ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
بعد انتخاب دونالد ترامب المفاجيء رئيسا للولايات المتحدة محمولا على موجة استياء شعبية ضد “المؤسسة التقليدية” الحاكمة في واشنطن، بشقيها الديمقراطي والجمهوري، حاول بعض أعوانه المقربين التخفيف من حدة القلق الذي اعترى الأمريكيين المصدومين ممن عارضوا انتخابه، فضلا عن جزء كبير من العالم المتخوف من المستقبل، قائلين: لا تقلقوا، فإن ترامب لن يحكم وفقا لخطابه السياسي خلال الحملة، وأن تحديات الحوكمة سوف ترغمه على تعديل مواقفه.وعلى الرغم من أن تعيينات ترامب المتعلقة بالأمن القومي والبيت الأبيض عكست مواقفه المتشددة، إلا أن تصريحاته منذ انتخابه والتي أبدى فيها تراجعا جزئيا أو كليا عن مواقفه وعوده والتزاماته خلال السباق الطويل إلى البيت الأبيض، منحت بعض الأمل للذين يبحثون عن أي بصيص ضوء في الظلام الداكن الذي خيم على عالمهم إثر فوزه المدوّي. والمشكلة التي يواجهها أي محلل أو باحث محايد يسعى لفهم ترامب هي أنه خلال حياته العامة وتحديدا خلال الثمانية عشر شهرا التي استغرقتها مسيرته الفعلية إلى البيت الأبيض فإنه ناقض تقريبا معظم مواقفه: فهو مع غزو العراق قبل أن يصبح ضد غزو العراق، وهو مع الإطاحة بالعقيد معمّر القذافي، قبل أن يصف التدخل العسكري في ليبيا بالكارثي. واستمرت التناقضات بعد انتخابه: وقال ترامب في أكثر من مناسبة أنه لم يعد مهتما بمحاكمة أو سجن هيلاري كلينتون كما تعهد خلال حملته، “لأنها عانت الكثير” وأنه يريد التطلع إلى المستقبل وليس إلى الماضي. وماذا عن قانون الضمان الصحية الذي يعتبر أبرز إنجاز داخلي للرئيس أوباما؟ ترامب الآن لا يريد إلغائه كليا، بل تفكيكه والحفاظ على بعض بنوده الشعبية والمفيدة .
الثابت والمتحول في مواقف ترامب
الرأي السائد في أوساط الذين راقبوا أو يراقبون ترامب منذ أن عرفه الأمريكيون كمقاول أو كنجم في برامج “تلفزيون الواقع” وخلال حملته الانتخابية هو أنه يشكل مواقفه وفقا لانطباعاته عن آخر الأشخاص الذين يلتقي بهم، أو من مراقبته للتلفزيون، وليس استنادا إلى قراءات جدية أو بعد مداولات سياسية وفكرية. ويتفاخر ترامب في أنه لا يقرأ الكتب، بعكس معظم الرؤساء الذين سبقوه، وبينهم مؤلفو كتب عديدة . ولهذه الأسباب لا أحد يستطيع أن يجزم بثقة مسبقة بشأن مواقف ترامب الثابتة. والمقولة التي تتردد دائما هي: أن ترامب ليس أيديولوجيا (وهذا موقف أكده الرئيس أوباما نفسه). صحيح أن للرئيس المنتخب مواقف بقيت على ما هي عليه عبر السنين، ولكنها نادرة، وأبرزها موقفه السلبي القديم من حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومواقفه المشككة بجدوى اتفاقية التجارة الدولية المفتوحة. ولكن القول إن ترامب ليس ايديولوجيا، يسمح له ولأنصاره بالتهرب من مسؤولية الالتزام بالمواقف التي يتخذها والوعود التي يقطعها. نحن نعلم أن معظم السياسيين الذين يخدمون لفترات طويلة تتغير وتتطور مواقفهم، وأحيانا بطريقة واضحة ومنطقية، ولكن مواقف ترامب تتغير جذريا ومن دون أن يرى داعيا لتقديم أي تبريرات واضحة. فقبل دخوله المعترك السياسي، كان ترامب يقبل بحق المرأة بالإجهاض. ولكن حين قرر الترشح للرئاسة تحت مظلة الحزب الجمهوري، ونظرا لمعارضة الجمهوريين لهذه القضية