باتت الدول الخليجية تعتمد على التكنولوجيا كوسيلة لإيداع الاستثمار الخارجي ومصدر لخلق فرص العمل ولتحقيق النمو الاقتصادي في الأسواق المحلية. وتشدّد الجهود المبذولة لتحقيق التنوع بعيدًا عن أسواق النفط والغاز، بشكل متزايد على أولويتين: فالأولى تتمثل في تفعيل نشاط القطاع الخاص الناشئ في كنف دول الخليج، أما الثانية فتتمثل في استثمار الصناديق الاستثمارية الحكومية على الصعيد العالمي في القطاعات ذات النمو الضخم التي ستولّد تدفقات مستمرة من الإيرادات.
بذلت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر جهودًا ملحوظة لنشر هذه الاستراتيجيات، ولاسيما عبر الاستثمارات الموجّهة نحو التكنولوجيا. وتتضمّن هذه الاستثمارات المحلية في الصناعات ذات الصلة بالتكنولوجيا كل من التجارة الإلكترونية والصناعات ذات التقنية العالية في قطاعات متنوعة، من الصناعات الدفاعية والنقل إلى الطاقة المتجددة. ولقد وُظّفت الإيداعات الخارجية في أسهم الشركات المدعّمة بالتكنولوجيا مثل “أوبر” على سبيل المثال (التي تمتلك فيها المملكة العربية السعودية وقطر حصصًا)، وفي الصناديق الاستثمارية الأكثر شمولية، بما في ذلك مجموعة “سوفت بنك” (التي تعتبر المملكة العربية السعودية من أبرز المساهمين فيها)، وقد تنضمّ قطر وربما شركة مبادلة للتنمية في أبوظبي أيضًا إلى مجموعة “سوفت بنك”.
يكثر اهتمام الاستثمار الخارجي بشكل ملحوظ في نشر الشركات التجارية القائمة على التكنولوجيا في كافة دول مجلس التعاون الخليجي. إن عملية شراء “أمازون” لموقع “سوق.كوم” (وهو موقع إلكتروني للبيع بالتجزئة أنشأه رجل أعمال سوري يقطن في دبي) التي حصلت مؤخرًا ما هي إلا خير دليل على زيادة اهتمام المستثمرين بالسوق المحلية ذات النمو المحتمل المخصصة لبيع المنتجات عبر الإنترنت. كما تعتبر اختبارًا لمدى قدرة الاقتصاد الخليجي الإقليمي على دعم بيئة متكاملة تجارية وريادية وقائمة على التكنولوجيا.
وتشكّل عملية إعادة اختراع عجلة شركات التكنولوجيا الناشئة مخاطرة بالنسبة إلى الاقتصادات الخليجية. فللخليج نسخته الخاصة من “أوبر”: شركة “كريم“، التي أسسها موظفون سابقون في شركة “مكنزي” في المنطقة ودعمتها شركة أسهم خاصة. والمثير للاهتمام هو أن دبي، باعتبارها بيئة متكاملة، كانت ركنًا من أركان توأمة الأفكار هذه وهذا الإبتكار والتمويل. (وللوافدين أيضًا دور في ذلك). تمتلك دبي أيضًا شركة “أرامكس”، وهي نسخة خاصة بها عن “فيديكس”، التي ستؤدي دورًا جوهريًا في توسع مشروع “أمازون”/”سوق” وفي إطلاق منافسه مشروع “نون” الذي لم يبصر النور بعد. يجب أن تكون المنافسة شريفة، ولكن “أمازون” قد تجد نفسها على ملعب الأفضلية فيه للدولة وللشركات التابعة للدولة.
وربما يكون تحديد وتقييم الأسهم التكنولوجية والصناديق الاستثمارية في الخارج أسهل من خلق قطاعات خاصة ناشئة ترعى مشاريع جديدة. فتتطلب عملية خلق بيئة تكنولوجية متكاملة، تتعايش فيها الشركات والأفكار والابتكارات الجديدة، رأس مال بشري ونقدي، بالإضافة إلى القدرة على التحرك. وقد تكون القدرة على التحرك في منتهى البساطة كأن يتمتع الفرد بحق العمل، والحق أيضًا في الفشل والبدء من جديد.
ولذلك، سيظل استقدام اليد العاملة المخضرمة جزءًا لا يتجزأ من التنمية الاقتصادية في الخليج. ففي الإمارات العربية المتحدة، ثمة توجّه إلى إعطاء الأحقية في تأشيرات العمل إلى العمال المتخصصين كجزء من الإصلاحات في سوق العمل. وثمة استثمار ضخم يوظّف في التدريب، ولاسيما عند تقاطع التكنولوجيا والأمن، بما في ذلك الشراكات مع “ريثيون” وغيرها من مقاولي الدفاع وأنظمة جامعية وطنية.
ستكون التعديلات على الأطر القانونية للشركات، ولاسيما في ما يتعلق بالإفلاس والحصول على التمويل، ضرورية في دول مجلس التعاون الخليجي. في المملكة العربية السعودية، من المفترض أن يكون إطلاق سوق التبادل الموازية “نمو” منبرًا تجاريًا للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم يسمح لها أن تصبح شركة عامة الملكية وأن تسعى إلى استقطاب الاستثمار. حاولت “ناسداك دبي” ونجحت بعض الشيء في القيام بذلك منذ العام 2008. ولقد دخلت قوانين جديدة متعلقة بالإفلاس حيّز التنفيذ في الإمارات العربية المتحدة في أواخر العام 2016 بعد النظر في مشروع قانون تم تأجيله منذ العام 2011. وتجري حاليًا مناقشة مشروع قانون يتناول الإفلاس في المملكة العربية السعودية ومن المتوقع أن يتم إقراره هذا العام.
