أثار قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بالاعتراف رسميا بالقدس عاصمة لإسرائيل إدانة شاملة من دول الخليج العربية. توافقت الحكومات والشعوب في اعتبار الإعلان استفزازي وغير قانوني وظالم. ومع ذلك، ما زال من الصعب التكهن بإجراءات ملموسة في الإعلانات الرسمية، وتلاشت وحدة الهدف في النقاشات العامة اللاحقة التي غالبا ما تثير الانقسام. وتعرضت السعودية لانتقادات بسبب علاقاتها الحميمة مع ترامب والتقارب الملحوظ، وخاصة في مجال التعاون الأمني، مع إسرائيل. وقد طغى الانتقاد الحكومي الموجهة للشقيقة الخليجية قطر و المنافسين الإقليميين تركيا وإيران على ذلك الموجهة للولايات المتحدة الأمريكية. وفي الوقت ذاته، فقد اقتصر الإحباط الشعبي على هاشتاغات وحملات على تويتر، حيث يبدو أن حكومات الخليج – باستثناء الكويت وحدها – مصممة على السيطرة على الخطاب العام في هذه المسألة الحساسة.
اتحدت دول الخليج في الإدانة الرسمية
لم تهدر دول الخليج سوى القليل من الوقت في إدانة قرار ترامب الذي رفع من جانب واحد ادعاء إسرائيل في مدينة يوقرها المسلمون ويسعى إليها الفلسطينيون كعاصمة مستقبلية لدولتهم المستقلة. في حين أصدرت السعودية بيانا من خلال البلاط الملكي، أصدرت كل من الكويت والإمارات العربية المتحدة وعمان بيانات رسمية من خلال وزارات الخارجية، وقدمت قطر قراءة للمحادثة بين الأمير القطري والرئيس الأمريكي. وقد تناول وزير الخارجية البحريني خالد بن أحمد آل خليفة هذه المسألة في الجلسة العامة لحوار المنامة السنوي، برفقة وزير الدولة للشؤون الخارجية أنور محمد قرقاش.
وقد ركزت جميع هذه التصريحات على أن قرار ترامب ينتهك حقوق الفلسطينيين التي يؤكدها القانون الدولي، ويضر بعملية السلام ودور الولايات المتحدة في قيادتها، ويدعم المتطرفين الذين يسعون إلى تقويض الاستقرار في المنطقة. وتشير الكثير من التصريحات إلى أن القادة قدموا المشورة لترامب ضد اتخاذ مثل هذا الإجراء وحثوا الإدارة الأمريكية على التراجع عنه. وانعكست هذه الإدانات في الاجتماع الطارئ الذي عقدته الجامعة العربية في العاشر من كانون الأول/ديسمبر وحضرته كافة دول الخليج.
وفي حين كانت الإدانة شاملة، فإن الخطوات الملموسة لمواجهة اعتراف الولايات المتحدة لم تتعدى طرح القضية على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي أدانه بالإجماع (باستثناء الولايات المتحدة). وقال المشاركون الخليجيون الرئيسيون ومن بينهم المملكة العربية السعودية أنهم سيرسلون ممثلين على المستوى الوزاري إلى قمة القدس التي ستعقدها منظمة التعاون الإسلامي في اسطنبول، مما حدا بوزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو إلى توبيخ الدول العربية على “ردودها الضعيفة”، حيث لم تتخذ أي تدابير عقابية ضد الولايات المتحدة ولم تهدد بذلك على الأقل. وعدا عن تصريح ولي عهد إمارة أبوظبي والحاكم الفعلي لدولة الإمارات العربية المتحدة، محمد بن زايد آل نهيان، متحدثا أمام وفد زائر، فإن حكام دول الخليج لم يتطرقوا للقرار في أي ملاحظات علنية.
الدفاع السعودي
وقد خضعت المملكة العربية السعودية لانتقادات خاصة في أعقاب الإعلان بسبب العلاقات الحميمة التي يتمتع بها قادتها مع ترامب وتطلعات خادم الحرمين الشريفين للعب دور القيادي داخل المجتمع الإسلامي. وتزايدت الشكوك بشأن التزام المملكة العربية السعودية بفلسطين عندما أعربت المملكة عن استعدادها للقيام بتنسيق أمني أوسع مع إسرائيل، حيث يتطلع كلا البلدين إلى مواجهة إيران بقوة أكبر. وكانت المزاعم بأن القادة السعوديين قد ضغطوا على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لتأييد خطة السلام التي تقودها الولايات المتحدة والتي تتطلب تنازلات غير مقبولة للجمهور الفلسطيني، قد أدت إلى ظهور هذه الشكوك على الملأ. وفي الوقت نفسه، أدت الزيارة سيئة التوقيت التي قام بها وفد بحريني للتقريب بين الأديان إلى إسرائيل في هذا الوقت الحساس إلى إثارة الغضب العام على دول الخليج وتواصلها المبدئي مع إسرائيل.
