قوبل نبأ وفاة أمير الكويت صباح الأحمد الصباح بفيض تعازٍ من مختلف الأطياف السياسية في العالم العربي، وقد أشاد الكثيرون بمواقفه الثابتة من القضية الفلسطينية في مواجهة اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل من جانب دول الخليج المجاورة. وأشار كثيرون إلى دوره المؤثر في توجيه السياسة الخارجية للكويت منذ السنوات الأولى لاستقلال البلاد، ما أضفى عليها طابع العروبة. ولكونه صاحب أطول فترة كوزير للخارجية في تاريخ الكويت (1963-2003)، أشرف صباح الأحمد على ظهور الكويت وسيطًا في الخلافات العربية الداخلية وداعماً لمختلف القضايا العربية، سواء دبلوماسياً أو من خلال سياسة تقديم المساعدات.
ومع ذلك، وفي حين كان له دور بارز في هذا الصدد، إلا أن هنالك عوامل أخرى قد أثرت على سياسة البلاد الخارجية. إن تاريخ الكويت المتميز في بناء الدولة وتطور علاقتها مع المجتمع قد سمح بدرجة معينة من التأثير الشعبي على صناعة القرار. وتشكلت رؤية صباح الأحمد إلى حد كبير من خلال تعاطيه المستمر مع القوى الشعبية، بالإضافة إلى الطابع المميز للمؤسسات السياسية في الكويت. ومع رحيل صباح الأحمد، من المتوقع ألا تتغير سياسة الكويت الخارجية بشكل جذري، وستعكس باستمرار رأي الجمهور حول القضايا الرئيسية.
بدأت مسيرة صباح الأحمد السياسية في خمسينيات القرن الماضي، حيث لم تكن الكويت قد حصلت على استقلالها عن بريطانيا آنذاك. وكشفت الأدوار التي لعبها في المجال السياسي خلال تلك الفترة كيف توصل إلى تبني الأفكار العروبية في وقت مبكر. في بداية ذلك العقد، كان صباح الأحمد عضواً في مجموعة من الشيوخ الشباب المتأثرين بأفكار الحداثة والعروبة. كانوا آنذاك مقربين من حاكم الكويت، عبد الله السالم الصباح، الذي كان المهندس الرئيسي للنظام الدستوري الكويتي بعد الاستقلال في عام 1961. كما أقام الشيوخ الشباب تحالفات مع المعارضة القومية العربية في الكويت لكسب التأييد الشعبي في خلافهم مع كبار أفراد الأسرة الحاكمة. في عام 1954، عيّن الحاكم صباح الأحمد في اللجنة التنفيذية العليا، وهي هيئة حكومية لم تعمر طويلاً تولت مهمة الإصلاحات الإدارية.
خلال هذه الفترة المبكرة، كان صباح الأحمد أيضاً على صلة وثيقة بأخيه الأكبر غير الشقيق، جابر الأحمد الصباح، الذي حكم من عام 1977 إلى عام 2006. وغالباً ما كان يشير البريطانيون، في الخمسينيات، إلى ميول الأخوين العروبية والتقدمية، ومناهضتهما للاستعمار. وذكر تقرير بريطاني صدر عام 1957 أنهما كانا سياسياً على “يسار” الوسط داخل الأسرة الحاكمة، وأضاف التقرير أنه من المرجح أنهما يفضلان “مراجعة أو إلغاء العلاقة التقليدية مع بريطانيا”. ويشير تقرير آخر إلى أن الشيوخ الشباب كانوا “يتقبلون أفكار الجيل الصاعد من الكويتيين… بالإضافة إلى الأفكار الآتية من الخارج”، بمعنى التأثيرات العربية الخارجية. كما تحدث مسؤولون بريطانيون عن “تعاطف” هؤلاء الشيوخ مع “الأفكار التقدمية والمطالب الدستورية” للمعارضة، معتبرين ذلك “نقطة ضعف” داخل الأسرة الحاكمة. كما سلطت المراسلات البريطانية الضوء على تأثُر صباح الأحمد بالناصرية خلال تلك الفترة، واصفة إياه بـ “أكثر الشيوخ تأييداً لمصر”.
