يتميز موسم الشتاء في الخليج بالجو اللطيف خلال النهار، والبرودة النسبية في الليل. تجلب هذه الأجواء اللطيفة الشعب الخليجي للعديد من الفعاليات الخارجية المصممة للاستفادة والاستمتاع الأقصى بالأشهر القصيرة التي تمثل فصل الشتاء. فقد استقطب موسم الرياض 2024-2025 أعداد غفيرة إلى “بوليفارد وورلد”، حيث يُتاح لهم فرصة استكشاف ثقافات العالم، في تجربة مشابهة لعالم ديزني، أو ديونز أوف أرابيا، حيث يتوجه السياح والسكان المحليون على حد سواء إلى الصحراء خارج الرياض ليستكشفوا الثقافة السعودية و يصنعون ذكريات لا تنسى. كما أقامت الدوحة مهرجاناً عالمياً للمأكولات، تضمن مطاعم حائزة على نجمة ميشلان [تقييم عالمي للمطاعم]، ومناطق وأكشاكاً للطعام، وعروضاً ترفيهية حية لجذب السياح من جميع أنحاء الخليج وخارجه.
في ديسمبر/كانون الأول 2024، أقامت البحرين المهرجان السنوي “أعياد البحرين”، الذي تضمن حفلات موسيقية وفعاليات، وأنشطة أخرى بهدف جمع الناس للاحتفال بثقافة البحرين وتاريخها. بالإضافة للمشاريع التجارية التي تهدف إلى جذب السياح والمستثمرين، سعى المهرجان لإحياء أزقة المنامة والمحرق القديمة من خلال الفعاليات الفنية والثقافية المحلية. تعاونت هيئة البحرين للثقافة والآثار مع وزارة السياحة، وبدعم من باعة محليين وفنانين ومعماريين وتجار وباحثين وكتاب، لتنظيم مهرجان يخاطب البحرينيين والزوار على حد سواء. توافد المواطنون والسياح بأعداد غفيرة في عطلة نهاية الأسبوع، وطيلة أيام الأسبوع، لحضور ليالي المحرق وريترو المنامة وسوق مزارعي البديع والقرية التراثية، وغيرها من الفعاليات التي تهدف إلى تسليط الضوء على العديد من قرى البحرين وبلداتها.
استمرت فاعلية ريترو المنامة لمدة أسبوعين، وعملت على إحياء بعض الشوارع في وسط مدينة المنامة، مستحضرةً ذكريات الحي في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وقد أُعيد تصميم لافتات الشوارع لتبدو كما كانت في أوج ازدهار السوق. قامت محلات تجارية بحرينية قديمة، بما في ذلك مطاعم ودور سينما وحوانيت، ببيع منتجات قديمة الطراز. كما تم ترميم مركز تسوق قديم ليضم صالة ألعاب ومتحفين، ومحلات لبيع القطع الأثرية، وبيت أشباح لإسعاد الصغار والكبار. وقد سُمي البيت على اسم “أم حمار”، وهى شخصية معروفة في التراث الشعبي البحريني، والتي كانت تُستحضر لإخافة الأطفال لمنعهم من مغادرة منازلهم وقت الظهيرة، عندما تكون الشوارع في أوج حرارتها. ومن أبرز معالم المهرجان بالنسبة للعديد من زواره كان متحف روح المنامة، الذي قدم لمحة موجزة عن تاريخ المنامة من خلال عروض سردية قصيرة عن طريق معرض جمع بين التاريخ الشفهي، وعرض التحف الأثرية التي تم استعارتها من أرشيف عائلات المنامة. وقد أعادت المجلات القديمة والآلات الكاتبة والزي الرسمي وأدوات المائدة والأطباق ذكريات حقبة في غاية البساطة، ولكنها كانت غنية بالثقافة والمجتمع.
الأمير محمد بن سلمان آل خليفة في معرض “روح المنامة”. (صورة من فاضل آل شرف)
استحضار الماضي من خلال حكاية شعب المنامة
تم إنشاء معرض روح المنامة كجزء من مشروع حكاية المنامة الذي تم تأسيسه في عام 2008 من قبل فاضل آل شرف. أسس فاضل مشروع حكاية المنامة في عام 2008 بهدف إصدار كتاب لحفظ صور المنامة القديمة التي كما وصفها فاضل “تعتبر كنز تاريخي حرام عليها أن تبقى أسيرة صناديق تجمع الغبار في أرشيفات عوائل المنامة الشخصية”. ترعرع فاضل في أزقة المنامة وحفظ كل زاوية من أسواقها الملونة، كما أنه كان شاهداً لتغيرها التدريجي الذي رأى العوائل المنامية تنتقل من بيوتها في وسط المدينة إلى الأحياء المحيطة بها والمشاريع السكنية الجديدة. انتابه شعور بأن المدينة بدأت تفقد روحها، وأراد الحفاظ على ذاكرتها، حتى لو تلاشت واجهتها الأصلية، وتم هدم مبانيها لإفساح المجال للعمارة المعاصرة والطرق الواسعة.
