وصلت معدلات التضخم إلى مستويات غير معهودة منذ 40 سنة، وهذا ما يختبره الناخب والمستهلك الأميركي يوميًا كلما زّود سيارته بالوقود، وكلما اشترى أيًا من المواد الغذائية، وكلما استخدم وسائل المواصلات العامة. معدلات جرائم القتل سجلت أكبر ارتفاع منذ 6 عقود بزيادة 30 بالمئة في 2020. احصائيات 2021 غير متوفرة كليًا، ولكن معدلات الجريمة استمرت بالارتفاع في السنة الماضية أيضًا. هذه الظاهرة أدت إلى شراء الأميركيين لأكثر من 19 مليون قطعة سلاح في 2021، بعد أن وصلت في 2020 إلى شراء أكثر من 21 مليون قطعة سلاح.
الاستقطابات السياسية والانقسامات الاجتماعية والاحتقان العنصري، الذي تسبب بتظاهرات واحتجاجات دموية في السنتين الماضيتين، سجلت ارتفاعًا لم تختبره البلاد منذ حركة معارضة الحرب في فيتنام وحركة الحقوق المدنية في ستينات القرن الماضي. وما يسمى “بالحروب الثقافية”، مثل الخلافات الحادة حول حقوق المثليين، وحق المرأة في الاجهاض، ومعارضة توجيهات السلطات الصحية حول الاجراءات الاحترازية ضد وباء كوفيد-19، هيمنت بظلالها الداكنة على السجال الاجتماعي والسياسي في البلاد. الاعتداءات الدموية التي استهدفت أفراد أقليات أميركية، مثل اليهود والأميركيين–الآسيويين والأميركيين من أصل افريقي، انتشرت بشكل صاعق منذ انتخاب الرئيس السابق دونالد ترامب، وشملت قتل المصلين في معابدهم.
قيادات الحزبين الجمهوري والديموقراطي في الكونغرس تقف بشكل شبه مطلق وراء مواقف وطروحات غير قابلة للحلول الوسط ما أدى إلى ما يشبه الشلل الكامل للسلطة التشريعية. وإذا لم يكن هذا المشهد السياسي–الثقافي قاتم بما فيه الكفاية، كشف موقع “بوليتيكو” الالكتروني في الثاني من الشهر الجاري أن الأكثرية المحافظة في المحكمة العليا (خمسة من أصل تسعة) صوتت سرًا على مسودة قضائية تقضي بإلغاء القرار التاريخي الذي اتخذته المحكمة في 1973، والذي يعطي المرأة الحق بالإجهاض، ما أدى إلى ارتجاجات اجتماعية وسياسية مرشحة للاستمرار، وحتى التأزم أكثر خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.
هذا هو مشهد خطوط التماس الحارة على مختلف الجبهات الداخلية الأميركية قبل 180 يومًا من موعد الانتخابات النصفية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، التي ستقرر أي حزب سوف يسيطر على مجلسي الكونغرس. وكل هذا يجري على خلفية دور أميركي عسكري واستخباراتي واقتصادي وسياسي كبير، ويتعاظم، في مساعدة أوكرانيا على صد الغزو الروسي، مع ما يعني ذلك من احتمالات حدوث مواجهات أميركية-روسية أو روسية ضد دول حلف الناتو، خاصة وأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتهم واشنطن وحلف الناتو بمحاولة تدمير روسيا واستنزافها في أوكرانيا.
الرئيس بايدن قال، يوم الأربعاء، أن الولايات المتحدة الآن “تحارب على جبهتين، داخليًا نواجه التضخم وارتفاع الاسعار. في الخارج نحن نساعد أوكرانيا في الدفاع عن ديموقراطيتنا، ولتوفير الأغذية لأولئك الذين يعانون من الجوع في العالم بسبب الفظائع الروسية…”، التي أثرت سلبًا على امدادات الأغذية في العالم. ما لم يقله بايدن هو أن الديموقراطية الأميركية تتعرض لتحديات داخلية غير معهودة كما تبين من اجتياح العنصريين والمتطرفين لمبنى الكابيتول في يناير/كانون الثاني 2021، ومن هجمة أوتوقراطية دولية، أبشع تجلياتها الراهنة هو الغزو الروسي لأوكرانيا.