سيترتب على دول مجلس التعاون الخليجي أن تواجه التداعيات المترتبة عن حقوق الملكية الفكرية، وحقوق النشر والتأليف وقانون براءة الاختراع. فبالنسبة إلى بعض رواد الأعمال، إن القدرة على تشييد شركة في منطقة حرة، يطبّق فيها قانون تجاري وقانون تعاقد تابعين لسلطة خارجية (أي غالبًا الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة)، ستكون امتيازًا محفّزًا على الرغم من أنها قد تعتبر مكلفة جدًا بالنسبة إلى الشركات الناشئة والشركات التجارية التي لا تستقطب استثمارًا ضخمًا.
لطالما كانت الدول الخليجية، على مر التاريخ، تستورد التكنولوجيا أكثر مما تبتكرها. إلا أن النماذج الاقتصادية الجديدة التي تتطلّع إليها هذه الدول تتطلب عملية إعادة تشكيل جذرية للعلاقات بين الدولة والسوق لتشجيع ريادة الأعمال، وريادة الأعمال المتخصصة جدًا في ميادين مكلفة جدًا. لبرنامج التحول الوطني في المملكة العربية السعودية أهداف واضحة لاستخدام الرقمنة وتكنولوجيا المعلومات في الرعاية الصحية والخدمات الحكومية، مما سيحفّز حتمًا النمو داخل عمليات تقديم الخدمات وشراء المعدات، ولكنه قد يكون من الأصعب تحفيز التطوير المحلي للتطبيقات والبرمجيات. وتساهم الصناعات الدفاعية الناشئة في دول المجلس، ولاسيما في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية المتحدة في تحقيق هدفين: إبتكار قطاعات تركّز على التكنولوجيا تخلق فرص عمل للمواطنين الذين يتمتعون بمهارات عالية، وتحقيق الإكتفاء الذاتي الوطني في بعض مجالات الدفاع، أو على حد تعبير أحد كبار المسؤولين الإماراتيين :”الحفاظ دائمًا على مكانة متقدمة في مجال التكنولوجيا” للتنافس مع الخصوم الإقليميين. وبالتالي، فالتكنولوجيا والابتكار هما جزء من خطة البقاء الوطنية، في طريقة مشابهة كثيرًا لتلك التي تعاملت بها إسرائيل مع قطاعي التكنولوجيا والدفاع فيها.
وغالبًا ما تقدم الدولة بعض الدعم، في البيئتين التكنولوجية والإبتكارية، سواء ألعبت الدولة دور المستهلك الذي يبتاع المنتجات التكنولوجية الحديثة (ولاسيما في مجال الصناعات الأمنية والفضائية) أو إن اضطلعت بدور الحاضنة، وفي كثير من الأحيان إلى حد أن دفعت التكنولوجيا العسكرية إلى ابتكار اختراعات جديدة عبر التاريخ في ميداني الطيران والفضاء الجوي والاتصالات. وهذه هي الأطر المؤسسية التي وصفها علماء التاريخ الاقتصادي “بأنظمة الابتكار الوطنية“. ويمكن للبيئة، التي تتضمّن إطار السياسة بالإضافة إلى مجتمع العقول المفكّرة ودعم الشركات التجارية (من “المصانع الصغيرة“، والحاضنات، وسلاسل التوريد التقنية، إلى الخدمات الأساسية) أن تحدد احتمالات ابتكار فكرة جديدة واعتمادها في السوق.
وبالنسبة إلى دول مجلس التعاون الخليجي، ثمة عدد من المشاريع التي تديرها الدولة مكرّسة لبناء بيئة تكنولوجية. يعدد الجدول أدناه أبرز الحاضنات التي تموّلها الحكومات في مجلس التعاون الخليجي.
إن الجمع بين الأولويات الأمنية القومية وسياسة سوق العمل والإصلاحات الاقتصادية التي تولي الأولوية لتنمية القطاع الخاص يتوقف على الجهود التي تبذلها الدول منفردة لتطوير أنظمة وطنية مبتكرة.
من غير المرجح أن تتمكن أرامكو من الحفاظ على سياستها الحالية في توزيع عائدات الأسهم في ظل غياب انتعاش قوي في عائدات النفط. وقد يؤدي تخفيض الأرباح الموزعة إلى آثار سلبية على الأوضاع المالية للحكومة وصندوق الاستثمارات العامة.
عودة ترامب إلى البيت الأبيض ستخلق خطوط تماس وتوتر داخلية يمكن أن تؤدي إلى توترات اجتماعية وسياسية جديدة. إضافة إلى خطوط تماس أخطر خارجياً، قد تزج الولايات المتحدة في حرب تجارية مع الصين.
على صعيد العلاقات الأمريكية-الخليجية، سترث إدارة هاريس إطار عمل راسخ للمضي قدماً، ومن غير المرجح أن تتخلى عنه.
ادعمنا
من خلال تفحصها الدقيق للقوى التي تعمل على تشكيل المجتمعات الخليجية والأجيال الجديدة من القادة الناشئين، يعمل معهد دول الخليج العربية في واشنطن على تسهيل حصول فهم أعمق للدور المتوقع أن تلعبه دول هذه المنطقة الجيوستراتيجية في القرن الحادي والعشرين.