قبل حوالي عشر سنوات بالضبط، بدأ التحالف، المكون من أعضاء في حلف الناتو وشركائهم، بفرض حظر على الأسلحة ومنطقة حظر جوي فوق ليبيا، وذلك استجابة لقراري مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1970 في فبراير/شباط 2011 ورقم 1973 في مارس/آذار 2011، اللذين أبرزا “قلقاً شديداً” من عملية القمع التي تتعرض لها الحركة الاحتجاجية السلمية التي نشأت في بنغازي. دعا القرار 1970 إلى حظر على الأسلحة وحظر على السفر وتجميد أصول تعود لأفراد عائلة الزعيم الليبي معمر القذافي ومسؤولين حكوميين آخرين. ونصّ القرار 1973 على فرض منطقة حظر جوي، وخوّل الدول الأعضاء “باتخاذ جميع التدابير اللازمة… لحماية المدنيين والمناطق المأهولة بالسكان المعرضين لخطر الهجمات”. وهكذا بدأ ما لا يزال يعد قراراً مثيراً للكثير من الجدل من قبل المجتمع الدولي لصالح التدخل العسكري في الانتفاضة الشعبية الليبية لعام 2011، خلال فترة الاحتجاجات غير المسبوقة، التي جرت في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي أصبحت تُعرف باسم الربيع العربي. ولا يزال إرث هذا التدخل موضع نقاش، حيث اتسمت السنوات العشر الأخيرة في ليبيا بالنزاع المسلح، والهجمات الممنهجة ضد المدنيين، وإطباق الأزمات السياسية والاقتصادية على البلاد.
لكن وبعد مرور عشر سنوات، ما تزال هنالك مساحة للأمل، فقد توقفت معظم الأعمال القتالية في أكتوبر/تشرين الأول 2020 عندما تم التوصل إلى وقف هش لإطلاق النار من قبل مختلف الفصائل المسلحة. بدأت العملية السياسية للأمم المتحدة، التي تعرف بمنتدى الحوار السياسي الليبي، في نوفمبر/تشرين الثاني، وأدت إلى تصويت لدعم حكومة وحدة جديدة، تتألف من حكومة رئيس الوزراء عبد الحميد دبيبة ومجلس رئاسي من ثلاثة أعضاء بقيادة محمد منفي. وحصلت هذه الحكومة على موافقة البرلمان الليبي المنقسم، الذي اجتمع في وقت سابق في مارس/آذار في مدينة سرت على خط المواجهة. وحلت حكومة الوحدة محل الحكومات المتنافسة في شرقي البلاد وغربها، ويظهر نجاحها حتى الآن تحولاً مؤسساتياً ملحوظًا نحو توحيد المؤسسات المتباينة في البلاد. لقد تم تكليف هذه الحكومة الجديدة بتنظيم الانتخابات في ديسمبر/كانون الأول، وقد حظيت بموافقة ساحقة من المجتمع الدولي، حيث سافر قيس سعيد، رئيس دولة الجوار تونس، بالفعل إلى ليبيا في أول زيارة حكومية رسمية تضمنت محادثات مع الحكومة الجديدة، وأصدرت دول كبرى مثل الولايات المتحدة بيانات داعمة قوية.
في منتصف مارس/آذار، أصدر فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة تقريره المكون من 548 صفحة حول ليبيا، وفقًا للقرار 1973، الذي يوضح بشكل مفصل مجموعة التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة. ومن بينها استمرار الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان التي ترتكب بحق المدنيين، وخاصة المهاجرين وطالبي اللجوء، ووجود الجماعات الإرهابية على الأراضي الليبية، واستمرار وجود القوات العسكرية الأجنبية في البلاد. ربما تكون المشكلة الأكبر التي تواجه حكومة الوحدة الليبية والمجتمع الدولي في هذه المرحلة هي ما يتعلق بحظر الأسلحة الذي “لم يتم تفعيله بشكل كامل”، وفقًا للتقرير. وهذا ما يشكل تحديات لوقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في أكتوبر 2020، والذي يجب أن يصمد حتى تتمكن البلاد من المضي قدماً نحو الانتخابات، والحد من العنف وانتهاكات حقوق الإنسان التي حددها تقرير الأمم المتحدة.
المشاكل الأساسية: المرتزقة الأجانب وانتهاكات حظر الأسلحة
يوضح جزء كبير من التقرير بشكل مفصل مدى التدخل الأجنبي في ليبيا، وكيفية تهديد المرتزقة الأجانب والأسلحة المستوردة للاستقرار الليبي ولنجاح عملية الانتقال السياسي هناك. يؤكد التقرير وجود مجموعات مسلحة تشادية وسودانية تدعم القوات التابعة للجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر، والمدعوم عسكرياً من الإمارات العربية المتحدة ومصر، وغيرهما من الدول. كما يشير إلى الأعداد الكبيرة من المرتزقة السوريين، الذين يقاتلون نيابة عن كل من الجيش الوطني الليبي المتمركز في شرق ليبيا وحكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة في الغرب، والتي تدعمها تركيا عسكرياً. ومع مرور الوقت، تباين عدد المقاتلين السوريين من حوالي أربعة آلاف مقاتل ابتداءً في ديسمبر/كانون الأول عام 2019 إلى 13000 في العام الماضي.
