ألقت وفاة الصحفي السعودي جمال خاشقجي والريبة التي أثارتها رواية الرياض الرسمية عن الحادث بظلالها على خطط الإصلاح الاقتصادي في المملكة العربية السعودية. فقد قررت شخصيات كثيرة رفيعة المستوى الامتناع عن المشاركة في لقاء مبادرة مستقبل الاستثمار الذي يقام في الرياض هذا الأسبوع، ومن بينهم وزير الخزانة الأمريكية ستيفن منوشين ومديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد والمؤرخ النفطي دانييل يرغن والمدراء التنفيذيون لشركات “أوبر” و”بلاكستون” و”جي بي مورغان”.
وفي مقابل هؤلاء أشخاصٌ لا يزالون مصممين على الحضور، أمثال الرئيس السابق لشركة “داو كاميكل” أندرو ليفريس والمدير التنفيذي لشركة “سيمنز” جو كايسر. لكن الوضع يثير سؤالين من الناحية الاقتصادية: هل تنسف قضية خاشقجي الاستثمارات الأجنبية في المملكة، وهي الضرورية لنجاح مساعيها الإصلاحية؟ وهل يتأثر قطاع الطاقة السعودي البالغ الأهمية ودور السعودية الاستراتيجي في العالم؟
شهدت صورة المملكة العربية السعودية خلال السنتين الماضيتين انتعاشًا زاخمًا على الساحة الدولية. فالجولة التي قام بها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الولايات المتحدة، والصفقات التي أبرمت مع الشركات التكنولوجية والرأسماليين الاستثماريين أمثال ماسايوشي سان من شركة “سوفت بانك”، كما والبرنامج الطموح من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الذي تم إطلاقه، كلها ساهمت في تسليط الضوء على المملكة باعتبارها البؤرة الجديدة للاستثمار.
وحتى الآن تكللت رؤية 2030 بعدة فعاليات رفيعة المستوى من ضمنها مؤتمر “دافوس الصحراء”، وهو اللقب الذي أطلق على مبادرة مستقبل الاستثمار المقررة في تشرين الأول/أكتوبر 2017، إلى جانب تصريحات عن مبادرات عملاقة مثل طرح الأسهم المقترح من أرامكو السعودية ومدينة نيوم البالغة كلفتها 500 مليار دولار وتنامي دور صندوق الاستثمارات العامة وشرائه حصصًا في شركتَي “أوبر” و”تيسلا”، ناهيك عن مشروع الطاقة الشمسية المشترك مع شركة “سوفت بانك” لتوليد 200 جيجا واط.
إلا أن العديد من هذه الخطط الطموحة أُرجئ بسبب افتقارها إلى الأسس اللازمة. مع ذلك، فإن العنصر الأهم لنجاح المبادرات الكبرى، لا بل لمستقبل الاقتصاد السعودي، هو عملية الإصلاح الاقتصادي والتنظيمي التي لا هي مسلية ولا هي مبهرجة. وهي تزيد ثقة المستثمرين الأجانب والمحليين ككل في أمن مشاريعهم وربحيتها. على ضوء ما سبق، فإن تخطي المعضلة التي تواجهها المملكة العربية السعودية – على منوال القليل من الدول النفطية – ينقسم إلى ثلاثة أجزاء.
بدايةً، لا بد للدولة أن تنوّع اقتصادها. وهذا يعني بالتحديد أن نموها الاقتصادي بحاجة إلى مصادر لا تعتمد على قطاع النفط أو على تكرير الحكومة لإيراداتها النفطية. فحتى إذا توسع قطاع النفط، لن يتمكّن من تلبية الطموحات الاقتصادية للعدد المتزايد من سكان البلاد الأفتياء، لا بل سيواصل تعريض السعودية للتقلبات. وفي المستقبل ليس البعيد، تَعِد المبادرات المتخذة في مجال تغير المناخ كما وازدياد الآليات العاملة على الكهرباء بانخفاض أسعار النفط بالاقتران مع اضمحلال الطلب على النفط أو على الأقل جموده.
ولذلك لا بد أن تتأتى نسبة متزايدة من الإيرادات الحكومية والصادرات الوطنية عن القطاعات غير النفطية، وهذا يعني تطوير صناعات قادرة على منافسة الصناعات العالمية وتطوير خدمات قابلة للتبادل تدرّ فائضًا كافيًا لتأمين إيرادات ضريبية مادية. ويجب على القطاع الخاص أن يصبح المحرك الرئيسي لخلق الوظائف للمواطنين السعوديين.
ثانيًا، يجب على الحكومة أن تتغلب على التجاذبات بين تلك الأهداف. فزيادة الإيرادات الحكومية وخفض عجز الموازنة يعنيان خفض الإعانات الحكومية والرواتب الحكومية ووظائف القطاع العام مقابل رفع الضرائب، مع تحمّل خطر حدوث ركود ونشوب استياء شعبي. حتى الآن، تضمنت الزيادة في فرص عمل القطاع الخاص للسعوديين شروطًا خاصة بالمحتوى المحلي، ورسومًا على المغتربين، وحصصًا إلزامية من الموظفين السعوديين.
