أرجأت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات في ليبيا الانتخابات الرئاسية التي كان من المقرر إجراؤها في 24 ديسمبر/كانون الأول 2021 بسبب الخلافات المتعلقة بقوانين العملية الانتخابية وقائمة المرشحين والمخاوف الأمنية وترهيب الميليشيات المسلحة للناخبين، واستمرار الانقسامات بين المؤسسات السياسية في البلاد. يتمثل التحدي الآن في التعرف على كيفية حل المشاكل الأساسية في العملية الانتخابية في ليبيا وتحديد موعد لإجراء الاقتراع في نهاية المطاف. لتحقيق هذا الهدف، أنشأ البرلمان الشرقي الموجود في طبرق، أو مجلس النواب، لجنة خارطة طريق لتأسيس مسار للمضي قدمًا نحو إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة ونزيهة.
ومع ذلك، فقد أدت التطورات في الأسابيع الأخيرة إلى تعريض الانتخابات الليبية وعملية السلام الهشة فيها لمزيد من الخطر. كان من المفترض أن تحل الانتخابات البرلمانية، التي كان من المقرر إجراؤها في يناير/كانون الثاني، محل حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، التي تتخذ من طرابلس مقرًا لها، والمعترف بها من قبل الأمم المتحدة، بقيادة رئيس الوزراء المؤقت عبد الحميد دبيبة. عندما بدأ مجلس النواب مناقشاته حول خارطة طريق جديدة لإجراء الانتخابات، خلال جلسة 10 فبراير/شباط، كانت له حرية إقالة الدبيبة وتعيين رئيس وزراء جديد – فتحي باشاغا، وزير الداخلية السابق في حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، وهي خطوة حصلت على دعم رئيس مجلس النواب عقيلة صالح والجنرال، المتقاعد حديثًا في المنطقة الشرقية، خليفة حفتر. ومع ذلك، يرفض دبيبة التنحي حتى إجراء الانتخابات، وانتقد الخطوة باعتبارها استيلاء على السلطة من جانب واحد.
يعد هذا عودة إلى وضع شائع جدًا في السياسة الليبية: رئيسا وزراء يتنافسان على السلطة، مع انقسامات في المؤسسات ما بين حكومة في المنطقة الغربية وبرلمان في المنطقة الشرقية تعرقل التقدم السياسي.
انقسامات قديمة، وانحيازات جديدة
من عام 2015 وحتى عام 2020 كان في ليبيا حكومتان منفصلتان. حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من قبل الأمم المتحدة في غرب ليبيا وتتخذ من طرابلس مقرًا لها بقيادة رئيس الوزراء فايز السراج. وفي شرق ليبيا، كان يهيمن مجلس النواب ومقره في طبرق، بقيادة رئيس البرلمان عقيلة صالح ورئيس الوزراء عبد الله الثني (وبدعم من خليفة حفتر). في كلٍ من غرب ليبيا وشرقها، كانت تقوم مجموعة متنوعة من الميليشيات المسلحة بدعم فصائل سياسية محددة وتتحارب حتى تم الاتفاق على وقفٍ لإطلاق النار في عام 2020 وتم إنشاء عملية منتدى الحوار السياسي الليبي بقيادة الأمم المتحدة. وقد ساعد ذلك في الإعلان عن خارطة طريق لانتخاب حكومة مؤقتة – انتخب الأعضاء الـ 74 في منتدى الحوار السياسي الليبي عبد الحميد دبيبة رئيسًا للوزراء ومحمد منفي رئيسًا لمجلس الرئاسة.
تم تكليف “حكومة الوحدة الوطنية” هذه بالإشراف على الانتخابات الرئاسية في ديسمبر/كانون الأول 2021، على أن تليها الانتخابات البرلمانية. بعد ذلك، وفقًا لخارطة الطريق، ستقوم الحكومة المؤقتة بتسليم السلطة إلى الحكومة الجديدة في يونيو/حزيران من عام 2022. كان إنشاء حكومة الوحدة الوطنية هو الخطوة الحاسمة الأولى نحو توحيد المؤسسات السياسية الليبية التي كانت منقسمة على نفسها منذ فترة طويلة، ولكن إجراء الانتخابات كان أمرًا ضروريًا للحفاظ على الإجماع السياسي الدولي والمحلي الذي تتمتع به هذه الحكومة المؤقتة. ولأن الانتخابات قد تأجلت، وتجري الآن إعادة كتابة خارطة الطريق السياسية، استغلت الفصائل السياسية المختلفة من كلا الجانبين الفراغ السياسي لإعادة تأكيد نفوذها على المشهد السياسي الليبي ومحاولة السيطرة على مستقبل عملية الانتخابات الليبية. بما في ذلك القضايا الرئيسية مثل قائمة المرشحين وقوانين التصويت.
