قام فؤاد حسين، نائب رئيس الوزراء العراقي ووزير الخارجية، بزيارة إلى واشنطن بين 9–15 فبراير/شباط الجاري. بصفته أول ممثل رفيع المستوى لرئيس الوزراء العراقي الجديد محمد السوداني، جاء حسين إلى الولايات المتحدة ساعيًا لتوسيع وتعميق “العلاقات المالية والاقتصادية” مع الولايات المتحدة، مصرحًا بأن تركيزه على القضايا الاقتصادية – وليس الأمنية – يُظهر أن العلاقات الأمريكية-العراقية كانت “سليمة” وقد وصلت إلى مرحلة جديدة.
ورغم أن زيارته كانت مخططة منذ فترة طويلة، إلا أن سوء حظ حسين، أنه كان مضطرًا للتعامل مع مسؤولين كبار من إدارة الرئيس جوزيف بايدن في الوقت الذي ما يزالوا يركزون على الغزو الروسي لأوكرانيا، وإسقاط منطاد التجسس الصيني، والمخاوف من استخدام إيران وروسيا للنظام المصرفي العراقي للتحايل على العقوبات الأمريكية والحصول على الدولارات الأمريكية. إضافة لمزيد من الضغوط، وَجَهت رسالة، بتاريخ الثاني من فبراير/شباط، من الرئيس الجديد للجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي حول علاقات بغداد بحكومة إقليم كردستان، ورسالة أخرى بتاريخ 10 فبراير/شباط من ثلاثة أعضاء آخرين في الكونجرس، الاتهام لحكومة السوداني بالانحياز للنظام الإيراني، والتواطؤ مع عمليات غسيل الأموال التي يقوم بها الحرس الثوري الإيراني في العراق، والتمييز ضد أكراد العراق؛ أظهرت الرسالتان أن العديد من الشخصيات في واشنطن لا يزالوا يركزون على الجوانب السلبية – أو على الأقل المشحونة سياسيًا – في العلاقات مع العراق. من وجهة النظر العراقية، فإن حسين قد وصل في أعقاب أزمة العملة والانخفاض الحاد في قيمة الدينار العراقي نتيجة لتطبيق البنك المركزي العراقي للضوابط الجديدة التي فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية على صرف الدولار في السوق العراقية.
كان اختيار حسين للذهاب إلى واشنطن خيارًا حكيمًا لما يتمتع به من عقود من الخبرة السياسية وعلاقات الصداقة التي تجمعه بمسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى في أربع إدارات أمريكية. خلال زيارته، التي امتدت أسبوعًا كاملاً، اجتمع حسين مع وزير الخارجية أنتوني بلينكن، والمبعوث الرئاسي الخاص لشؤون المناخ جون كيري، ومديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية سامانثا باور، ونائب وزير الخزانة الأمريكي والي أديمو، وغيرهم من مسؤولي الإدارة الأمريكية. ترأس حسين مع بلينكن لجنة التنسيق العليا على مستوى مجلس الوزراء، الخاصة باتفاقية الإطار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق، والتي حضرها أيضًا مستشار الأمن القومي جيك سوليفان. كما حضر حسين اجتماعات في الكونجرس، وتحدث إلى ممثلي الأعمال التجارية الأمريكية، وتحدث أمام مراكز الفكر، وظهر في وسائل الإعلام الأمريكية والدولية.
لدحض سردية واشنطن القوية حول تواطؤ حكومة السوداني في توسيع النفوذ الإيراني في العراق، أشار حسين إلى أفعال رئيس الوزراء التي تتعارض مع الأهداف الإيرانية في العراق، خاصة تصريحه الجماهيري في يناير/كانون الثاني حول دعمه لاستمرار تواجد القوات العسكرية الأمريكية في العراق.
جاء حسين إلى واشنطن لعدة أهدافٍ محددة. أولاً، أراد تفادي فرض عقوبات أمريكية على العراق بسبب سوق الدولار فيها، والتجارة مع إيران واستيراد الغاز الطبيعي والكهرباء منها، والتعاملات التجارية مع روسيا. فيما يتعلق بإيران، فقد حقق بعض النجاح بحجة أن العراق بحاجة للحصول على الدولارات الأمريكية للقيام بالتجارة الدولية المشروعة، وأن العراق يعتمد على إيران للحصول على أكثر من 40٪ من إنتاجه من الكهرباء. قد تؤدي العقوبات الأمريكية إلى قطع إمدادات الغاز والكهرباء الإيرانية، وهو ما قد يكون له آثار كارثية على العراق والمنطقة. وفي الوقت نفسه، عمل أفراد آخرون من الوفد المرافق له مع وزارة الخزانة الأمريكية ومسؤولي الاحتياطي الفيدرالي على صياغة التفاصيل الفنية التي من خلالها سيراقب البنك المركزي العراقي الوجهة النهائية لصفقات الدولار الأمريكي في العراق لتعزيز الثقة في تقليل الدولارات الأمريكية التي تصل إلى إيران. أظهرت الفقرة، شديدة اللهجة، المتعلقة بأسواق العملات في البيان المشترك للجنة التنسيق العليا نجاحًا في الحصول على بعض المرونة من جانب واشنطن، لكنها أوضحت أيضًا أن الولايات المتحدة تتوقع الكثير من الإجراءات العراقية.
