عندما تنخفض ميزانية العائلة، غالبًا ما يكون العشاء خارج المنزل والسينما ووسائل الترفيه الأخرى أولى النفقات التي يتم التخلص منها. لكن في المملكة العربية السعودية، يصحب التقشّف توجّهٌ نحو تعزيز أنشطة كانت محظورة من قبل في المملكة المحافِظة. فبعد جدول افتتاحي تضمّن حفلات موسيقية وكوميك كون وسيارات وحشيّة، تُضاعف الهيئة العامة السعودية للترفيه رعايتها للأحداث التي تصل إلى خمسة آلاف حدث في العام 2018. وقد أعلن رئيس الهيئة أحمد بن عقيل الخطيب عن خطط لاستثمار 64 مليار دولار في قطاع الترفيه خلال العقد القادم، وتباهى بأنّ وحده الإنفاق على النفط والدفاع سيتفوّق على قطاع الترفيه في أولويات الميزانية.
ومع أنه من المستبعد أن يتفوّق الترفيه على الصحة والتعليم من حيث الإنفاق، إلا أنّ الاهتمام الجديد بهذا القطاع يبقى ملحوظًا. إذ تمثّل النزهات الاجتماعية المختلطة ودور السينما المفتوحة والفنون المسرحية تبدلاً جذريًا عن الماضي عندما كان السعوديون يبحثون عن وسائل التسلية في الأماكن الخاصّة أو في الخارج. فما الذي يفسّر حماس الحكومة الجديد تجاه التسلية؟
شباب السعودية الضّجِر
ما من شكّ في أنّ طلب جيل الشباب هو الذي يقود هذا التغيير. فأثناء إجراء الأبحاث حول النشاط الشبابي في المملكة العربية السعودية بين عامي 2011 و2015، كانت المبادرات التي يقودها الشباب متواجدة في كبرى مدن المملكة، من مجموعات السير الرياضي ودوائر القراءة وتحرّكات المسارح غير العلنية إلى مبادرات الإصلاح الاجتماعي والمساعي الخيرية. وقد قامت مجموعات فنية مستقلة مثل “إدج أوف أرابيا” (Edge of Arabia) في أبها والمجلس الفني السعودي في جدة بتنمية المواهب وتوفير فرص الظهور الدولية للفنانين البصريين والتشكيليين السعوديين. وقد جمعت مجموعات يوتيوب الناجحة للغاية تلفاز 11 (Telfaz11) في الرياض ويوتيرن (UTURN) في جدة بين الثقافة المحلية والكوميديا، مستعرضةً كلاًّ من مواهب السعوديين الإبداعية وقدراتهم التجارية.
وما حفّز جيل الألفية الذي يقف وراء هذه المشاريع هو رغبته في الاتصال وامتلاك هدف في الحياة، وأيضًا الملل المطلق. فقد كانت الحياة العامة مقيدة وفارغة جدًا لدرجة أنّ إحدى المجموعات التي تنظّم محادثات “تيد” TED في الرياض وجدت قاعة اجتماعاتها مكتظة مع توافد آلاف الشباب السعوديين الذين سعوا للحضور. ولكن بالرغم من كل مساعي المنظّمين الشباب السعوديّين، غالبًا ما كانوا عرضة لاستهداف الحركات الدينية ولاستجواب وزارة الداخلية.
بالإضافة إلى ذلك، أدّى الصعود السريع لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ذي الـ32 عامًا إلى وصول شخص من الألفية نفسها إلى السلطة، وهو شخص متجاوب جداً مع التحول الثقافي الذي يحدث في المملكة ومع التقنيات المتصلة بالإنترنت والمحمولة التي تتوسّط اتصالات الشباب السعودي وطموحاته. وإدراكًا منه لوجود مجموعات مؤيدة للتغيير، سعى على الفور إلى استخدام تلك الطاقة الشبابية في خططه الهادفة إلى التّحول الاقتصادي والسياسي. فالترفيه في المملكة العربية السعودية أكثر من مجرّد تسلية وألعاب، بل هو أداة لفتح باب الاقتصاد وجذب فئة ديموغرافية رئيسية، ولتحرم الحركات والمؤسسة الدينية الّتي كانت متحالفة سابقًا من سيطرتها على عامة الشعب.