في عام 1956، تولى صباح الأحمد مهام إدارية أوسع بتعيينه رئيساً لدائرتي المطبوعات والنشر (التي أصبحت لاحقاً وزارة الإعلام) والشؤون الاجتماعية. كان هذا المنصب الجديد هو ما بلور أفكار صباح الأحمد العروبية. لاحظ البريطانيون أن دائرة الشؤون الاجتماعية، التي يديرها خريجون كويتيون شباب ومستشارون مصريون، “تفتخر منذ الأيام الأولى بكونها… في ركاب النهضة العروبية الحقيقية”. كما اشتهرت دائرة الصحافة والنشر بميولها للقومية العربية. وبدأت، تحت قيادة صباح الأحمد، بإصدار المجلة الأدبية والثقافية “العربي” في عام ،1958 والتي ما تزال مستمرة حتى يومنا هذا. أبدت المجلة مشاعر قوميةً قوية، حيث أعلنت دائرة الصحافة والنشر أنها تطمح لأن تقدم “لسائر أبناء العروبة خدمة قومية”. كما أشرف صباح الأحمد على الصحيفة الرسمية “الكويت اليوم”، التي نشر فيها آراء قوية حول القضايا العربية، مثل تشكيل الجمهورية العربية المتحدة والثورة الجزائرية. وهكذا فإن صباح الأحمد كان يحمل أفكاراً عروبية قوية قبل أن يصبح وزيراً للخارجية.
تحت قيادة صباح الأحمد، امتازت السياسة الخارجية للكويت في العقود الأولى بعد الاستقلال بالتقدمية والقومية ومناهضة الاستعمار. وقد انخرطت في علاقات مع الحكومات الجمهورية والحركات الشيوعية والثورية، بما في ذلك بعض الحكومات التي نظرت إليها دول الخليج الأخرى بعين الريبة، مثل اليمن الجنوبي. كما توسطت الكويت بشكل فاعل في النزاعات بين الدول العربية، ولا سيما التوترات بين السعودية ومصر. علاوة على ذلك، قاومت الكويت بعض أشكال النفوذ الغربي في المنطقة. وغالبًا ما كانت مواقف الكويت القومية العربية القوية تسمو على مواقف دول الخليج العربية الأخرى. على سبيل المثال، خلال الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973، كان للكويت دور ريادي في سياسة حظر النفط من خلال استضافة مؤتمر منظمة الدول العربية المصدرة للنفط في أكتوبر/تشرين الأول، الذي تم خلاله اتخاذ قرار بزيادة أسعار النفط وتخفيض الإنتاج. كما عارضت البلاد رسمياً تحرك الرئيس المصري أنور السادات لإلغاء الحظر، بينما تصاعدت التوترات بين الكويت والمملكة المتحدة والولايات المتحدة بسبب مواقفها المؤيدة للفلسطينيين.
ومع ذلك، لم تكن سياسة الكويت الخارجية ناتجة عن الرؤية الشخصية لصباح الأحمد فقط، بل يجب وضعها في السياق التاريخي لتطور المؤسسات في البلاد والعلاقات بين الدولة والمجتمع. وتجادل الكثير من الدراسات حول السياسة الخارجية لدول الخليج بأن الديناميكيات المحلية تلعب دوراً ضئيلاً في صياغة رؤى صناع القرار. وعلى الرغم من أن الكويت، مثلها مثل دول الخليج الأخرى، لديها نظام وراثي يوفر القليل من السبل الرسمية للجمهور للمشاركة في صنع القرار، إلا أن هنالك مساحات للحوار غير الرسمي بين النخبة الحاكمة وأفراد المجتمع.