وعلى نحوٍ مشابه، جادل الوفد بأن روسيا تشكل جزءًا مهمًا من الاقتصاد العراقي، لذلك ينبغي على واشنطن أن تخفف القيود المفروضة على الصفقات مع روسيا. فعلى سبيل المثال، اشترت شركة النفط الروسية العملاقة روسنفت حصة تشكل 60% من خط أنابيب تصدير النفط الرئيسي في كردستان العراق في عام 2017، كما التزمت في عام 2018 بتمويل خط أنابيب الغاز في إقليم كردستان. ومع ذلك، يبدو أن واشنطن لم تجد حجج ضرورة إبداء مرونة في الصفقات مع روسيا مقنعة.
ثانيًا، سعى حسين للحصول على المزيد من استثمارات الحكومة الأمريكية والقطاع الخاص للاستحواذ على الكمية الكبيرة من الغاز التي تحترق في العراق، وبالتالي، يذهب هدرًا. دفع حسين بأن العراق ينفق 4 مليارات دولار كل عام لاستيراد الغاز الطبيعي والكهرباء من إيران، ويريد دعم الحكومة الأمريكية والقطاع الخاص لاستبدال تلك الواردات، واستخدام الأموال التي يتم توفيرها لتقديم الخدمات للعراقيين. وأعرب بعض أعضاء الوفد المرافق عن استعدادهم لإعادة فحص صفقات الاستحواذ على الغاز السابقة التي واجهت معارضة سياسية أو اختفت داخل البيروقراطية العراقية. وأظهر البيان المشترك دعم الحكومة الأمريكية القوي لمواصلة تطوير قطاع الطاقة في العراق.
ثالثًا، من وراء الكواليس، سعى حسين والوفد المرافق له للتقليل من مخاوف الإدارة والكونجرس من كون السوداني جاء نتيجة الدعم الإيراني. وجادلوا بأن الدعم السياسي لرئيس الوزراء لا يأتي فقط من الأحزاب السياسية الموالية لإيران، وإنما يأتي أيضًا من الحزبين الكرديين الرئيسيين والأحزاب السنية والمسيحيين والشيعة المعتدلين. وبالإضافة إلى دعم السوداني المعلن للقوات الأمريكية، أشار الوفد العراقيين إلى تركيز سياسة السوداني المبكرة الخاصة بتقديم الخدمات للعراقيين، واتخاذ خطوات لمواجهة الفساد. مارس الوفد، بشكل معتدل، ضغوطًا للحصول على دعوة للسوداني لزيارة البيت الأبيض في المستقبل غير البعيد كإشارة على دعم واشنطن، وجادلوا بأن هذا الأمر من شأنه أن يساعد رئيس الوزراء في اتباع سياسات كالإصلاح الاقتصادي والإداري الذي لا يحظى بدعم الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران. من وجهة نظر مسئول كردي عراقي رفيع المستوى وموثوق به، إن هذه الحجج لم تكن فقط مجرد نقطة للرد على مخاوف الهيمنة الإيرانية وميليشياتها في بغداد، وإنما جاءت أيضًا كخطوة ملموسة يمكن أن تتخذها واشنطن لتعزيز موقف رئيس الوزراء ضد المنافسين المحتملين الموالين لإيران.
ومع ذلك فقد كان الإنجاز الأكبر لحسين هو ببساطة إعادة العراق إلى خريطة السياسة الخارجية بطريقة إيجابية. يبدو أن المسئولين الأمريكيين الكبار المشاركين في لجنة التنسيق العليا، والنقاشات العامة المكثفة التي أجراها حسين بشأن العراق، قد أقنعت الكثيرين في الإدارة الأمريكية بمراجعة كيفية إحراز تقدم في أهداف السياسة الأمريكية، التي طال أمدها، والمتمثلة في عراق مزدهر وديمقراطي وذو سيادة.
في أعقاب زيارته، سوف تحتاج بغداد وواشنطن لاتخاذ خطوات ملموسة من أجل بناء الثقة.
من الجانب العراقي، يتعيّن على بغداد تطبيق التزاماتها بشأن سوق الدولار بإخلاص. ولتوسيع جدول الأعمال لما هو أكثر من التدفق المالي، ينبغي على بغداد أن تضع باعتبارها تكرار المزيد من الرحلات إلى واشنطن من جانب مسؤولين على مستوى مجلس الوزراء، ولا سيما ذوي الحقائب الاقتصادية. سيكون من الحكمة أن تقوم بغداد باختيار مسؤولين من مجلس الوزراء قادرين على الجدل المقنع بأن العراق ملتزم، ليس فقط بتوقيع مذكرة تفاهم مع القطاع الخاص، بل بالقيام أيضًا بأعمال تجارية، ربما مع التطبيق الكامل لعدد من حالات الاختبار لأعمال تجارية بارزة. وأخيرًا، يمكن للتقدم الملموس في معالجة القضايا التي تواجه الأقليات العراقية – وخاصة الأكراد العراقيين واليزيديين والمسيحيين – أن يحظى بدعم سياسي أكبر من واشنطن.
في حين تظل واشنطن متشككة، ينبغي عليها أن تضع في اعتباراتها القيام بزيارات متبادلة من قبل كبار المسؤولين الأمريكيين، والدعوة لمزيد من النقاشات للأجندة الاقتصادية التي تطرحها بغداد، ولا سيما ما يتعلق بالاستحواذ على الغاز وقضايا المناخ. إذا شعرت واشنطن بالالتزام الكافي من السوداني وحكومته بالأجندة التي وضعها وزير الخارجية، فلن يكون من المستبعد توجيه دعوة لرئيس الوزراء لزيارة واشنطن.