الرهان على اقتصاد الفنون والترفيه
تصوّر الخطة السعودية للتنويع الاقتصادي، أيّ رؤية السعودية 2030، دورًا بارزًا للسياحة والترفيه. فهما مدمجان في برنامج صندوق الاستثمارات العامة السعودي بعدد من الطرق وهي: من خلال إنشاء شركة ترفيهية جديدة لتنظيم الفعاليات والإشراف على الاستثمارات، ومن خلال مشاريع البنية التحتية السياحية، وباعتبارهما محور التركيز الرئيسي في مشروعين ضخمين هما منتجع سيتمّ بناؤه على ساحل البحر الأحمر الأقرب إلى موقع مدائن صالح الأثري، ومدينة القدية الترفيهية التي تضم حدائق ترفيهيّة ومنازل للعطلات والمزمع بناؤها جنوب غرب الرياض. فالحكومة تريد أن تتحكم بالطلب على الأنشطة الترفيهية الذي كان مقموعًا بسبب القيود الاجتماعية المفروضة وأن تشجّع الإنفاق الأسري على وسائل الترفيه لكي ترتفع نسبته من 2.9 إلى 6 في المائة.
أمّا من ناحية العرض، فتعتقد الحكومة أنّ الاستثمار العام، إلى جانب الاستثمار من الشركاء الاستراتيجيين العالميين، سيحفّز اهتمام القطاع الخاص. فهناك ثقة في أنّ قطاع الترفيه سيخلق فرص العمل ويوفّر الفرص للشركات الصغيرة أو المتوسطة الحجم، وأنّ المساعي الأكثر إبداعيةً ستجذب بوجه خاص الشباب السعودي.
والتوجه نحو المحلية هو هدفٌ معلن. إذ سعت مشاريع عدة مثل المبادرة الوطنية السعودية للإبداع إلى تصنيف السعوديين المشاركين في المجالات الإبداعية وتسجيل العوائق التي تحول دون توسّعهم، في حين أنّ المؤسسات مثل مؤسسة محمد بن سلمان، مسك (MiSK)، قد وضعت لهم برامج وفرص لتطوير مواهبهم. وتعتبر مشاركة السعوديين في ابتكار فنونهم ووسائل الترفيه الخاصّة بهم أمرًا مهمًّا، ليس من المنظور الاقتصادي فحسب، بل أيضًا لتعزيز هوية وطنيّة جديدة أقل اعتمادًا على التقاليد الإسلامية التي نظّمت توعية الشباب لعقود.
عزل الشبكات الإسلامية
ثمة محتوى سياسي غير ملحوظ للانفتاح الاجتماعي في المملكة. فالحرمان من الفنون والترفيه لم يكن نتيجة العقيدة الإسلامية في المملكة فحسب، بل ساعد أيضًا في تشكيلها. فقد لجأ الشباب السعودي المحروم من الرياضة والترفيه ومن النزهات الاجتماعية العادية إلى شبكات إسلامية غير نظاميّة بحثًا عن الرفقة والمشاركة العامة. وقد هيمنت هذه الحركات على البرمجة الشبابية للأنشطة ما بعد المدرسة والمخيمات الصيفية ، بدعم ضمني من الدولة.
ومنذ عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز، تم تقليص هذه الأنشطة وتقلّصت المساحة المخصصة للتنظيم المستقل، خاصة منذ إصدار قانون الإرهاب الجديد لعام 2014 الذي يجرّم جماعة الإخوان المسلمين. وفي ظلّ حكم الملك سلمان بن عبد العزيز، تم سجن شخصيات إسلامية بارزة من جماعة الإخوان المسلمين وشبكات السّروريين المنافسة لها بالإضافة إلى المزيد من الإصلاحيّين اللّيبراليّين.