لكن هذه الخطوات تؤدي في الوقت نفسه إلى خفض أرباح الأعمال التجارية وبالتالي تردع الاستثمار الأجنبي المباشر. ومن وجهة نظر العديد من الدول، وفي ما يتعدى قطاع النفط، تعتبر السعودية سوقًا ملفتة إنما ليست جوهرية. فحجم اقتصادها يكاد يناهز حجم الاقتصاد السويسري، والنسبة غير النفطية من هذا الاقتصاد (نحو 56 في المائة) أقل بقليل من نسبتها في النمسا، في حين أن القطاع الفعلي غير النفطي وغير الممول من الإيرادات النفطية هو أصغر بعد، فنسبة 25 في المائة من الاقتصاد “غير النفطي” تتمثل بخدمات حكومية. وبسبب العوائق التجارية والمشاكل السياسية، لا تحظى سائر دول المنطقة بإمكانية الوصول إليها بالطريقة نفسها التي تفتح بها المكسيك المجال أمام أمريكا الشمالية.
بالتالي، لا بد من أن يتمثل العنصر الثالث بزيادة جاذبية المملكة ومؤاتاتها للأعمال بالنسبة للمستثمرين الدوليين والسعوديين على حدٍّ سواء. لكن هذه المهمة معقدة، ومن مقوماتها الرئيسية الارتقاء بجودة وسرعة البيروقراطية وعملية صنع القرار، وتعزيز الشفافية، وتحسين التعليم لتلبية احتياجات الاقتصاد الحديث القائم على المعرفة، وتقليل عدد الأنظمة ذات النتيجة العكسية كتلك المتعلقة بتأشيرات الدخول، وإقرار قانون الإفلاس الحديث (الذي دخل حيز التنفيذ في آب/أغسطس) واتباع سياسات موثوقة وغير مسيّسة في مجال الأعمال، والارتقاء بنوعية حياة المغتربين من أصحاب المهارات العالية، ورفع تنافسية الاقتصاد عبر الحد من بصمة الدولة ومجموعات الأعمال الأصيلة الكبرى، بالإضافة إلى الدفع قدمًا بخصخصة الأصول كالمطار ومحطات تحلية المياه والمطاحن والدوري الوطني لكرة القدم، وتقليص العوائق التجارية الإقليمية. ومن المحتم أن تلاقي بعض هذه الخطوات معارضة ومماطلة بيروقراطية.
بيد أن بعض الخطوات التي اتخذتها السعودية مؤخرًا، كمقاطعة كندا واعتقال عدد من شخصيات الأعمال البارزة المتهمة بالفساد والتهديد بمعاقبة الشركات التي تنأى بنفسها عن مبادرة مستقبل الاستثمار، فضلأً عن التأجيل الطويل في طرح أسهم أرامكو للاكتتاب العام، وبصرف النظر عن مبرراتها الأخرى، تثير المخاوف بشأن بيئة الأعمال.
وفي حال ارتدعت بعض الشركات الغربية، وخصوصًا تلك التي تتعامل مباشرةً مع العملاء وتلك العالية المستوى، بسبب تخوفها من سجل حقوق الإنسان في السعودية، فسوف يأتي المستثمرون الروسيون والصينيون ليحلّوا مكانها. ولكن ثمة ثغرات كبيرة في ما يستطيعون تقديمه، وبذلك لن يستطيعوا بمفردهم دعم رؤية 2030 بالشكل الكافي.
علاوةً على ذلك، لا يزال على الرياض الحفاظ على سلامة قطاع الطاقة البالغ الأهمية فيما تسعى إلى الإصلاح والتنويع الاقتصاديين على المدى الطويل. وسوف يظل هذا الأمر يستقطب الاستثمار في كل الظروف تقرييًا. فقد قال جو كايسر مدير شركة “سيمنز” التي تعتبر مزودًا كبيرًا لمعدات توليد الطاقة: “إذا امتنعنا عن التواصل مع الدول التي يختفي فيها الأفراد، فحريٌ بي البقاء في المنزل”. وفي وقت سابق من شهر تشرين الأول/أكتوبر، أبرمت شركة النفط الفرنسية الكبرى “توتال” عقد تصميم هندسي للمراحل الأولى من المحطة البتروكيميائية المقدرة بخمسة مليارات دولار في الجبيل ضمن مشروع مشترك مع أرامكو.
لكن الأحداث الأخيرة أثارت القلق إزاء تأثيرها على السياسات النفطية. وثمة تلميحات تشير إلى أن الولايات المتحدة قد تفرض العقوبات بسبب مقتل خاشقجي. فتداعيات هذا الأمر على سمعة المملكة مضرة في هذه المرحلة التي يروج فيها السعوديون لحملة مناهضة لمشروع قانون “نوبك” (قانون رفع الحصانة عن أوبك) الذي سيمكّن الولايات المتحدة من رفع دعاوى احتكار ضد أعضاء أوبك مع أنه من المستبعد أن يقرّ القانون. هذا ومن الممكن أن يتشجع أعضاء الكونغرس على إعادة النظر في القيود المفروضة على صفقات بيع الأسلحة إلى السعودية لدواعي حربها في اليمن.