الحساسة، غيّر ترامب موقفه رأسا على عقب. ولكن ماذا عن رفضه المطلق خلال الحملة الانتخابية للتغير المناخي والاحتباس الحراري، ردد ترامب موقفا ساخرا من هذا الملف الخطير على أساس أنه “خدعة ومؤامرة صينية”، وها هو الآن بعد انتخابه يقول لصحيفة نيويورك تايمز إن عقله “مفتوح” لحقيقة التغير المناخي، معترفا بوجود علاقة، على الأقل بعض الشيء، بين التغير المناخي والتلوث الذي يخلقه الإنسان. خلال حملته كان ترامب يطالب باستئناف استنطاق المشتبه بضلوعهم بالأعمال الإرهابية والضغط عليهم وتعذيبهم عبر الإيحاء باغراقهم وهو أسلوب استخدمته إدارة الرئيس السابق جورج بوش في حالات قليلة جدا، ثم أوقفه الرئيس أوباما. ترامب كان يهدد باعتماد أساليب أكثر قسوة في حال انتخابه. إلا أنه عاد ليغير من موقفه بشأن التعذيب بعد أن قال له الجنرال جيمس ماتيس، المرشح لمنصب وزير الدفاع، إن التعذيب لا يجدي وأنه يستطيع الحصول على نتائج أفضل بتقديم السجائر والجعة لهؤلاء المتهمين.
المقابلة المطولة التي أجراها ترامب قبل أيام مع صحيفة نيويورك تايمز أبرزت للعلن مرة أخرى هذه التناقضات. اللافت هو أن الرئيس المنتخب ترامب كان يكيل الانتقادات لهذه الصحيفة العريقة خلال الحملة الانتخابية ويتهمها بـتشويه مواقفه والعمل على تقويض حملته. ومع أنه بدأ المقابلة بترديد هذه الشكاوى وتأكيد القول على أنها لم تنصفه خلال الحملة، وأن قراءته المستمرة لها تكاد تجلبه المرض وتقصر من عمره، إلا أنه استدرك بالقول إنه يكن لها كل الاحترام وأنها تقوم بدور جديد، وانتهى بوصفها بالجوهرة.
المقابلة مع النيويورك تايمز، ومواقف ترامب الأولية بعد انتخابه تحولت إلى موضوع جدل ونقاش بين محرري الصحيفة حيث رأى بعضهم أن مواقف ترامب يمكن أن تعطي الأمل لمنتقديه، بينما رأى آخرون أنه لم يعطهم أي سبب لاحترام مواقفه وبأنه غير مرن. وعكس الإعلام العربي هذا الحال أيضا من خلال الجدل الدائر بين أصحاب الرأي تجاه الرئيس الأمريكي الجديد. الزميل عبد الرحمن الراشد ناشد العرب قائلا: لا تخافوا ترامب، مضيفا في عموده في صحيفة الشرق الأوسط أنه ستكون هناك “تغييرات متوقعة، لكن، لن يكون هناك انقلاب في السياسة الخارجية”، لأسباب عديدة من بينها أن الولايات المتحدة هي دولة مؤسسات. قد يكون الراشد متفائلا أكثر مما تسمح به معطيات النظام السياسي الأمريكي. صحيح أن الولايات المتحدة هي دولة مؤسسات وهناك توازنات يضمنها الدستور بين الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية، ولكن يبقى أن للرئيس الأمريكي صلاحيات كبيرة تسمح له باتخاذ قرارات قد تجلب الكوارث كما فعل الرئيس بوش حين زج البلاد في حرب طويلة ومكلفة وغير ضرورية عندما غزا العراق في 2003. صحيح أن الدستور ينص على أن الكونغرس هو السلطة المخولة بإعلان الحرب وليس الرئيس إلا أن آخر رئيس طلب من الكونغرس إعلان الحرب كان فرانكلين ديلانو روزفلت بهدف منحه “الموافقة” على دخول الحرب العالمية الثانية عام 2041. بينما كانت الحروب الأخرى التي تورطت فيها الولايات المتحدة في كوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق ودول أخرى، تعتبر مواجهات عسكرية طويلة الأمد وليست حروبا بالمعنى الدستوري، على الرغم من حصولها على “دعم” الكونغرس.