ويؤكد التقرير على عدة انتهاكات، من قبل دول أعضاء، لحظر عام 2011 على توريد الأسلحة لدعم طرفي الصراع في ليبيا. إذ يؤكد الفريق وجود انتهاكات متعددة من قبل تركيا نيابة عن القوات المتحالفة مع حكومة الوفاق الوطني، ونيابة عن القوات المتحالفة مع الجيش الوطني الليبي، ويوثق التقرير انتهاكات من قبل الإمارات ومصر والأردن وروسيا وسوريا. ويؤكد التقرير أنه “بالنسبة للدول الأعضاء التي تدعم أطراف النزاع بشكل مباشر، ثمة انتهاكات صارخة على نطاق واسع، وتنطوي على تجاهل تام لتدابير العقوبات. إن سيطرة تلك الدول على سلسلة التوريد برمتها تعمل على تعقيد عملية التعقب أو التعطيل أو الاعتراض. يعمل هذان العاملان على جعل أي تنفيذ لحظر الأسلحة في غاية الصعوبة”.
حاول مجلس الأمن فرض حظر أفضل على الأسلحة من خلال تمرير القرارين رقم 2473 لعام 2019 ورقم 2526 لعام 2020، اللذين أوكلا قوة بتفتيش السفن قبالة السواحل الليبية. عملية الاتحاد الأوروبي لمراقبة السفن، التي سميت في البداية عملية صوفيا، “لم يكن لديها ما يكفي من القدرات البحرية لإجراء عمليات تفتيش ملموسة في البحر، وبدلاً من ذلك اقتصر دورها الأساسي على التدريب والمراقبة”. وتم استبدال هذه العملية ببعثة أكبر، عملية إيريني، في أبريل/نيسان 2020، والتي تنتهي ولايتها في أواخر مارس/آذار. وفي حين كانت إيريني أكثر نجاحاً في مراقبة السفن في المياه الليبية من عملية صوفيا، يشير الفريق في تقريره إلى حالاتٍ تم فيها عرقلة عمليات التفتيش من قبل “فرقاطات المرافقة التركية”.
كما حدد الفريق عدداً كبيراً من “الجسور الجوية” المشبوهة التي كان من شأنها استمرار الإمداد بالسلاح والتمويل لدعم العمليات العسكرية. ووفقًا للتقرير، فإن أهم هذه الجسور كانت تعمل بين “(أ) الإمارات وغرب مصر/شرق ليبيا (HAF)؛ و(ب) روسيا، عبر سوريا إلى شرق ليبيا (HAF)” وذلك لدعم الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر؛ و”(ج) من تركيا إلى غرب ليبيا (حكومة الوفاق الوطني)”.
كان أحد الشروط الرئيسية في وقف إطلاق النار في أكتوبر/تشرين الأول 2020 هو إخراج جميع المقاتلين الأجانب من الأراضي الليبية، والذين بقي منهم ما يقارب العشرين ألف مقاتل، حسب تقديرات الأمم المتحدة. أصدرت الأمم المتحدة والولايات المتحدة بيانات لا لبس فيها حول الانتهاكات المستمرة لحظر الأسلحة، بالإضافة إلى إدانات علنية للدول الأعضاء التي تواصل التدخل عسكرياً في الحرب الليبية. الوقت وحده سيوضح ما إذا كان الضغط على دول مثل تركيا والإمارات ومصر وروسيا سيؤدي، بنجاح، إلى انسحاب المقاتلين الأجانب من ليبيا. فقد أعربت جميع هذه الدول عن دعمها لحكومة الوحدة الليبية الجديدة ورغبتها في تحقيق السلام في ليبيا، وقام العديد من هذه الدول بفعل ذلك في حين استمرت في شحن الأسلحة وتمويل المرتزقة الأجانب في البلاد.
أعربت تركيا عن استعدادها لسحب قواتها بمجرد أن تفعل القوى الأخرى ذلك، كما أعلنت الإمارات علناً عن تأييدها للحد من أعداد القوات الأجنبية في ليبيا. وغرد خبير العلاقات الخارجية في المجلس الأوروبي، طارق المجريسي قائلاً: “يتم تداول شائعات بأن تركيا ستسحب مرتزقتها السوريين من ليبيا. وذلك لن يكلفهم شيئاً، لأنهم سيحتفظون بحضور رسمي يتحججون بكونه قانونيًا تماماً بسبب الشراكة الأمنية… وليس من المرجح أن يفضي ذلك بالمقابل إلى إشارة مماثلة من روسيا أو الإمارات أو مصر… لأن هذه الدول على عكس تركيا ليس لديها وجود رسمي؛ وعلى عكس الحكومة، من المحتمل أن تنهار القوات الجوية العربية الليبية بقيادة حفتر في اللحظة التي يغادرون فيها، حيث ما زالوا بحاجة إليها”.
