الهجوم المفاجئ الذي شنته حركة حماس السبت الماضي، حين احتلت عشرات المواقع العسكرية والمدنية في جنوب إسرائيل ليومين أو أكثر، وأدى إلى مقتل أكثر من 1200 مدني وعسكري إسرائيلي، فجّر سلسلة من التغييرات والتطورات وردود الفعل الإقليمية والدولية التي ستخيم بظلالها الداكنة والثقيلة على الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، وربما على شعوب أخرى في المنطقة لسنوات طويلة، وربما لعقود. الجميع يعلم أين وفي أي وقت بدأ الزلزال، ولكن لا أحد يعلم أين وفي وقت سوف تنتهي تردداته العنيفة والمأساوية.
وحتى قبل أن تستعيد إسرائيل السيطرة على المناطق التي اجتاحها مقاتلو حماس، وقبل جمع ضحايا الهجوم الذي استهدف مئات المدنيين الإسرائيليين العزل – من بينهم أكثر من 260 شاب وشابة كانوا يحضروا حفلة موسيقية – بدء الطيران الإسرائيلي قصفه المكثف لقطاع غزة المكتظ بالسكان، وبدأ المدنيون الفلسطينيون هذه المرة يسقطون ضحايا الانتقام الإسرائيلي المتوقع. وخلال خمسة أيام تساوى عدد القتلى من الطرفين (1200 قتيل تقريبًا لكل طرف) في الوقت الذي واصل فيه العالم المصدوم مشاهدة وقائع مأساة معلنة.
أن تشن حركة حماس من قطاع غزة المحاصر والمحاط بجدران عالية، والخاضع لرقابة إلكترونية وبشرية دقيقة، هجومًا منسقًا برًا وبحرًا، وحتى جوًا عبر المسيرات، وأن تفاجئ القوات الإسرائيلية التي اخفقت في الرد السريع على مئات المسلحين الفلسطينيين، فقد اعتبر ذلك نكسة عسكرية مهينة لأقوى جيش في الشرق الأوسط. ولكن الخسائر المدنية الكبيرة، (البعض قال أنها الأسوأ منذ إعلان إسرائيل دولة مستقلة في 1948، أو منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973) ومئات الجثث التي بقيت لأكثر من يوم في العراء، وفي الشوارع والمنازل، إضافة إلى آلاف الجرحى، فقد ألحقت بالمجتمع الإسرائيلي صدمة نفسية هزته بصورة عميقة، ولن يكون من السهل التأقلم معها لفترة طويلة.
مراقبون أخرون قالوا إن الإخفاق الحقيقي والتاريخي كان إخفاقًا إسرائيليًا إنسانيًا عميقًا، تمثل في غياب إدراك حقيقة استحالة توقع بقاء الشعب الفلسطيني، الخاضع للاحتلال منذ أكثر من نصف قرن، يعاني من الاحتلال، والاحتلال بطبيعته مبني على نظام عنفي، إلى ما لا نهاية. أكثر من مراقب، متعاطف تقليديًا مع معاناة ومطالب الشعب الفلسطيني المشروعة، سارع لإدانة العنف العشوائي الذي أدى إلى قتل مئات المدنيين الإسرائيليين، والقول إن شرعية القضية الفلسطينية لا تبرر العنف العشوائي.
الأسئلة الإسرائيلية الكثيرة التي بدأ الإسرائيليون بطرحها في الساعات الأولى للهجوم امتزجت بمشاعر الغضب والاحباط تجاه السلطات السياسية والعسكرية لإخفاقها الذريع بحمايتهم. وسارع الكثيرون إلى الحديث عن اخفاق استخباراتي مماثل لإخفاق الاستخبارات في 1973 حين أخفقت في قراءة الاستعدادات العسكرية المصرية والسورية بدقة. آخرون قالوا إن الاخفاق الإسرائيلي يعود إلى مشاعر التقاعس والتهاون، وأن مشاعر التقاعس هذه نابعة من مشاعر الغطرسة المهيمنة على تفكير الطبقة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، التي استخفت بقدرات المصريين قبل حرب أكتوبر/تشرين الأول على اجتياز قناة السويس، واقتحام الدفاعات الإسرائيلية على الضفة الأخرى للقناة والمعروفة بخط بارليف. ويضيف هؤلاء ان الغطرسة الإسرائيلية ذاتها كانت ترى أن قوات مسلحة لميلشيا مثل حماس غير قادرة لوجستيًا وعسكريًا على شن هجوم منسق مماثل لما قامت به يوم السبت الماضي.