رئيس الوزراء المكلف فتحي باشاغا هو من مدينة مصراتة في الغرب، التي تعتبر أيضًا قاعدة نفوذ الدبيبة، وكان وزيرًا للداخلية في حكومة الوفاق الوطني السابقة التي قادها السراج. ومع ذلك، تحالف باشاغا مع رئيس مجلس النواب، صالح، ووقف إلى جانبه في اقتراع فبراير/شباط 2021 في منتدى الحوار السياسي الليبي لحكومة الوحدة الوطنية، والذي خسروه أمام تكتل الدبيبة/ المنفي. كما سجل باشاغا، مع دبيبة وحفتر وسيف الإسلام القذافي (نجل الحاكم المستبد معمر القذافي الذي تم قتله)، ترشيحه للانتخابات الرئاسية، التي كان من المقرر إجراؤها في 24 ديسمبر/كانون الأول 2021.
سوف تحتاج حكومة دبيبة الآن للتفاوض مع تكتل باشاغا/صالح/حفتر المترسخ في الشرق وربما في أجزاء من غرب ليبيا. قدم باشاغا حكومته لنيل موافقة البرلمان في 24 فبراير/شباط. وفي خطاب ألقاه في 21 فبراير/شباط، أكد الدبيبة التزامه بعدم تسليم السلطة حتى إجراء الانتخابات، وأعلن عن خطة مبهمة لإجراء انتخابات في يونيو/حزيران. وأكد أن قرار مجلس النواب بتعيين رئيس وزراء جديد هو “مناورة فاشلة” من شأنها أن تؤدي إلى “الحرب والفوضى”.
يزداد التهديد بالعنف وعدم الاستقرار يومًا بعد يوم. قبل ساعات من تصويت مجلس النواب في 10 فبراير/شباط، هاجم مسلحون موكب الدبيبة فيما وصفته العديد من التقارير بأنه “محاولة اغتيال“. إن تواجد الجماعات المسلحة التي تدعم فصائل سياسية محددة في جميع أرجاء البلاد يعني أن العودة إلى القتال لا تزال تشكل مصدر قلق بالغ الخطورة.
سوف يتركز هدف هذه النخب السياسية والجماعات المسلحة، التي تدعمها، على الحفاظ على مراكز قوتها وربما توسيعها، ولكن من المرجح أيضًا ألا يجدوا أي مصلحة في العودة للصراع المسلح بشكل كامل. إذا كان لديهم الأمل في الحصول على أي درجة من الشرعية السياسية والمهام الوظيفية المؤسساتية الأساسية، فسوف يحتاجون إلى بناء إجماع حول حكومة واحدة، ووضع خارطة طريق جديدة، وإجراء الانتخابات. جادل الخبير في الشؤون الليبية طارق المجريسي بأن “محاولة باشاغا وصالح للوصول للسلطة تستند إلى ثلاث ركائز: لديهم شرعية أكبر من حكومة الوحدة الوطنية، ولديهم حل للانتخابات الفاشلة، ولديهم الدعم العسكري لجعل قيادتهم أمرًا واقعًا. تبدو هذه الركائز الثلاث متذبذبة لدرجة ليست بالقليلة”.
ردود الفعل الدولية
أعربت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، والمجتمع الدولي الأوسع، عن الالتزام بالاستقرار الدولي والتركيز على تكثيف الوساطات بين مختلف الفصائل السياسية في ليبيا، ومنع العودة إلى الصراع المسلح، والدفع باتجاه خارطة طريق لإجراء الانتخابات.
ليس سرًا أن الجهات الخارجية قد لعبت دورًا أساسيًا في الصراع الليبي والتطورات السياسية على الأرض. فقدمت تركيا وقطر دعماً عسكريًا وماليًا لحكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة في الغرب، في حين كانت فرنسا ومصر وروسيا والإمارات تقدم دعمًا مماثلاً لمجلس النواب وجناحه العسكري، في المنطقة الشرقية، بقيادة حفتر.
ومع ذلك، بمجرد اختيار منتدى الحوار السياسي الليبي لحكومة الوحدة الوطنية في فبراير/شباط 2021، احتشد المجتمعان الإقليمي والدولي حول حكومة دبيبة في مشهد نادر للوحدة. الآن، وقد أن أصبح من المحتمل أن يكون هناك رئيسان للوزراء في ليبيا، من الضروري أن نعرف كيف سيكون رد فعل الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية. هل سيؤيدون قرار مجلس النواب في تعيينه لباشاغا، أم سيدعمون الحكومة المؤقتة المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس؟
عقدت المستشارة الخاصة للأمم المتحدة بشأن ليبيا ستيفاني ويليامز (Stephanie Williams) اجتماعات منفصلة مع دبيبة وباشاغا بعد التصويت في 10 فبراير/شباط، وقد “أكدت مجددًا على ضرورة عمل جميع الجهات والمؤسسات الفاعلة ضمن الإطار السياسي، والأهم من ذلك كله، الحفاظ على الهدوء على الأرض لخدمة مصالح الوحدة والاستقرار في ليبيا”. وأكدت على أن الأمم المتحدة “لا تزال ملتزمة بإيصال أصوات الـ 2,8 مليون ليبي الذين سجلوا أسماءهم للتصويت”. وشددت في لقائها مع باشاغا على “ضرورة المضي قدمًا بطريقة شاملة وشفافة وتوافقية، والحفاظ على الاستقرار في طرابلس وفي جميع أنحاء البلاد”.