ترامب بين مهادنيه ومحاربيه
أدت مقابلة دونالد ترامب المهمة مع عدد من محرري ومراسلي صحيفة نيويورك تايمز (بعض معلقي الصحيفة مثل مورين داود وتشارلز بلو لم يشاركوا في المقابلة إما بسبب عداء ترامب لهم أو لرفضهم لقائه أو التحاور معه) إلى صدور تحليلات مختلفة من كُتاب الرأي في الصحيفة حيث رأى توماس فريدمان أن بعض مواقف ترامب الجديدة والمعدلة منذ فوزه تعطي منتقديه بعض الأمل بأنه سيحكم بطريقة تختلف عن مواقفه وطروحاته خلال الحملة الانتخابية. ولكن المعلق تشارلز بلو قال إن كل ما قاله ترامب في المقابلة يؤكد شكوكه القوية من نوايا الرئيس المنتخب. فريدمان رأى أن مواقف ترامب المعدلة، وخاصة تلك المتعلقة بالتغير المناخي والتعذيب تعطيه بعض الأمل. ولكن إلى أي مدى يمكن أن يغير ترامب من مواقفه؟ يقول فريدمان إنه لا يعرف الجواب القاطع، مشيرا إلى أن الصراع حول من سيكون له التأثير الأقوى على ترامب قد بدأ فور فوزه بالانتخابات. وكان ترامب يحيط نفسه بالمتشددين خلال حملته الانتخابية، لكنه الآن بدأ يستمع إلى شخصيات سياسية وإلى قادة قطاع الأعمال والشركات من الذين لهم مواقف مختلفة مثل بيل غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت، وتيم كوك رئيس شركة أبل، الأمر الذي سيؤدي إلى تأثيرات إيجابية أكثر.
ولكن المعلق تشارلز بلو، يرى أن مجرد تخفيف ترامب للهجته الراديكالية يجب أن لا يجعلنا ننسى أنتهازيته التي تعكس افتقاره للصدقية والنزاهة. وقال بلو إنه “فخور وسعيد لأنني لم أحضر الاجتماع، وفكرة أن اجلس إلى الطاولة أمام ديماغوجي استغل التوترات العنصرية والإثنية والدينية وأن أعامله بتهذيب واحترام اجتماعي يجعلني أشعر بالتقزز”. وشدد بلو على أنه لن يغفر لترامب ما قاله خلال الحملة، وشدد على أن ترامب يهتم فقط بخدمة طموحاته ومصالحه الخاصة وأنه لا يهتم ببلاده أو حزبه أو بالشعب الأمريكي. وخاطب ترامب قائلا “ولائك الكبير هو لطمعك”.
ويعكس السجال غير المباشر وغير المقصود بين فريدمان وبلو السجال الدائر حاليا في البلاد وفي العالم، بما في ذلك العالم العربي. الرئيس المنتخب دونالد ترامب هو ذلك النوع من الشخصيات العامة التي تدفع الآخرين لاتخاذ مواقف قوية وحازمة منه: أما معه دون تساؤلات، وأما ضده دون تساؤلات. مع مرور الأيام والأسابيع سوف نرى أصواتا إضافية من بينها العديد من الذين وقفوا ضد ترامب خلال حملته، والذين بدأوا مؤخرا بالقول لمعارضيه اللدودين، إن تمني فشل ترامب هو عمل انتحاري لأن فشله يعني فشل الولايات المتحدة. هؤلاء بدأوا يتجرأون – كما فعل فريدمان- على الإشارة إلى الأمل المحدود. وحتى هؤلاء سوف يتمسكون في المستقبل المنظور ببعض شكوكهم، لأنهم لن يتعرفوا على ترامب الحقيقي – إذا كان هناك بالفعل ترامب حقيقي- إلا بعد أن يمارس الحوكمة بكل مسؤولياتها وتحدياتها ومرارتها.