هجوم حماس لم يكن غير مسبوق عسكريًا فحسب، بل كان غير مسبوقًا بقسوته ودمويته، وبالسيطرة على ما يقّدر بين 130 و150 رهينة من مدنيين وعسكريين. ويعتقد أنه تم وضع الرهائن في مواقع مختلفة في القطاع لزيادة صعوبة الوصول إليهم. المسؤولون الأميركيون الذين كشفوا أن هجوم حماس قد أدى إلى قتل 22 أميركي، يُعتقد أن معظمهم من حملة الجنسيتين الإسرائيلية والأميركية، تحدثوا عن وجود 17 أميركي مفقود، ويُعتقد أن بعضهم من بين الرهائن. وجود الرهائن لدى حركة حماس سوف يُعقّد، وربما آخّر توقيت الاجتياح البري الإسرائيلي. من المتوقع أيضًا أن يؤدي ذلك إلى قيام الولايات المتحدة بدور استخباراتي ولوجستي أكبر لمساعدة إسرائيل على استعادة الرهائن.
خلال الأيام الأولى من المعارك، بدأت الولايات المتحدة بإعادة تسليح إسرائيل بالذخائر والصواريخ المضادة للصواريخ التي تحتاجها لإدارة “القبة الحديدية”، وخلال أقل من أسبوع وصلت أكبر حاملة طائرات أميركية، الحاملة جيرالد فورد مع السفن المرافقة لها إلى شرق المتوسط، وسوف تلحقها بعد أقل من أسبوعين حاملة الطائرات دوايت أيزنهاور مع السفن المرافقة لها لكي تكون قريبة من سواحل شرق المتوسط. هذه القوى العسكرية الضاربة مصممة لردع إيران وسوريا والميليشيات التي تدور في الفلك الإيراني، مثل الميليشيات العراقية وحزب الله اللبناني، لكيلا تتورط في القتال ضد إسرائيل لمساعدة حماس.
وللمرة الأولى استخدم الرئيس جوزيف بايدن لغة قوية ومباشرة في تحذيره لإيران وحلفائها للبقاء خارج القتال، وألمح إلى أن القوات الأميركية في المنطقة سوف تساعد إسرائيل إذا وجدت نفسها مرغمة على القتال على أكثر من جبهة، على الأقل من خلال توفير مساعدات تقنية وإلكترونية ولوجستية.
تزامن وصول أول حاملة طائرات أميركية لشرق المتوسط مع تشكيل حكومة وطنية في إسرائيل، واقترابها من شنّ هجوم بري ضد قطاع غزة، بعد أن أعلن وزير الدفاع الإسرائيل يوعاف غالانت فرض حصار شامل ضد القطاع وسكانه المدنيين، وحرمانهم من المياه والأغذية والأدوية والكهرباء والوقود، الأمر الذي سيخلق أزمة إنسانية خطيرة إذا لم يبدأ وصول المعونات الإنسانية الطارئة قريبًا.
تشكيل الحكومة الوطنية في إسرائيل وانشغالها بالهجوم البري المتوقع يعني تأجيل البت بالأسئلة الإسرائيلية الملحة حول محاسبة المسؤولين السياسيين والعسكريين عن الاخفاق الاستخباراتي والسياسي الكبير الذي أوصل إلى الكارثة. وكانت حكومة بنيامين نتنياهو – التي وصفها الرئيس جوزيف بايدن بالأكثر تطرفًا في تاريخ إسرائيل – قد واجهت على مدى عام تقريبًا تظاهرات شعبية عارمة ضد ما وصفه “اصلاحات” قضائية تهدف إلى إضعاف سلطات المحكمة العليا الإسرائيلية، لكي يتفادى نتنياهو المحاسبة نتيجة التهم الموجهة إليه بممارسة الفساد، ولإعطاء حكومته صلاحيات أوسع تؤدي إلى إضعاف الممارسات الديموقراطية. هذه التظاهرات هيمنت على الحياة السياسية في إسرائيل، ودفعت بالعديد من ضباط الاحتياط للتهديد بأنهم سيتوقفون عن التدريب العسكري احتجاجًا على سياسات نتنياهو وائتلافه.
ويشير العديد من المحللين أن مستقبل نتنياهو قاتم وقصير، بغض النظر عن التطورات الميدانية خلال الأسابيع القليلة المقبلة. ويشير هؤلاء إلى أن رئيسة وزراء إسرائيل خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول غولدا مائير، اضطرت إلى الاستقالة من منصبها بعد أشهر من انتهاء الحرب، التي تبعها تحقيق استخباراتي كبير لتحديد مسؤولية الاخفاق. آخرون أشاروا أيضًا إلى استقالة رئيس وزراء إسرائيل خلال غزو لبنان في 1982 مناحين بيغن، حين أدرك انه ورّط إسرائيل في غزو معقّد ومكلف.
