرة الولايات المتحدة بشكل جذري في بداية القرن الحادي والعشرين، ويلحق أضرارًا هائلة بصدقيتها في العالم وبمكانتها الأخلاقية، ويكشف محدودية قوتها العسكرية، وقدرتها على فرض الديموقراطية على مجتمعات أنهكها طغيان طويل، ويقوض علاقاتها مع حلفائها التقليديين، ويخلق أعداء جدد في العراق والمنطقة، ويعزز من نفوذ إيران التخريبي، ويعمق الانقسامات السياسية والايديولوجية في بلاده، ويساهم في تهديد ديموقراطيتها.
بعد مرور عشرين سنة، ومقتل أكثر من مئة ألف عراقي (التقديرات تتراوح بين مئة وثلاثمئة ألف عراقي مدني) ومقتل حوالي خمسة آلاف جندي أميركي، و3500 مقاول، وإنفاق أكثر من ترليوني دولار، هناك إجماع من الصعب الطعن به، وهو أن الغزو كان كارثة إنسانية وسياسية وعسكرية. وبقدر ما كانت عملية هزيمة الجيش العراقي سريعة ومتوقعة، بقدر ما كانت عملية إعادة بناء العراق حافلة بالأخطاء والخطايا. انهيار العراق كدولة وكمجتمع (وهو دولة منكوبة أصلًا بسبب طغيان نظام صدام حسين) برز فور الانتصار العسكري الأميركي الذي دشّن بداية مسلسل مذهل من الاخفاقات على جميع المستويات. خلال أسابيع قليلة تبخرت الحجة الرئيسية للغزو، أي التخلص من ترسانة أسلحة الدمار الشامل، التي ذهب وزير الخارجية آنذاك كولن باول إلى الأمم المتحدة ليقول للعالم إن نظام صدام حسين البعثي بناها وخبأها، لم يعثر على أي أثر لها.
وفور سقوط بغداد في أيدي الأميركيين، صعق العالم لمشاهد الفوضى وأعمال النهب التي عمت العاصمة العراقية، ولم تترك من شرها أي مؤسسة عراقية: من الجامعات، إلى المستشفيات وحتى المتاحف. كل هذه الفوضى العارمة جرت خلال الوجود العسكري الأميركي في بغداد. حقيقة أن القوات الأميركية التي غزت العراق، واحتلت بغداد كانت صغيرة الحجم نسبيا، لا يمكن استخدامه كتبرير لعجز هذه القوات أو رفضها التدخل – كما يتطلب القانون لدولي من أي سلطة محتلة – لوقف أعمال النهب والشغب والعنف الأولية.
تلاحقت الأخطاء بسرعة مدّوية ومحرجة. وكان من الواضح منذ اليوم الأول لسقوط بغداد وهروب صدام حسين، أن الولايات المتحدة بجنودها كانت عاجزة عن حكم دولة متوسطة الحجم مثل العراق، بسكانه الذي كان عددهم آنذاك يتجاوز الثلاثين مليون نسمة. وفي خطوة غريبة وعبثية ومذهلة في آن واحد، عينت الولايات المتحدة حاكمًا مدنيًا للعراق هو بول بريمر (Paul Bremer)، وهو بيروقراطي يفتقر إلى أي خبرة في شؤون العراق أو المنطقة. تعيين بريمر حاكمًا للعراق، كان مماثلًا في غطرسته لقرارات الحكومة البريطانية في لندن، قبل استقلال العراق، تعيين مندوب سام يمثلها في بغداد خلال حقبة الانتداب. أذكر آنذاك أن الزعيم الكردي جلال طالباني، الذي أصبح لاحقًا رئيسًا للعراق، والذي كانت تربطني به صداقة قديمة، قال لي “لقد توسلنا إليهم، ألا يعينوا حاكمًا أميركيًا للعراق لأن ذلك سيذّكر العراقيين بحقبة الاستعمار، وقلنا أنه لا داع لمثل هذه الخطوة، ولكنهم لم يستمعوا إلى موقفنا الموحد كمعارضة عراقية من هذه المسألة”.
وعقب هذا القرار المفاجئ، قرار تسريح الجيش العراقي، وإعادة آلاف الجنود الشباب إلى منازلهم، ولاحقًا حرمانهم من رواتبهم، ما أدى إلى خلق مشاكل وتحديات اجتماعية واقتصادية لمئات الآلاف من العائلات العراقية. هذا القرار المتهور، ساهم لاحقًا في تأجيج نيران المقاومة المسلحة، التي بدأت القوات الأميركية بمواجهتها بعد أشهر من احتلال العراق. وإذا لم تكن هذه الأخطاء رهيبة بما فيه الكفاية، فقد ساهم إنعدام الإدارة المدنية الشفافة والفعالة في بروز شراكة مشينة بين بعض الجنود الأميركيين وعملاء وكالة الاستخبارات المركزية (السي آي ايه) وبقايا النظام البائد في السجون التي أدارتها السلطات العسكرية الأميركية ما أدى إلى فضائح إساءة معاملة الأسرى العراقيين وتعذيبهم، والتي كانت فضيحة سجن أبو غريب أبشع تعبير عنها.