ردًّا على التهديد بالعقوبات، كتب رئيس شبكة “العربية” الإخبارية تركي الدخيل مقالًا لمّح فيه إلى العقاب في القطاع النفطي. وبينما يُعرف عن الدخيل أنه مقرّب من العائلة الملكية السعودية، شدد المقال على أنه لا يمثل موقفًا رسميًا مع أن التدابير التي ذكرها تضمنت تخفيضًا في الصادرات من شأنه رفع سعر النفط إلى مئة أو مئتي دولار للبرميل والانتقال إلى اليوان الصيني في تسعير النفط. غير أن السوق لم تأخذ التلميح على محمل الجد، مع العلم بأن وزير الطاقة والصناعة والثروة المعدنية السعودي خالد الفالح اتخذ خطوة غير اعتيادية حين قام علنًا بطمأنة الأسواق الدولية إلى أن “السعودية دولة مسؤولة جدًا ونستخدم منذ عقود سياستنا النفطية كوسيلة اقتصادية تتسم بالمسؤولية ونفصلها عن السياسة”، مصرّحًا لوكالة أنباء “تاس” الروسية أنه “لا توجد نية” بتكرار الحظر النفطي الذي فرضته السعودية عام 1973. وفي السياق نفسه، غرّد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عدة مرات على موقع تويتر تصريحات ضغط فيها على منظمة الدول المصدّرة للنفط بفعل أسعار النفط التي اعتبرها عاليةً جدًا.
من المستبعد جدًا أن تكون أي عقوبات أمريكية بالقسوة الكافية للتسبب بتصعيد يصل إلى حدّ الرد في القطاع النفطي. والسر في المكانة الجيوسياسية التي تحتلها السعودية منذ فترة طويلة هو دورها كطرف مستقر وموثوق في أسواق النفط العالمية حين دخلت اللعبة مع زيادة الإنتاج النفطي خلال الاجتياح العراقي للكويت بين عامَي 1990 و1991 وخلال الاجتياح الأمريكي للعراق عام 2003.
ولم تَحِد السعودية عن هذه السياسية إلا مرة واحدة حين ترأست الحظر النفطي الذي فرضته عدة دولة عربية منتجة للنفط على الولايات المتحدة بعد حرب أكتوبر التي شنتها مصر وسوريا ضد إسرائيل. وعادت الصدمة النفطية الأولى الناتجة عن الحظر بأرباح مفاجئة هائلة على السعودية وغيرها من الدول النفطية الكبرى فساعدتها في بناء بنيتها التحتية الحديثة ولكنها شوّهت سمعتها لفترة طويلة حيث اعتبرت غير أهل للثقة في ما يخص التوريد وتسببت بكساد في العالم أجمع ودفعت بالدول الصناعية إلى بذل جهود مضنية لتنويع اقتصاداتها والابتعاد عن النفط عمومًا ونفط الشرق الأوسط خصوصًا. وإذا بالصدمة المضادة التي نجمت عن ذلك تؤدي إلى جمود اقتصادي دام قرابة العقدين في السعودية وإلى زيادة ديونها.
من هنا، لدى السعودية مصلحة كبيرة بالحفاظ على اعتدال أسعار النفط. فهي تأمل أن يبقى الطلب العالمي قويًا فتعوّض عن الخسائر المتأتية عن خصمها الإيراني لدعم سياسة العقوبات الأمريكية. وهي مضطرة إلى التوريد لشبكة عالمية متنامية من محطات تكرير النفط الخاصة بها في الولايات المتحدة والصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية، في حين أن توطيد علاقتها بالصين سيضعها تحت ضغط أكبر لتكون مورّدًا أهلاً للثقة. ولا بد للسعودية على المدى البعيد أن تتحاشى تحفيز تطور التكنولوجيات غير النفطية أو زيادة توسع الإنتاج النفطي في المجالات ذات الكلفة الأعلى. وقد بدأت أصلاً التخوفات من أن تكون طفرة أسعار النفط منذ آب/أغسطس في أعقاب تراجع الصادرات الإيرانية قد أثّرت على الطلب.
إذًا يمكن القول إن أسواق النفط تخطت مرحلة الخطر إلى حدٍّ كبير. فسعر خام برنت الذي ارتفع إلى 86 دولارًا للبرميل قرابة الوقت الذي انتشر فيه خبر اختفاء خاشقجي عاد اليوم إلى نحو 80 دولارًا للبرميل. والواقع أن الأحداث الراهنة، بمعزل عن الأمور الأخرى، لا تشكل بحد ذاتها تهديدًا جديًا على نفط العالم أو على خطط الإصلاح الطويلة المدى في السعودية. لكن الخطوة الجوهرية المطلوبة اليوم من السعودية هي التجاوب بنضوج وتقييم مصالحها الجوهرية بالشكل المناسب.