لقد كُتب الكثير عن رؤية 2030، خطة السعودية الطموحة لمستقبل أقل اعتمادًا على العائدات النفطية، ولكن الاستثمار في قطاع السياحة يمثل أبرز هذه الجهود الضخمة التي تبذلها المملكة للتنويع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في البلاد، حيث من المتوقع أن تستثمر السعودية تريليون دولار في صناعة السياحة على مدى السنوات العشر المقبلة. وفي حين أن تكاليف بناء البنية التحتية الحيوية تمثل حصة الأسد من هذا المبلغ المهول، فإن إحدى النتائج المرحب بها لهذا التوسع في صناعة السياحة هي الالتزام الفعال بالحفاظ على التراث الثقافي في جميع أنحاء المملكة. فمواقع التراث العالمي لليونسكو، مثلًا، تُعد وجهات محتملة للسياح المحليين والدوليين، وقد استحوذت هذه المواقع على جهد وتمويل كبيرين في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، فإن إعادة ترميم بنى القرى المتداعية، والتنقيب عن القطع الأثرية المدفونة غير كافيين في حد ذاتهما لجذب الزوار وتثقيفهم. وبالتالي، وفي خطوة استراتيجية، قد استثمرت المملكة في قطاع الفنون إلى جانب مشاريع حفظ التراث، مما أدى إلى إحياء المناطق المحلية التي تتمتع بتاريخ عريق متعدد الأزمنة، من عصور ما قبل الإسلام حتى يومنا هذا. ويعد مهرجان ليالي القيصرية في مدينة الهفوف في المنطقة الشرقية في السعودية، مثالًا كاشفًا لتجاوز أجندة الفنون والأنشطة الترفيهية حدود المدن الرئيسية.
الأحساء: واحة المنطقة الشرقية
تعتبر المنطقة الشرقية، التي تمتد من ساحل الخليج إلى صحراء الربع الخالي، أكبر مناطق المملكة من حيث المساحة. وقد سيطرت صناعة النفط فيها على الاقتصاد المحلي منذ أن اكتشفت شركة أرامكو احتياطيات نفطية واسعة في مدينة الظهران في أوائل القرن العشرين. ومع ذلك فقد وجهت السعودية، تماشيًا مع التزامها بتوسيع قطاع السياحة بحلول عام 2030، الاهتمام والاستثمارات إلى المنطقة الشرقية، خاصة إلى محافظة الأحساء المدرجة في قائمة اليونسكو للتراث العالمي نظرًا لمحيطها الثقافي المتنوع. كما تعد الأحساء موطنًا لأكبر واحة في السعودية ترويها احتياطيات المياه الجوفية العذبة، وقد دعمت تربتها الخصبة الحضارة البشرية عبر القرون داخل هذه المنطقة القاحلة. وكانت الأحساء في الماضي موضع تنازع بين مختلف القوى المتنافسة، من بينهم البرتغال والعثمانيون، بسبب موقعها الاستراتيجي على الطرق التجارية التي امتدت إلى العراق والهند. واليوم تحتوي الأحساء على مواقع أثرية وتكوينات جيولوجية فريدة من نوعها فضلًا عن كونها منطقة زراعية نشطة.
وتشمل المواقع المعمارية المهمة في مدينة الهفوف، عاصمة المنطقة الشرقية، قصر إبراهيم، الذي كان يستخدم في السابق كثكنات عسكرية للعثمانيين، وقلعة العقير وسوق القيصرية، أحد أقدم الأسواق في المملكة. ويستضيف الآن هذا السوق، الذي يقال إنه بني في عام 1822، ورمم بعد حريق مدمر في عام 2001، مهرجان ليالي القيصرية. يضم هذا المهرجان عروض الموسيقى والرقص التقليديين وألعاب الأطفال، فضلًا عن الفنون والحرف اليدوية. وكان قد تم الإعلان عنه على نطاق واسع في عام 2022 باعتباره مقصدًا محتملًا للسياح الأجانب الوافدين إلى كأس العالم في الذي نظمته قطر.