شهدت المنامة العديد من التغييرات في القرن الماضي، وكان أبرزها في السنوات الخمس والعشرين الماضية. فقد كان سوقها المركزي، الذي كان يضم 24 سوقاً فرعياً، يعج بالحركة والنشاط. أما اليوم، فقد تحولت أزقتها المليئة بالحياة والمشاة إلى طرق سريعة فسيحة ومواقف للسيارات وناطحات سحاب عملاقة. أما بوابتها، التي كانت ذات يوم تقع على الساحل مباشرةً، فقد أصبحت الآن على بعد أميال من المياه، مختبئة خلف فخامة المرفأ المالي وخليج البحرين، وكلاهما أُنشئ على أراضٍ مردومة.
برفقة فريق من المتطوعين، أصدر فاضل ست طبعات من كتاب “ملامح المنامة”، تناولت كل طبعة منها موضوعاً مختلفاً، بما في ذلك مدارس المنامة ومستشفياتها وأسواقها وأُسَر التجار والعمارة التقليدية، وغيرها من المواضيع. كانت هذه الكتب بمثابة بادرة لما تمخض في نهاية الأمر عن متحفٍ إلكتروني، لا يقتصر على فهرسة الصور التي جمعها فاضل من سكان المنامة في الماضي فحسب، وإنما يسرد حكايات بعض أكبر سكان الأحياء سناً وأهمية. يأمل فاضل أن تصبح هذه التواريخ الشفهية أساساً لأرشيف تاريخ شفهي وطني للحياة اليومية لمدينة المنامة وغيرها من المدن في المنطقة.
زوار يتجولون في معرض “روح المنامة”. (صورة من فاضل آل شرف)
تسهيل الوصول إلى المواد الأرشيفية
أسس فاضل المتحف الإلكتروني ليكون بمثابة منصة تهدف لتعزيز التفاعل مع ذاكرة المنامة في مخيلة أهلها. وأوضح قائلاً، “في البحرين والخليج عموماً، توجد مواد أرشيفية ضخمة، محفوظة في المكتبات الوطنية وفي البيوت، ولكن يصعب الوصول إليها. ما سعينا إليه من خلال مشروع “حكاية المنامة”، هو حفظ تلك المواد، وتمكين الناس من الوصول إليها والتفاعل معها.”
لقد حققت رؤية فاضل نجاحاً ملموساً؛ حيث يحظى مشروع حكاية المنامة بمتابعة واسعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويتواصل معه أفراد من جميع أنحاء الخليج بانتظام، من خلال رسائل تعبر عن تقديرهم، وعن حنينهم لأيام المنامة الخوالي. وقد ساهم الفريق أيضاً في إقامة معارض ومهرجانات تُتيح للجميع فرصاً للتفاعل مع المواد الأرشيفية التي جمعوها. كما يأمل فريق حكاية المنامة قريباً في إطلاق خريطة تفاعلية تساعد السكان والسياح على استكشاف الأحياء القديمة من المنامة استناداً إلى الصور الأرشيفية التي جمعت ضمن مشروع “حكاية المنامة”. كما ينظم الفريق جولات تأخذ الزائرين في رحلة عبر تاريخ المنامة في الطهي والعمارة والآثار.
العودة للتاريخ من أجل المستقبل
لقب “لؤلؤة الخليج” هو لقب يتنازع عليه سكان كل مدينة تقع سواحلها على الخليج العربي، إلا إن العديد من سكان الخليج يتفقون بأن هذا اللقب مخصص للمنامة التي كتب عنها العديد من القصص والأشعار. يقول فاضل، “المنامة ليست عاصمة البحرين فحسب، بل هي مدينة عالمية، استوعبت، ولا تزال تستوعب، سكاناً من مختلف الخلفيات والديانات. تعكس شوارعها وأسواقها تعدد ثقافات سكانها. يقال إن برلين متعددة الثقافات، ولكن المنامة تحتضن مزيجاً من الأديان والأعراق والثقافات رغم صغر مساحتها. تحتوي هذه المساحة الصغيرة على أربع ديانات، بالإضافة لدور العبادة التي تمثل هذه الديانات. وتعد المنامة كذلك مدينة رائدة في العديد من المجالات. ففيها أُسست أول بلدية في الخليج، وأول مصرف، وأول دار للسينما، وأول مدرسة، وأول مستشفى. حدثت العديد من هذه المبادرات الرائدة في هذه المدينة الصغيرة. إنها ليست كالمدن المعتادة العابرة، بل تستحق التوقف عندها لتوثيقها وأرشفتها، وإبداء الإعجاب بها”.