وتشكّل مساعي التّرفيه جزءًا من جهد بنّاء لعزل جاذبية الإسلاميين للشباب من خلال تقديم بدائل، وهي بمثابة الجزرة التي تقدمها الحكومة للمواطنين في نفس وقت استخدامها للعصا ضد الشبكات الإسلامية المنظمة. وفي زيارة أخيرة مع وزير التعليم السعودي أحمد العيسى، قارن الوزير بين نهج إيجابي للمشاركة وبين الرقابة التقليدية من خلال “أمن الفكر”. ولهذا الغرض، بدأت شركة تطوير للخدمات التعليمية التعليم (Tatweer) السعودية في إنشاء نواد للأحياء في جميع أنحاء المملكة لتقديم أنشطة خارج المناهج المدرسيّة مثل الرياضة والمسرح. فإذا بالمنظمات الإسلامية غير الحكومية، مثل الندوة العالمية للشباب الإسلامي التي شجعت الجمعيات الخيرية الإسلامية والتّماهي مع المجتمع الإسلامي الأوسع، ترى أنشطتها المحلية تتقلّص فيما كانت “مسك” تشرك الشباب السعودي من خلال برامج متعددة في الفن والإعلام الرقمي والكتابة الإبداعية.
وكذلك تقدّم الأنشطة الترفيهية والاستثمارات المستقبلية الّتي توفّرها الهيئة العامّة للترفيه أداة رائدة أخرى لدفع هذا التغيير الثقافي. فعروضها المتنوعة تقوم بالتّرفيه ولكنّها تغيّر أيضًا المعايير العامة، فتفسح المجال أمام الموسيقى والفن وتشرك النساء أكثر في الحياة العامة.
تخطّي الحدود واكتشاف الخطوط الحمراء
لقد جرّب الملك عبد الله التغيير الثقافي والانفتاح الاقتصادي عبر مناطق محصورة، من خلال إدخال الاختلاط بين الجنسين والانفتاحات الثقافية في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية وتخفيف القيود على الاستثمار الأجنبي في مدينة الملك عبدالله الاقتصادية. لكن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان يحاول تحقيق أمر أكثر طموحًا وهو التغيير الاقتصادي والثقافي على المستوى الوطني.
وتشكّل الفنون والترفيه موجّهات رئيسيّة لكلا هذين الهدفين. غير أنّ فعاليّتها كمحفزات اقتصادية غير واضحة بعد، وقد تتضاءل قدرتها على الحفاظ على حماس الشباب إذا لم تنجح الإصلاحات العمومية في تلبية الحاجة المتزايدة إلى الوظائف في القطاع الخاص. وفي الوقت نفسه، سيتطلب إنشاء اقتصاد محلي حقيقي للترفيه والفنون استثمارًا أوسع في التعليم الإبداعي سيختبر التزام القيادة السعودية بالانفتاح الثقافي. فقد تمّت مقاومة بعض فعاليات الهيئة العامة للترفيه، وخاصة في المحافظات الواقعة خارج المدن الكبرى. ولا يزال التّفاوض بشأن الخطوط الحمراء جاريًا وفق ما تبيّن من مسألة طرد مسؤول حكومي مؤخراً بسبب مسابقة جمال ومن التراجع المحيّر عن الإعلان عن إنشاء دار أوبرا جديد. غير أنّ المخاطر أعلى بالنسبة للفنانين: فقد حُكم على الشاعر الفلسطيني أشرف فياض، وهو عضو في المجموعة الفنية السعودية البريطانية “إدج أوف أريبيا”، بالإعدام بتهمة التجديف في العام 2016، وهو لا يزال في السجن.
بالرغم من ذلك، يبدو أن قيادة المملكة مصمِّمة على رسم مسار بديل مع علامات فنية وترفيهية في المملكة العربية السعودية الجديدة.
كريستين سميث ديوان هي باحثة مقيمة أولى في معهد دول الخليج العربية في واشنطن.