ما سبق لا يلغي حقيقة أن الولايات المتحدة لا تزال الدولة الأقوى في العالم اقتصاديًا وعسكريًا، الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها للدفاع عن قيم الحرية والديموقراطية والحوكمة الصالحة في العالم. كما لا تلغي التحديات الحالية حقيقة أن الولايات المتحدة اجتازت مراحل صعبة في تاريخها، وخرجت منها معافاة وأقوى من قبل، وأنها قادرة على أن تفعل الشيء ذاته في مواجهة التحديات الراهنة. ولكن ما سبق يعني أيضًا، أن مجمل الديموقراطية والحوكمة الأميركية اليوم هي في حالة خلل (dysfunctional) غير مسبوق، ما يعني أن الولايات المتحدة يجب أن تعبئ جميع طاقاتها وقدراتها، وأن تستفيد من جميع تحالفاتها الدولية لعبور هذه المرحلة الانتقالية الحرجة دون أن تعرّض نفسها لأضرار لا تستطيع تجاوزها.
أظهر الغزو الروسي لأوكرانيا هشاشة وسوء تقدير وحسابات بوتين العسكرية والاستراتيجية والاقتصادية. أداء الجيش الروسي هو فضيحة بحد ذاته. المقاومة الأوكرانية بدت للعالم ملحمية بالفعل. وحلف الناتو، بدلا من أن يتراجع وينكفئ، عزز من صفوفه، حيث تدق على أبوابه اليوم فنلندا والسويد، وهما دولتين محايدتين تاريخيا. الاقتصاد الروسي الذي كان في المرتبة الثانية عشرة في العالم قبل الغزو، هو الآن في حالة سقوط مستمر، ولا أحد يرى أي قاع له. المفارقة الكبرى، هي أن الخلل الأميركي المقلق، لم يمنع إدارة الرئيس بايدن من بناء جبهة دولية صلبة لصد، وحتى هزيمة الغزو الروسي لأوكرانيا.
ليس سرًا أن الغزو بدأ في الوقت الذي كانت فيه علاقات الولايات المتحدة ببعض دول الخليج العربية وتحديدًا السعودية ودولة الإمارات تمر في مرحلة فاترة، لا بل متوترة، لأسباب عديدة من بينها مواقف (المرشح)، ولاحقا الرئيس بايدن، من قضايا حقوق الانسان، وتحديدا جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي، والحرب في اليمن. خلال حملته الانتخابية وجه بايدن انتقادات قوية ومباشرة ضد قادة السعودية وتركيا ومصر وغيرها، وقال أنه سيجمد شحنات الأسلحة لهذه الدول. علاقات بايدن الشخصية والباردة بقادة هذه الدول بدت متناقضة كليًا مع العلاقات التي بدت ظاهريًا قوية بين الرئيس السابق ترامب وهؤلاء القادة، وإن كان يجب التنويه بأن ترامب كان يسعى إلى علاقات منفعية له ولعائلته مع هذه الدول وقادتها، وبالتالي لا يمكن اعتبار ترامب صديقًا حقيقيًا أو دائما لأيًا من قادة هذه الدول، كما أن “التزامات” ترامب بالدفاع عن هذه الدول كانت واهية في أحسن الأحوال. وللتذكير فقط، فإن الهجمات الصاروخية، وعبر المسّيرات، التي شنتها إيران ضد منشآت النفط السعودية في بقيق وخريص في سبتمبر/أيلول 2019 كانت خلال ولاية ترامب، الرئيس الذي يفترض أنه كان متصلبًا ضد طهران، والذي فرض عليها “العقوبات القصوى”، والذي رفض الرد عسكريا عليها.