يبدو أن الأمم المتحدة ومعظم الجهات الدولية الفاعلة تحاول تجنب اتخاذ موقف معلن بشأن هذه التطورات الأخيرة، ويختارون المزيد من الوساطات لضمان الاستقرار وخارطة طريق للانتخابات. فسارعت بعض الجهات الخارجية القوية، مثل روسيا ومصر، للتعبير عن دعمها الكامل لقيام مجلس النواب بتعيين باشاغا. ويدعي بعض المحللين أن داعمي حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة، مثل تركيا، ربما يكونون في طور إعادة تقييم انحيازهم للحكومة التي تتخذ من طرابلس مقرًا لها. في 16 فبراير/شباط، في طريق عودته من الإمارات، أدلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بردٍ غامضٍ حول الأحداث في ليبيا، قال فيه، “أعلن فتحي باشاغا عن ترشحه. تربطنا علاقات جيدة معه”. لكنه أضاف أن لديه علاقات “جيدة أيضًا مع دبيبة… المهم هو من الذي سيختاره الشعب الليبي وكيف”.
أكد خبير الشؤون الليبية كريم مزران أن هناك تحولاً في الدعم الخارجي منذ الإعلان عن تعيين باشاغا. وافترض أن “الجديد في هذه الحلقة الأخيرة في تاريخ ليبيا الحديث هو أنها تسببت في إعادة تنظيم مواقف هذه الجهات الخارجية الفاعلة… تعد فرنسا، والمثير للدهشة قطر، الداعمَين الرئيسيين لكتلة صالح/حفتر/باشاغا، إلى جانب مصر المترددة. والأكثر إثارة للدهشة هو أن الإمارات هي الداعم الرئيسي لدبيبة، مصطفةً إلى جانب الأمم المتحدة والولايات المتحدة وإيطاليا والمملكة المتحدة”. وجادل خبراء آخرون، مثل المجريسي، بأنه ينبغي على باشاغا وصالح أن يكونا قادرين على الاعتماد على الدعم الذي يقدمه داعمو حفتر التقليديون من الخارج، بما في ذلك “الإمارات ومصر وفرنسا”. ولا يزال من السابق لأوانه استخلاص النتائج النهائية طالما أن العديد من هذه الجهات الخارجية الفاعلة، بما في ذلك الإمارات وقطر، لم تدلِ بأي تصريحات بعد.
تداعيات ذلك على المنطقة
يبدو أن العديد من جهود التقارب الإقليمي الحالية تستند إلى أرضية صلبة ومتجذرة في الالتزام، الأوسع نطاقًا بمزيد من الحوار والتعاون الإقليميين في ظل الإرهاق الناجم عن النزاعات، واسعة الانتشار، والتداعيات الاقتصادية الناجمة عن جائحة فيروس كورونا. كما يشير التفاؤل الذي يكتنف احتمال العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، إلى جانب جهود الحوار، واسع النطاق، بين الولايات المتحدة وإيران، وبين مجلس التعاون لدول الخليج العربية وإيران، وبين السعودية والإمارات وتركيا، إلى استمرار الزخم الكامن وراء تخفيف حدة التصعيد في المنطقة. وينعكس هذا في زيارة أردوغان الأخيرة إلى الإمارات، والتحسين المستمر في الحوار القطري-الإماراتي. ومع ذلك، وتمامًا مثلما ساهم وقف إطلاق النار وحكومة الوحدة الليبية في التخفيف من حدة التصعيد في المنطقة، فإن العودة إلى القتال وعدم الاستقرار يمكن أن تفعل العكس.
إن للتطورات السياسية في ليبيا عواقب وخيمة على جهود التخفيف من حدة التصعيد في المنطقة على نطاق واسع نظرًا للدور البارز الذي تلعبه القوى الإقليمية في الصراع، الذي طال أمده في البلاد. فقد تفضي عودة ليبيا إلى وضع الحكومتين المتعارضتين، والمنقسمتين على الخطوط الشرقية والغربية، إلى تصعيد التنافس الإقليمي بالوكالة، كما حدث عدة مرات في الماضي. كما أكد كبير الباحثين المقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن، حسين إبيش، أنه في الوقت الذي يلعب فيه المأزق الليبي دورًا مهمًا في تلطيف التوترات الإقليمية، فإن استئناف الاقتتال السياسي بين الفصائل السياسية الليبية وداعميها الأجانب يمكن أن يفعل العكس، الأمر الذي سيعزز حالة الارتياب من بعض جهود التقارب بين تركيا والإمارات وداخل مجلس التعاون لدول الخليج العربية.