وكان التحول الاستراتيجي السعودي مصحوبا بتغيير غامض في التغطية الإعلامية السعودية لإسرائيل، مما ترك العديد من السعوديين يتساءلون عما إذا كان الجمهور مستعدا لمزيد من التطبيع مع الدولة اليهودية. ومن الأمثلة على ذلك مقابلة غير مسبوقة في صحيفة إيلاف السعودية مع قائد الجيش الإسرائيلي، الفريق غادي أيزنكوت؛ والانتقاد العلني للفلسطينيين من قبل المعلق الليبرالي المثير للجدل تركي الحمد؛ ودعم التطبيع من قبل الكاتب والإعلامي أحمد العرفج.
وأصبحت الحكومة السعودية والجمهور، بعد ذلك، في وضع دفاعي، تصد منتقديها على وسائل التواصل الاجتماعي بالهاشتاغات، والرسوم البيانية، والهجمات المضادة. وبلجوئهم إلى وسائل التواصل الاجتماعي سجل السعوديون دعمهم الواضح للفلسطينيين عبر الهاشتاغات على تويتر، مثل: #القدس_في_قلب_كل_سعودي، وأشرطة الفيديو للملك الراحل فيصل، المعروف بدعمه القوي لفلسطين، فضلا عن صور للجنود السعوديين الذين قاتلوا للدفاع عن فلسطين في عام 1948. وبعد أيام قليلة، ردت وزارة الخارجية السعودية برسوم بيانية عالية الجودة تشرح الموقف السعودي المعارض لاعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل، معددة تبعاته السلبية.
وقد رد الصحفيون السعوديون والمؤثرون في وسائل التواصل الاجتماعي على منتقديهم. واشتد النزاع السعودي القطري على وسائل التواصل الاجتماعي حيث ذكّر السعوديون أتباعهم بأن المملكة، على عكس قطر، لم تفتح حدودها للمخابرات أو السياح الإسرائيليين، ولم توقع اتفاقيات عسكرية، ولم تتخذ عضو كنيست سابق مستشارا رئيسيا. واستهدف آخرون تركيا والرئيس رجب طيب أردوغان طالبين منه قطع علاقاته مع إسرائيل قبل انتقاد السعودية. وهددت الاتهامات المتبادلة بتحويل الخطاب الخليجي العام من التعبير عن التضامن مع الفلسطينيين، إلى تقاسم اللوم والمسؤولية.
مظاهرات عامة
وباستثناء الحملات الإعلامية عبر الإنترنت وبرامج الحوار التلفزيونية، كان من الصعب العثور على ما يعبر عن الغضب الخليجي العام تجاه الولايات المتحدة ورفض إعلان القدس. تقليديا، تفضل أنظمة الخليج المَلَكية حصر نقاشات السياسة الخارجية في مستوى النخبة. في حين تتزايد قوة الشعبوية في المنطقة، من الواضح أن حكومات الخليج تريد أن تكون الصوت الوحيد في قضية القدس الحساسة، وهي مصممة على منع الآخرين من استثمار القضية سياسيا. في المملكة العربية السعودية، كانت صلاة الجمعة بعد الخطبة حميدة في محتواها ولم تركز على القدس. ولم يتطرق كبار الدعاة الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي حتى إلى ذكر هذه المسألة. وقد استرعى هذا الأمر انتباه النقاد.
لقد ساعدت هذه الفترة أيضا على توضيح القاعدة التي خسرها الجمهور الخليجي في حرية التعبير والتجمع منذ الربيع العربي. وأطلقت مراسلة إم بي سي (MBC) تغريدة ساخرة تنتقد فيها ردة الفعل الصامتة للجمهور السعودي. وقد كتب مفكر إماراتي كان يأمل في الحصول على تصريح من السلطات لعقد مسيرة سلمية في وقت لاحق على تويتر: “الظروف السياسية والأمنية العربية لن تسمح بمسيرات سلمية منددة بقرار نقل سفارة أمريكا إلى القدس، لذلك وكأضعف الإيمان مطلوب مشاركة شعبية واسعة في وسائل التواصل …” وكان الاستثناء الوحيد في الكويت، حيث مُنحت الجمعيات السياسية تصريحا لعقد مظاهرة جماهيرية، حضرها اليساريون والإسلاميون من السنة والشيعة. وقد أقام المنظمون الاحتجاج أمام البرلمان بعد أن منعتهم السلطات من الاحتجاج أمام السفارة الأمريكية.
إهانة غير مرحب بها
لم يجد قرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ترحيبا داخل دول الخليج العربية، وكان قرارا سيء التوقيت. تبحث العديد من دول الخليج عن سبل التعاون غير الرسمي مع إسرائيل لمواجهة إيران. وهم متلهفون للتعاون مع مبادرات السلام لحرمان المنافسين الإسلاميين والجهاديين من الالتفاف الجماهيري للقضية الفلسطينية. ويعمل إعلان ترامب على عرقلة هذه الجهود. وفي ذات الوقت، تؤدي الانقسامات الخليجية إلى تفاقم هذه المعضلات، وتبرز الأخطاء ويضيق نطاق النقاشات المعقولة. وفي حين أن حكومات الخليج وجماهيرها قد تكون موحدة في ازدرائها لهذا القرار من جانب واحد، فإنها لا يمكن أن تتحدث بصوت واحد، والفعل أقل من ذلك بكثير.