المسؤولون الأميركيون يقولون إنهم صدموا لمواقف أصدقائهم في المنطقة من الغزو الروسي لأوكرانيا، وخاصة عدم إدانة الغزو، وفي حالة السعودية والإمارات الحفاظ على اتفاق أوبك بلس حول صيانة معدلات محددة لإنتاج النفط مع روسيا، الأمر الذي ساهم في ارتفاع أسعار المحروقات في العالم وفي الولايات المتحدة، ما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم قبل أشهر قليلة من الانتخابات النصفية. التقارير الصحفية، التي لم يتم نفيها بشكل مقنع حول تردد قادة السعودية والإمارات في قبول عروض لمكالمات هاتفية مع الرئيس بايدن ساهمت في تأزيم العلاقات أكثر، والتسبب بإغضاب الرئيس الأميركي الذي يعتقد أن قادة السعودية والإمارات، وفقا لما قالته مصادر مطلعة على المداولات الداخلية بهذا الشأن، يريدون استغلال حاجة واشنطن لنفطهم في هذه المرحلة الحرجة للحصول على تنازلات سياسية.
وتضيف هذه المصادر أن استياء قادة السعودية والإمارات من واشنطن بسبب اخفاقها خلال ولايتي الرئيسين ترامب وبايدن في الإسراع للدفاع عن البلدين لصد الهجمات الصاروخية الحوثية من اليمن، والتي لا يمكن تصور حدوثها دون تشجيع، أو ربما توجيه من طهران، أدى إلى إثارتهما لمسألة اقتراح التوصل إلى اتفاقات أمنية دفاعية ثنائية مع واشنطن للدفاع الفعال في المستقبل ضد مثل هذه الهجمات الصاروخية. وقالت هذه المصادر أن مستشار الأمن القومي جايك سوليفان (Jake Sullivan) كان قد بدأ قبل الغزو الروسي لأوكرانيا مشاورات بهذا الشأن مع الدولتين الخليجيتين. ولكن هذه المساعي توقفت بعد الغزو، وبعد ازدياد التوتر بين الطرفين حول رفض الرياض وأبوظبي زيادة معدلات انتاجهما من النفط للتعويض عن وقف استيراد أوروبا للنفط الروسي.
المسؤولون في الرياض وأبوظبي يدركون طبعًا أن توقيع معاهدات أمنية ملزمة للولايات المتحدة، بغض النظر عمن يحكم، يتطلب موافقة من مجلس الشيوخ، ومثل هذه الموافقة صعبة للغاية بسبب الخلافات حول حقوق الانسان وغياب المسائلة الديموقراطية. ولذلك دعا مسؤول خليجي بارز في حوار افتراضي قبل أيام مع مجموعة من الباحثين الأميركيين إلى ضرورة اعتماد واشنطن على مفهوم “الحوكمة الصالحة” كمعيار للتعاون الأمني الأوثق مع الدول الخليجية، وليس معيار الديموقراطية.
المصادر التي تحدثنا معها تقول إن إصرار السعودية والإمارات على الموقف الرافض لزيادة معدلات إنتاج النفط سوف يهدد مستقبل العلاقات مع واشنطن، ويسارع هؤلاء للتذكير بأن أسعار النفط تتأرجح دائما ويشيرون إلى الانهيار الكبير لأسعار النفط قبل سنتين فقط. كما ينبه هؤلاء من خطأ استغلال دول الخليج، أو غيرها من الدول “للخلل” المهيمن على الحياة السياسية الأميركية بما في ذاك خطأ “الاستثمار” بأي من الحزبين، في مثل هذه المرحلة الحرجة، لأن مثل هذه الاستثمارات تبقى عابرة ومكشوفة، ولا ينساها أولئك الذين يرون أنها كانت موجهة ضدهم.