السنوات التي عقبت احتلال العراق فجّرت السلم الأهلي الهش أصلا، وزجت البلاد في نزعات داخلية دموية تمثلت في مواجهات مسلحة بين الأميركيين وعناصر المقاومة المسلحة من بقايا أنصار النظام المخلوع، وعناصر تنظيم القاعدة الإرهابي المحلي بزعامة أبو مصعب الزرقاوي، إضافة إلى اقتتال مذهبي ومجازر طالت المدنيين من شيعة وسنّة وأفراد الاقليات الأخرى. وسارعت إيران إلى استغلال هذه الفوضى لتعزيز نفوذها على حساب سيادة ووحدة العراق وسلطة الأميركيين. إنهاء الدور القتالي للقوات الأميركية في 2011، كان مؤقتًا لأن الولايات المتحدة مع حلفائها في الغرب وفي المنطقة، عادت لتقود حملة جوية شاسعة وطويلة ضد خطر إرهابي غير مسبوق في العالم العربي، تمثل ببروز “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) التي احتلت مناطق واسعة في العراق وسوريا، وفرضت على سكانها نظامًا إسلامياً ظلاميًا.
الغزو الأميركي للعراق أدى إلى الإطاحة بأحد أكثر الأنظمة العربية الدموية في العصر الحديث، ولكنه استبدل الطغيان المركزي بنظام مذهبي وطائفي ومتعدد الرؤوس، يعيش على الفساد العميق ويلف نفسه برداء ديموقراطي هش، لمجرد أنه ينظم انتخابات تشريعية بين وقت وآخر تفتقر إلى النزاهة ومبنية على التعبئة المذهبية، وتقوده أحزاب وحركات دينية تحركها وتمولها طهران، التي تعامل العراق وكأنه محمية إيرانية.
أي مراجعة موضوعية لمضاعفات الغزو الأميركي للعراق يجب أن تؤدي إلى حقائق مقلقة، أبرزها أن الدولة الخارجية الأكثر نفوذًا في العراق اليوم هي إيران، التي تدافع عن نفوذها بأدوات عراقية، وليس الولايات المتحدة التي استثمرت الكثير من مواردها البشرية والمالية، والتي لا تزال تجد عناصرها العسكرية المحدودة جدًا في العراق تتعرض دوريًا للقصف الإيراني. احدى الحقائق الأخرى هي أن تحييد العراق ساعد إيران على بسط نفوذها الخانق في سوريا ولبنان واليمن، وتحدي جيران هذه الدول والولايات المتحدة بأدوات وميليشيات مذهبية عربية.
بعد عشرين سنة على الغزو، لا تزال الولايات المتحدة تواصل محاولاتها لاستعادة صدقيتها الدولية وسمعتها الأخلاقية، التي وصلت إلى مستويات متدنية وغير معهودة بسبب اتهاماتها الباطلة للعراق بحيازة أسلحة الدمار الشامل، وإخفاقها في إعادة بناء العراق وخلق مؤسسات شرعية وقابلة للحياة. هذه المعضلة برزت من جديد وبشكل سافر في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا، والمعارضة الأميركية القوية لهذا الغزو لأسباب اخلاقية وقانونية وسياسية. الكثيرون خارج دائرة حلفاء واشنطن في أوروبا وآسيا شككوا، على الأقل في البداية، بصدقية وشرعية الرفض الأميركي للغزو الروسي، وذّكروا الأميركيين بغزوهم للعراق. وهكذا بعد عشرين سنة من الغزو، أصبح “العراق”، في السجال السياسي حجة يستخدمها خصوم الولايات المتحدة لإضعاف موقفها ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، او لمعارضتها القوية لأي إجراء عسكري صيني ضد تايوان.
تم اتخاذ قرار غزو العراق، خلال مشاعر القلق والخوف العميقين التي خيمت على البلاد في أعقاب هجمات سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية، والخوف الرسمي والشعبي الشرعي من احتمال حدوث هجمات مماثلة، أو احتمال حصول تنظيم القاعدة على سبيل المثال على مواد كيماوية او نووية تؤدي إلى تطويره لقنبلة “قذرة”، يمكن أن تؤدي إلى التسبب بعدد كبير من الضحايا. أيضا جاء قرار الغزو على خلفية استغلال المسؤولين لهذه المخاوف المشروعة وتضخيمها والمبالغة فيها، ولاحقًا محاولة التغطية على الاخفاقات والفضائح السياسية والإدارية في العراق وتضليل الأميركيين بشأنها. الرئيس بوش بعد أسابيع من الغزو ألقى خطابًا من سطح احدى حاملات الطائرات، وورائه لافتة ضخمة كتب عليها “تم انجاز المهمة”، في تضليل واضح حول حقيقة الحرب ونتائجها.