أحد الأسئلة المطروحة بإلحاح وقلق، يتعلق باحتمال توسع رقعة الحرب، من خلال تورط حزب الله في القتال، الأمر الذي حذرّ منه الرئيس بايدن بقوة. حتى الآن، يقول المسؤولون الأميركيون في إيجازاتهم الخلفية أنهم لم يروا حتى الآن أي مؤشرات تبين أن حزب الله يعتزم التورط في القتال، ويعزون ذلك إلى أسباب كثيرة من بينها الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتدهورة في لبنان، والفراغ السياسي المتمثل في عدم وجود رئيس للدولة، ووجود رئيس وزراء لتصريف الأعمال، ولعمق الخلافات السياسية بين القوى اللبنانية. ولكن هذه العوامل قد لا تمنع من حدوث أخطاء في الحسابات، وسوء تقدير يمكن أن تؤدي بحسابات التصعيد المدروسة على الحدود لأن تفلت من السيطرة، وأن يواجه لبنان مأساة أخرى مماثلة لحرب 2006 بين حزب الله وإسرائيل.
الأسئلة الهامة والمحيّرة التي تركتها حركة حماس دون أجوبة هي: لماذا هذا الهجوم النوعي؟ ولماذا الآن؟ بعض المراقبين تساءلوا، لماذا تقوم حماس بهجوم نوعي ودموي غير مسبوق وشبه انتحاري وهي التي يجب أن تدرك مسبقًا أن رد الفعل الإسرائيلي هذه المرة سوف يكون أيضًا غير مسبوق بدمويته وشراسته. حتى الآن، هناك تكهنات أولية حول نوعية الهجوم، ولكنها لا ترقى إلى مستوى الأجوبة المقنعة. ولكن هناك تكهنات أكثر، ما يراه البعض جوابًا أوليًا، وهو أن الهجوم تم بتشجيع من إيران، وأن هناك احتمال كبير بضلوع طهران بدور عملياتي، على الرغم من أن المسؤولين الأميركيين يقولون أنهم لم يعثروا على مثل هذه الأدلة، على الرغم من تأكيداتهم المعروفة بأن إيران تسلح وتدرب وتمول حماس. التركيز على دور إيران وصل إلى مستويات متقدمة بعد أن نشرت صحيفة وال ستريت جورنال الأحد الماضي مقالا نسبت فيه إلى مسؤولين استخباراتيين أن مسؤولين عسكريين وسياسيين إيرانيين قد عقدوا سلسلة اجتماعات في بيروت في الأشهر الماضية مع مسؤولين من حماس وحزب الله للتحضير والتخطيط للهجوم. المسؤولون الأميركيون يقولون إن تحقيقاتهم مستمرة.
لماذا الهجوم في هذا الوقت؟ التكهنات وأكثر الأجوبة الأولية الشائعة تقول إن التوقيت مرتبط برغبة حماس – وايران وميليشياتها – بتقويض فرص نجاح المساعي الديبلوماسية التي تبذلها إدارة الرئيس بايدن، للتوصل إلى اتفاق سياسي بين السعودية وإسرائيل برعاية ومباركة أميركية، ويشمل ضمان تسليح السعودية، وتوفير ضمانات أمنية أميركية للرياض، وتزويدها بتقنيات نووية مدنية، مقابل قيام إسرائيل “بتنازلات” سياسية لصالح الفلسطينيين. ووفقًا لهذا التفسير، فإن أي تسوية سياسية بين السعودية وإسرائيل سوف تكون على حساب القضية الفلسطينية، لأن حكومة نتنياهو، حتى ولو قدمت بعض التنازلات للفلسطينيين، فإنها لن تكون كافية لتغيير نوعي في حياتهم السياسية بشكل جذري، وأن أي اتفاق يؤدي إلى التطبيع بين السعودية وإسرائيل سوف يحرر نتنياهو من أي ضوابط لكي يواصل الاستيطان في الأراضي المحتلة. وأخيرًا، التطبيع بين إسرائيل والسعودية، سوف يسهل على بقية دول العالم الاسلامي أن تطبع العلاقات مع إسرائيل بسبب أهمية السعودية في العالم الاسلامي.
بغض النظر عن الأسئلة الملحة والضائعة التي سيضطر الإسرائيليون والفلسطينيون للإجابة عليها، يمكن القول بكثير من اليقين وبقليل من التساؤل هو أن الحروب الأربعة التي خاضتها حماس وإسرائيل منذ سيطرة الحركة على قطاع غزة منذ 2007 لم تؤد إلى أي تغيير جذري في العلاقة بينهما. لا المقاومة المسلحة لحماس أدت إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ولا القمع الإسرائيلي العنيف أدى إلى القضاء على المقاومة المسلحة.