وهذا يوصلنا إلى نقطة أخرى، من الصعب على بعض اصدقاء واشنطن القدامى التعايش معها أو قبولها كحقائق جديدة. ليس سرًا، أن هناك اشكالية في علاقات واشنطن مع الركائز الأربعة التقليدية التي بنيت عليها سياسة واشنطن في المنطقة الممتدة من جنوب آسيا إلى شمال أفريقيا، وخاصة بعد انهيار نظام الشاه في إيران وتحولها إلى دولة ثيوقراطية في 1979. وهذه الدول هي السعودية ومصر واسرائيل وتركيا. وباستثناء اسرائيل، ليس من المبالغة القول أن مصر وتركيا والسعودية أصبحت دولًا لا يوجد لها اصدقاء حقيقيين في أوساط الحزبين بشكل عام في الكونغرس، وحتى في الأوساط الاعلامية. هناك مكاتب علاقات عامة ولوبيات، ولكن نادرًا ما نسمع أصوات نافذة في الكونغرس تتحدث، عن قناعة، عن ضرورة صيانة العلاقات الثنائية مع تركيا لأنها تساهم في صيانة مصالح واشنطن في المنطقة ما يتطلب مواصلة المساعدات لأنقرة على سبيل المثال. والكلام ذاته ينطبق على مصر والسعودية. وحتى إسرائيل لم تعد تجد التأييد التلقائي والتعاطف شبه الأعمى مع سياساتها وممارساتها في المنطقة وخاصة في الأراضي المحتلة.
كل ما سبق يعني، أنه إذا أرادت هذه الدول بدء فصول جديدة من العلاقات الصحية والمثمرة مع واشنطن، عليها أن تدرك أولا أن “الخلل” الذي يهيمن على الحياة السياسية الأميركية، وحتى على المجتمع الأميركي يتطلب أن تتصرف هذه الدول بحساسية مفرطة، وأن تتفادى التحالفات المنفعية والآنية مع قادة هذا الحزب أو ذاك، لأن مثل هذه التحالفات سوف تبقى هشة، ويمكن أن تستخدم ضدهم عندما تتغير المعادلات في واشنطن.
انتخاب الرئيس بايدن دفع ببعض دول المنطقة في بداية ولايته للبحث عن صيغ عملية للتعاون مع حكومته تأخذ بعين الاعتبار أن انتقادات واشنطن لانتهاكات حقوق الإنسان في هذه الدول سوف تبقى مسائل خلافية. ولكن ذلك لا يمنع من تطوير أداء هذه الحكومات “للحوكمة الصالحة” التي تقضي بتفادي الانتهاكات السافرة لحقوق الانسان وادخال نوع من التوقعية predictabilityعلى العلاقة، والاتفاق على تحديد الالتزامات والتوقعات، وتفادي المفاجآت خلال الأزمات الحادة، مثل الخلاف الراهن بين واشنطن وكل من الرياض وأبوظبي حول انتاج النفط.
الخلافات بين الولايات المتحدة وكل من الإمارات والسعودية حظيت باهتمام لافت في الأوساط السياسية والأكاديمية. ومنذ اسابيع يعكف الباحث ستيفن كوك من مجلس العلاقات الخارجية، والديبلوماسي السابق وسفير واشنطن في اسرائيل مارتن انديك على كتابة دراسة سوف تصدر في الشهر المقبل عن المجلس تتضمن “توصيات عملية” لحل الخلافات بين الطرفين.
المصادر المطلعة تقول أن المعنيين بشئون الأمن القومي والعلاقات مع الدول الخليجية يقولون أنهم يعملون “على صفقة” بهذا الشأن يمكن الإعلان عنها خلال الأسابيع المقبلة. ويشير هؤلاء إلى زيارة الرئيس بايدن إلى اسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة في نهاية الشهر المقبل، والتي يمكن أن تتزامن مع إجراءات ومبادرات أخرى تتعلق باحتمال إعادة هندسة علاقات واشنطن المتوترة مع بعض أصدقائها الخليجيين.