وعلى غرار المنامة، شرعت العديد من المدن الخليجية بأرشفة تاريخ سكانها. ثم يتم استخدام المواد الأرشيفية التي يتم عرضها في مهرجانات، على غرار ريترو المنامة، كجزء من استراتيجية شاملة لتشجيع السياحة المحلية والدولية. تحدث فاضل عن هذا التحول للحفاظ على الماضي بدلاً من تدمير المباني القديمة وإعادة بنائها للمستقبل، “ثمة اهتمام متزايد للحفاظ على تاريخ المنطقة، ليس فقط بغرض البحث العلمي، وإنما لأهداف اقتصادية واجتماعية”. وأشار إلى أن السعودية أطلقت مهرجان “يوم بدينا” الذي استقطب حشوداً كبيرة لإحياء ذكرى تأسيس المملكة. وتابع قائلاً، “تعد المجمعات التجارية والمباني السكنية الراقية والفنادق الفاخرة مهمة أيضاً للاقتصاد والتنمية في الخليج، لكن تاريخها هو الذي يمنحها الميزة التنافسية في سوق السياحة العالمية. فالقصص التي نرويها هي التي تجلب الناس إلى شواطئنا”.
ولدى سؤاله عما يحفزه على الاستمرار في أرشفة تاريخ المنامة، رد فاضل قائلاً، “ما يحفزني هو رؤية تفاعل الناس مع الأرشيف الذي جمعناه، خاصة عندما يستلهمون منه شيئاً يدفع مسيرتهم المهنية أو يخلقون من خلاله شيئاً لأنفسهم وللوطن. وما يدفعني وفريقي على الاستمرار هو تشجيع الناس على الحفاظ على تراثهم الخاص والتفاخر به. يدخل البعض لمعارضنا ويبدأون في البكاء، لأنها تعيد لهم ذكرى ظنوا أنها ضاعت. وهذا ما يشجع المبدعين في البحرين على البدء بعمل جديد، أو تعلم حرفة لطالما اعتقدنا أنها ضاعت مع الزمن، وذلك بفضل الأرشيف الذي جمعناه، ووضعناه في متناول أياديهم. أشعر بالفخر لرؤية ذلك يتحقق، وهو ما يدفعني للاستمرار ومواصلة التوثيق”.
أقر فاضل بأن النتائج والتفاعل الفوريان ليسا وحدهما ما حفزه على الاستمرار في الإبداع، والإضافة لمشروع حكاية المنامة. “إن قيمة الأرشيف وأهميته لا تظهران على الفور. فعلى سبيل المثال، بالكاد نجد من يشاهد مقاطع الفيديو التي تستغرق ساعة كاملة حول أول معلمة في البحرين، ولكن قد يرغب أحد الباحثين يوماً ما في الكتابة عنها. وقد تتسبب قصتها في تحفيز شخص ما”. و هذا الاهتمام هو ما يبث الروح للمنامة قصة تلوى الأخرى.
في ظل تزايد التوترات الإقليمية، تستعد الولايات المتحدة وإيران لبدء محادثات في سلطنة عُمان، ضمن مقاربة أميركية تجمع بين الحزم العسكري والانفتاح الدبلوماسي، في محاولة لإعادة صياغة العلاقة مع طهران.
قد تصبح صادرات الطاقة من القطاع للطاقة المتجددة والبطاريات المزدهر في الخليج المحرك الأساسي للاقتصاد، إلا أن القيود المفروضة على الربط الكهربائي مع الدول المجاورة تحول دون احراز أي تقدم ملموس في هذا المضمار.
ادعمنا
من خلال تفحصها الدقيق للقوى التي تعمل على تشكيل المجتمعات الخليجية والأجيال الجديدة من القادة الناشئين، يعمل معهد دول الخليج العربية في واشنطن على تسهيل حصول فهم أعمق للدور المتوقع أن تلعبه دول هذه المنطقة الجيوستراتيجية في القرن الحادي والعشرين.