ليالي القيصرية
يقام مهرجان ليالي القيصرية، الذي يستمر لشهرين، في قلب السوق المكشوف المضاء بالخيوط المُنارة والمصابيح الملونة للأبنية المحيطة به. وكانت شعبية المهرجان، خلال زيارة له في أوائل يناير/كانون الثاني، واضحة على الفور، حيث تواجد عدد كبير من الزوار، ومعظمهم من العائلات، الذين كانوا يتدافعون في الساحة وهم ينتقلون من عرض إلى آخر. وفي وسط الحشد، كان الأطفال يلعبون في قسم خاص بهم لعبة “بط بط أوز” المتداولة، وبجانبهم جمع من الأطفال المتحمسين ينتظرون دورهم بصبر للانضمام إلى الجولة التالية في اللعبة، على وقع صوت الطبلة الذي اختلط مع موسيقى الرقصات التقليدية المحلية القادمة من مسرح قريب. وكان الرجال يتمايلون على الإيقاع المدوي لطبول البندير، وفي أيديهم أدوات الحصاد، ويحاكون الحركات الشاقة لعمال حقول الحبوب التي تشتهر بها الأحساء. بعدها، رقصوا رقصة الحرب مستبدلين أدوات الحصاد بالبنادق، وكانوا يتمايلون بنفس النمط المتعمد الذي تتميز به الرقصات الخليجية. وامتلأت المقاعد بالنساء والأطفال الذين كانوا يأملون في رؤية الرقصات من فوق رؤوس الحشد الهائل. في الطرف الآخر من الساحة، كان عازفا قانون وعود يعزفان على مسرح دائري لمجموعة كانت واقفة تغني معهم أغاني محلية مألوفة. وأظهر مشهد الأطفال الذين كانوا يرقصون ويركضون وسط الحشد، مدى جاذبية المهرجان للعائلات المحلية أو الآتية من مناطق في المملكة على حد سواء. لم يكن هناك حضور واضح للسائحين الأجانب في المهرجان، مما يشير إلى أن العروض الترفيهية التي تنظمها المملكة تُبرز الاختلافات الثقافية المتباينة عبر المناطق السعودية.
الحفاظ على التراث في أقاصي البلاد
لم يكن من الممكن تصور مشهد مهرجان ليالي القيصرية قبل عقود قليلة فقط، حين كانت الحفلات الموسيقية والمساحات العامة المختلطة محظورة. هذا المهرجان هو خير دليل على تقبل المجتمع للتحولات التي بشرت بها رؤية 2030. فالمهرجان باعتباره وليد جهود متضافرة عبر مستويات الحكومة المختلفة، قد أبدى التزامه بالتقاليد الاجتماعية لجمهور يعتبر بشكل عام محافظًا ومتمسكًا بقيمه الأسرية، وذلك من خلال الاعتزاز بالتراث الثقافي المميز لمدينة الهفوف. وبالتالي يبدو أن الاستثمار في التراث، المقترن بالفنون والأنشطة الترفيهية، بعيدًا عن المدن الكبرى قادر على جذب العائلات والسياح المحليين لدرجة أن أعدادهم الكبيرة تتجاوز قدرة هذه المساحات التاريخية على استيعابها. ومع استمرار جهود السعودية في تطوير الأحساء، والترويج لها كوجهة سياحية، وتمويل الأماكن السياحية كمشروع نُزل إنفي النخيل البيئية على سبيل المثال، من المرجح أن تنمو السياحة الأجنبية في المملكة كذلك.
يبدو الاستثمار السعودي في الفنون والثقافة جليًا ليس في تنظيم الأنشطة المذهلة للمواهب والفعاليات العالمية في الرياض وجدة فحسب، بل في الجهود المتضافرة لتقديم العروض الترفيهية للجمهور المحافظ أيضًا. وتشمل هذه الفعاليات المتنوعة المناطق المختلفة، من حفلة بيعت تذاكرها بالكامل للمطربين السعوديين محمد عبده وخالد عبد الرحمن في قرية المذنب التاريخية بمحافظة القصيم، إلى المهرجانات الدورية في هبالةوالطائف ومناطق أخرى. فالحكومة تعمل بمستوياتها المختلفة على ضمان تحقيق رؤية 2030 حتى في أقصى أركان المملكة الشاسعة، ليس من أجل السياح الأجانب وحسب، بل للزوار المحليين كذلك.
مع اقتراب عام 2024 من نهايته، لا يزال عدم اليقين يخيم على أسواق النفط بسبب المخاطر الجيوسياسية، وضعف الطلب الصيني الذي جاء أقل من المتوقع، والتطورات المتعلقة بالتحول في مجال الطاقة.
مع سعي ترامب لتحقيق زيادة هائلة في إنتاج النفط والغاز الأمريكي، وعرقلة صادرات النفط الإيرانية، فإنه لن يتردد في التدخل بقوة في سوق النفط.
ادعمنا
من خلال تفحصها الدقيق للقوى التي تعمل على تشكيل المجتمعات الخليجية والأجيال الجديدة من القادة الناشئين، يعمل معهد دول الخليج العربية في واشنطن على تسهيل حصول فهم أعمق للدور المتوقع أن تلعبه دول هذه المنطقة الجيوستراتيجية في القرن الحادي والعشرين.