كانت زيارة ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن، فرصة ليس فقط لمراجعة مختلف القضايا الثنائية، بل لبحث مجمل السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، بنزاعاتها العسكرية المستعرة، وتوتراتها السياسية والإثنية والمذهبية، والتجاذب المستمر داخل مجلس التعاون الخليجي، والتنافس المتنامي بين الرياض وحلفائها من جهة، وإيران وحلفاؤها من دول وميليشيات من جهة أخرى، بما في ذلك “ليلة الصواريخ” حين أطلق المتمردون الحوثيون من اليمن سبعة صواريخ ضد أهداف سعودية، ما يعني تقويض أي فرص لوساطة عمانية مدعومة من قبل واشنطن، على الأقل في المستقبل المنظور.
وتطرّق النقاش إلى العداء المتزايد “بين الاقطاب السنّة” كما وصفه سفير أمريكي سابق في إشارة إلى محور تركيا- قطر، في المواجهة السياسية ضد محور السعودية ودولة الإمارات ومصر، وتداعياته على علاقة هذه الدول بتنظيم الإخوان المسلمين، وانعكاسات هذا العداء على الدور العسكري التركي في شمال سوريا والقتال الراهن بين الجيش التركي وتنظيمات سورية-كردية.
تأييد وتحفظ
أمضى الأمير محمد بن سلمان أربعة أيام في واشنطن بحث خلالها العلاقات الثنائية مع المسؤولين الأمريكيين بما فيها التعاون في المجالات الامنية والعسكرية والاستخباراتية، وكذلك خططه لتطوير الاقتصاد السعودي والإصلاحات الداخلية من سياسية واجتماعية وثقافية، وتحديدا اهتمامه الرئيسي في جذب الاستثمارات الأمريكية من مختلف القطاعات إلى السعودية. وفي دليل على أن القضايا الأخرى التي يراها محورية لنجاحه في المستقبل، أي التعرف على آخر الإنجازات الالكترونية والعلمية والاختراعات التي ستهيمن على عالم ما بعد النفط والغاز والتي أخذته إلى ستة مدن أخرى، خصص لهذه الاهتمامات ثلاثة أضعاف الوقت الذي خصصه للسياسة في واشنطن.
ما سمعه ولي العهد السعودي من المسؤولين الحكوميين، وأعضاء الكونغرس والباحثين في مراكز الأبحاث ورجال الأعمال الأمريكيين، وتحديدا من الشركات الالكترونية تراوح بين التأييد والدعم المتحفظ والشكوك والتساؤل حول جدوى بعض السياسات والقرارات العسكرية. كان هناك دعم وتأييد للقرارات الاجتماعية والثقافية مثل إعطاء المرأة حق قيادة السيارة، والمشاركة في النشاطات العامة من ثقافية ورياضية، وتشجيع النشاطات الفنية من مسرحية وغنائية وسينمائية وغيرها، وما صاحبها من تشديد على التسامح الديني وغيرها من القرارات التي بدت للجميع على أنها تلبي احتياجات شعبية شرعية كان يجب أن تلبى منذ سنوات.
الانتقادات الحادة التي وجهها ولي العهد السعودي لإيران تخطت سياساتها المشينة في دعم نظام الأسد في سوريا وقوات الحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن، إلى مهاجمة الاتفاق النووي مع إيران، في خطوة أرادها أن تتماشى مع المعارضة المتزايدة للاتفاق من قبل الرئيس ترامب ومساعديه الجدد مثل وزير الخارجية المعين مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي جون بولتون، المتشددين في معارضتهما لسياسات إيران وللاتفاق النووي. وكانت السعودية بعد توقيع الاتفاق، وخلال ولاية الرئيس السابق أوباما، تتفادى انتقاد الاتفاق مباشرة وتركز انتقاداتها على دور إيران الإقليمي التخريبي. خلال لقائه بهيئة محرري صحيفة نيويورك تايمز تحدث الأمير محمد بن سلمان بلغة غير معتادة من مسؤولين خليجيين حين قال إن عدم التخلص من الاتفاق ومراقبة الإيرانيين يقتربون من الحصول على القنبلة الذرية “يعني أنكم تنتظرون وصول الرصاصة إلى رؤوسكم.. ولذلك عليكم التحرك من اليوم”.