يوضح هذا الموقف اختلافاً رئيسياً بين الوجود العسكري التركي في ليبيا، والذي جاء بطلب من حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة، وبين القوات الأجنبية التي تدعم الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر، والتي ينظر إليها الكثير من المجتمع الدولي على أنها تدعم الجنرال المنشق، الذي يسعى للإطاحة بالحكومة الليبية المعترف بها دولياً. ووقعت تركيا وحكومة الوفاق الوطني اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الآمنة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 التي يبدو أنها مستمرة في ظل الحكومة الجديدة لرئيس الوزراء عبد الحميد دبيبة.
من المرجح أن ينبع قرار تركيا بالانسحاب، إذا تم اتخاذه، مما يراه البعض ميزة نسبية لتركيا تجاه رئيس الوزراء الجديد، الذي تحتفظ تركيا بعلاقات قوية معه، فضلاً عن رغبة تركيا في تنمية بعض من رأس المال السياسي مع الإدارة الأمريكية الجديدة، التي ما تزال حتى الآن تفرض عقوبات على أنقرة لشرائها منظومة السلاح إس-400 روسية الصنع. ولا يخفى على أحد أن العلاقات التركية -الأمريكية كانت متعثرة، وقد يؤدي تقليص استخدامها للمرتزقة الأجانب في ليبيا إلى قطع شوط طويل في تحسين علاقتها مع الولايات المتحدة وأوروبا.
هل حقًا ثمة مساحة للتفاؤل الحذر؟
من المؤكد أنه تم إحراز بعض التقدم في ليبيا بعد أن ساهم وقف إطلاق النار في أكتوبر/تشرين الأول 2020 بوقف العمليات القتالية الرئيسية. إن النجاح النسبي لمنتدى الحوار السياسي الليبي يكشف عن وجود مساحة أكبر للتفاؤل الحذر. ومع ذلك، يوضح تقرير فريق الخبراء، على وجه التحديد، ما حل بليبيا المسلحة اليوم، بالإضافة إلى مدى فشل المجتمع الدولي في مكافحة التدخل الأجنبي.
لكي تنجح حكومة الوحدة الليبية الجديدة وتقود البلاد إلى الانتخابات في ديسمبر/كانون الأول، يجب على المجتمع الدولي أن يلعب دوراً أكبر. وينبغي أن يتعلق هذا الدور، أولاً وقبل كل شيء، بتقليص الحرب بالوكالة في ليبيا، وسحب القوات الأجنبية من الأراضي الليبية (أو الضغط على الحلفاء للقيام بذلك)، وفرض حظر على الأسلحة، وإصدار عقوبات على الأطراف الرئيسية الفاعلة التي تنتهك القانون الدولي. ويتعين على حكومة الوحدة الجديدة كذلك أن تشرع في مهام التوصل إلى إجماع بشأن الميزانية، ومحاولة نزع السلاح أو على الأقل التحكم بالفصائل الليبية المسلحة الكثيرة التي ظهرت فجأة بعد عام 2011، وتوحيد المؤسسات المالية الرئيسية مثل البنك المركزي، ومحاربة الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان الواسعة الانتشار. وذكر تقرير الخبراء أن هناك مزاعم بوجود محاولات فاشلة لشراء الأصوات نيابة عن دبيبة في عملية الحوار السياسي الليبي، إضافة إلى اتهامات بالفساد ضد رئيس الوزراء الجديد. وسيكون من الضروري لحكومة الوحدة أن تبدد هذه المخاوف وتلتزم بالشفافية في الفترة التي تسبق الانتخابات.
من المؤكد أن تقرير فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة لا يرسم صورة متفائلة، ولكن يبدو أن ثمة روحاً معنوية نحو المزيد من التعاون في الشرق الأوسط منذ أن أدى الرئيس جوزيف بايدن اليمين الدستورية في 20 يناير/كانون الثاني في الولايات المتحدة. من الممكن أن يوفر ذلك فرصة تسمح بالتعاون بين الأطراف المتعددة وبجهود لحل النزاع في ليبيا. ويبقى السؤال هو ما إذا كان الخطاب والدبلوماسية سيؤديان إلى تغييرات ملموسة على الأرض. يقدم التقرير، الشامل، خارطة طريق للتغييرات الرئيسية المطلوبة، ولكن كما هو الحال دائماً مع نصائح الخبراء، يكون التقييم أسهل من التنفيذ.