ويشير التاريخ الشفوي للكويت إلى أن طبقة التجار القوية في الكويت هي التي انتخبت عائلة الصباح كحكام للبلاد، ما جعل الأسرة الحاكمة هي الأولى بين أنداد متساوين. كان لهذه السردية أثرها في إنشاء هيئات منتخبة مختلفة في تاريخ الكويت. واستمرت الصبغة التمثيلية المبكرة للحكومة في الكويت في تحديد معالم السياسة حتى بعد اكتشاف النفط، وقد بلغت هذه السياسة ذروتها بإنشاء النظام البرلماني الكويتي عقب الاستقلال. وبالرغم من أن العلاقات بين الدولة والمجتمع كانت في كثير من الأحيان بعيدة كل البعد عن الانسجام، وتضمنت فترات من القمع السياسي، إلا أن إرث الحكومة التشاورية هذا أثر على عمليات صنع القرار في السياسة الخارجية للكويت. لقد سهّل هذا الإرث من حركة أفكار القومية العربية بين المجتمع وصناع القرار ومكن عناصر القومية العربية من المشاركة في الحكومة. على سبيل المثال، أصبح جاسم القطامي أول وكيل لوزارة الخارجية، وقد كان أحد قادة حركة القوميين العرب المعارضة.
ومن العوامل الأخرى التي ميزت الكويت عن الدول الخليجية المجاورة هو دور بريطانيا المحدود نسبياً في الإدارة الداخلية، ما سمح للدولة بالاعتماد على المساعدة التقنية العربية بدلاً من ذلك. فبدءًا من عام 1942، قامت الحكومة المصرية بإيفاد المعلمين إلى الكويت، وأوفدت لاحقًا القضاة والأطباء وخبراء آخرين. بعد عام 1948، تولى عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين ذوي المهارات العالية مناصب قيادية في الحكومة. وشجعت هذه البيئة على انتشار أفكار القومية العربية في المؤسسات الحكومية.
أسفرت هذه الديناميكيات المؤسساتية والمجتمعية عن جعل الكويت مركزًا للنشاط القومي العربي، الذي لم يظهر بين الجمهور الكويتي فحسب، بل ظهر أيضًا عند بعض فئات الأسرة الحاكمة في الكويت. وقد بدأ صباح الأحمد حياته المهنية في الحكومة عندما كانت أفكار القومية العربية متمكنة من البلاد بقوة، والتحق بالمدارس نفسها التي يلتحق بها الكويتيون الآخرون، وشارك في أنشطة ثقافية مماثلة، وهكذا ارتبط بالأفكار والتوجهات الشعبية. وهذا ما بلور طريقته في قيادة وزارة الخارجية الكويتية ومن ثم البلاد.
وعلى الرغم من أن ذروة القومية العربية في الكويت والمنطقة قد ولّت منذ زمن بعيد، إلا أن الاهتمام الشعبي بالقضايا العربية، وقضية فلسطين على وجه الخصوص قد أجبر الحكومة الكويتية على الاستمرار في التمسك بمبادئ معينة. يبدو أن هذا سيستمر، ويتضح هذا من البيان الأخير الذي وقعه 37 برلمانياً كويتياً برفض تطبيع العلاقات مع إسرائيل. ولا يزال الكويتيون يؤيدون دور بلادهم كوسيط سياسي في المنطقة، لذلك من المرجح أن تستمر في لعب دور في الوساطة في المفاوضات بشأن أزمة الخليج الحالية، إضافة إلى الصراعات الإقليمية مثل الحرب في اليمن.
وعلى الرغم من وجود توترات بين الحاكم الراحل والمعارضة منذ انتفاضات الربيع العربي عام 2011، التي أدت إلى سنوات من الأزمة السياسية، إلا أن المشاعر الشعبية بشأن هذه القضايا كانت لها تأثير مستمر على سياسات صباح الأحمد. إن البنية المؤسساتية الجوهرية للنظام السياسي في الكويت لم تتغير بشكل ملحوظ منذ أيام الاستقلال الأولى، حيث أن اشتراط مصادقة البرلمان على المعاهدات وحقه في استجواب الوزراء سيجعل من الصعب على الكويت تغيير مسار السياسة الخارجية. ومازال النظام البرلماني الكويتي يشجع أفراد الأسرة الحاكمة على تشكيل تحالفات مع القوى الشعبية لتعزيز مواقفهم السياسية. وفي ظل تطبيق هذا النظام، سواء في عهد الأمير الجديد أم أيٍّ ممن سيتبعه، فإن التأثير الشعبي سوف يواصل لعب دورٍ في رسم معالم السياسة الخارجية للكويت.