خلال السنوات اللاحقة، أصبحت ثقافة التضليل السياسي والإعلامي جزءًا عضويًا من السجال السياسي والانتخابي في البلاد. حقيقة أن كبريات الصحف الأميركية والمعلقين السياسيين البارزين، مع استثناءات قليلة، إما أيدوا الغزو، أو أخفقوا في تحدي الادعاءات الرسمية حول أسلحة الدمار الشامل وإدارة العراق بعد احتلاله، ساهمت أيضا في خلق انطباع عام بأن الحرب في العراق بانقساماتها وتضليلاها، وحتى بعنفها، قد وصلت إلى الداخل الأميركي. بعد انسحاب القوات الأميركية من العراق، تم توزيع بعض عتادها الثقيل مثل العربات المسلحة إلى العديد من مراكز الشرطة التي كانت تستخدمها بطريقة ترهيبية غير مسبوقة. وجاءت الحركة السياسية والاجتماعية والأيديولوجية المتطرفة التي قادها دونالد ترامب لتحمل هذه الظاهرة إلى مستويات خطيرة كادت تقوض الديموقراطية الأميركية حين اجتاح مئات المتطرفين والعنصريين من أنصار ترامب مبنى الكابيتول في محاولة انقلابية لإلغاء نتائج انتخابات رئاسية كانت نزيهة وشفافة.
احدى الظواهر اللافتة في الغزو الأميركي للعراق، هي أنه على الرغم من مرور جيل كامل على الغزو لم تقم الطبقة السياسية بحزبيها (اللذين أيدا بالأكثرية الغزو) بأي نوع من النقد الذاتي للاستفادة من عبر ودروس الحرب أو أي نوع من المراجعة الذاتية. وهكذا بدت الولايات المتحدة وكأنها دولة غير ديموقراطية تفلت من أي محاسبة. بعض المسؤولين البارزين في إدارة الرئيس بوش نشروا مذكراتهم ودافعوا عن أدائهم خلال الغزو، وبرروا أخطائهم، واستفادوا ماليًا من مثل هذه المذكرات، وفعلوا ذلك دون خجل.
وربما لهذا السبب لا تزال القوى والشخصيات السياسية الأميركية تستخدم “العراق” لتبرير مواقفها من قضايا وتطورات دولية تحدث بعد مرور جيل على غزو العراق. هذه الظاهرة تعرقل حدوث نقاش جدي وموضوعي لمسألة شرعية استخدام القوة العسكرية الأميركية إذا دعت الحاجة. معارضو استخدام القوة العسكرية بالمطلق في أوساط اليسار الأميركي يلوحون بغزو العراق وثمنه على سبيل المثال لضبط او وقف أي دعم عسكري أميركي لأوكرانيا لكي تواجه الغزو الروسي المدمر. هؤلاء يرون في أي دعم أميركي حتى للقوى الديموقراطية في الخارج على أنه بداية الانزلاق إلى تورط عسكري مباشر. معارضو استخدام القوة العسكرية في أوساط اليمين الأميركي، وخاصة اليمين الانعزالي والعنصري الذي يلوح بشعار “أميركا أولا” بطروحاته المتعصبة ضد كل ما هو غير أبيض، يرى في الرئيس بوتين آخر مدافع أبيض ومسيحي في الغرب يقف في وجه موجات الهجرة من أفريقيا والعالم الاسلامي التي تهدد أوروبا وأميركا الشمالية، التي تشكل برأيهم آخر معاقل الرجل الأبيض المحاصرة في العالم. وهذا يفسر موقف الرئيس السابق ترامب المؤيد لبوتين، ورفض شريحة هامة من قاعدة ترامب مساعدة أوكرانيا على مقاومة الغزو الروسي.
أخطاء وخطايا الغزو الأميركي للعراق (وقبله لأفغانستان) يجب أن لا تؤدي إلى رفض مسبق لأي استخدام للقوات المسلحة الأميركية، لأن ذلك سيشجع طغاة العالم الذين يؤمنون بطموحاتهم التوسعية على العمل على تحقيقها. ولو لم تتحرك واشنطن بسرعة لقيادة حلفاؤها في أوروبا وآسيا للتصدي للغزو الروسي لأوكرانيا، وهو غزو توسعي واستعماري، لكانت أوكرانيا اليوم محمية روسية، ولكان فلاديمير بوتين قائدًا لقوة إمبريالية، متحالفة مع دولة مثل الصين، ترى نفسها الطرف الوحيد القادر على تحدي الولايات المتحدة استراتيجيًا وصناعيًا، وتحويل ما تبقى من القرن الحادي والعشرين إلى “القرن الصيني” بامتياز.