ولكن الحديث عن مواجهة عسكرية محتملة ضد إيران، يثير الأسئلة المشككة من قبل المحللين ومن قبل الشركات الأمريكية التي يريد ولي العهد جذبها إلى المملكة. هذه المسألة أثيرت خلال لقاء الأمير محمد بن سلمان مع بعض الباحثين في مراكز الأبحاث، أي كيف يمكن التوفيق بين مناخ التصعيد العسكري ضد إيران، وجذب الاستثمارات الأمريكية إلى سوق قد يهزه نزاع عسكري في المستقبل القريب؟ ونسب مصدر إلى الأمير محمد بن سلمان قوله إن الانتقادات القوية لإيران لا تعني بالضرورة أن هناك سعي حثيث لمواجهة عسكرية مع إيران، مضيفا أنه يحاول “تفادي سيناريو حرب مع إيران”. من الواضح أن السعودية وحلفاء واشنطن في المنطقة ينتظرون قرار الرئيس ترامب في منتصف آيار- مايو المقبل حول الاتفاق النووي، وإن كان هناك ارتياح واضح بين حلفاء واشنطن من أن أيام الاتفاق أصبحت معدودة. اللافت أن وزارة الدفاع الأمريكية ليست مرتاحة لانهيار الاتفاق مع إيران، لأن ذلك سيؤدي إلى تصعيد في النشاطات الإيرانية المعادية لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، وربما أبعد من المنطقة.
اليمن وسوريا: نزاعات مفتوحة
دخلت الحملة الجوية السعودية-الإماراتية ضد الحوثيين سنتها الرابعة خلال وجود الأمير محمد بن سلمان في الولايات المتحدة، واعتبر المراقبون أن توقيت “ليلة الصواريخ” السبعة مرتبط بوجود ولي العهد في أمريكا لإحراجه أمام اصدقائه الأمريكيين. في حديثه مع محرري نيويورك تايمز، رسم الأمير محمد صورة ايجابية للوضع العسكري للتحالف في اليمن، على الرغم من أن “ليلة الصواريخ” التي لم تكن هامة عسكريا، إلا أن رمزيتها كانت صارخة. ولكن الأمير قلل من أهمية هذه الصواريخ واعتبرها محاولة أخيرة، أظهرت ضعفهم وليس قوتهم. ورأى الاميرمحمد أن الحوثيين يزدادون عزلة، وكرر رغبته القوية بانهاء النزاع في اليمن، مشيرا إلى أن السعودية تسعى إلى صيغة سياسية مناسبة. إطلاق الحوثيين لسبعة صواريخ اعتبر تصعيدا نوعيا، ويمثل من جملة ما يمثله رسالة سافرة من إيران للسعودية والولايات المتحدة أن الحرب سوف تستمر. بعض المراقبين رؤوا أصابع إيران وراء التوقيت ووراء تنفيذ الإطلاق الذي يتطلب تنسيقا مسبقا، وهي قدرات لم تكن متوفرة من قبل للحوثيين.
ولكن حرب اليمن كانت نقطة خلافية هامة مع الكونغرس، حيث هناك معارضة متنامية للمساعدات اللوجستية والتقنية التي توفرها القوات الأمريكية لسلاحي الجو السعودي والإماراتي. معارضو هذا التعاون في مجلس الشيوخ اقتربوا من وقفه، ولكنهم اخفقوا هذه المرة بسبب الدور القوي الذي لعبه وزير الدفاع جيمس ماتيس، مع المشرعين الأمريكيين لاقناعهم بأن هذا التعاون يقلص من الخسائر المدنية. ولاحقا كشف ماتيس عن وجود مستشارين أمريكيين يشاركون السعوديين والإماراتيين بالمعلومات الاستخباراتية حيث يلعبون دورا “ديناميا” في ضمان تخفيض عدد الخسائر المدنية. وقال ماتيس للصحافيين ” عندما نقوم بالتخطيط، نبين لهم كيف يمكن التفريق” بين المناطق المدنية والأهداف العسكرية. ولكن الامير محمد غادر واشنطن دون أي موءشرات باقتراب حل سياسي لحرب اليمن.
وكما توقعنا في مقالات سابقة، نوقش الخلاف بين السعودية والإمارات والبحرين ومصر من جهة وقطر من جهة اخرى، ولكن الرئيس ترامب كان يدرك مسبقا أن الأمير محمد بن سلمان، والشيخ محمد بن زايد يفضلان عدم عقد قمة أمريكية-خليجية في شهر آيار- مايو المقبل، وهو موقف قبله الرئيس ترامب.
هناك تسليم أمريكي-خليجي أن نظام بشار الأسد باق في السلطة على الأقل في المستقبل المنظور. وهناك إدراك خليجي بوجود أكثر من اجتهاد في واشنطن حول مستقبل القوات الأمريكية المنتشرة في شمال شرق سوريا. قبل أسابيع ألقى وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون خطابا رئيسيا حول أهداف واشنطن السياسية والعسكرية البعيدة المدى في سوريا، في الوقت الذي كان يقول فيه الرئيس ترامب إن القوات الأمريكية ستبقى في سوريا إلى حين القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية”، وبعدها العودة السريعة إلى الوطن. موقف تيلرسون كان منسقا مع وزير الدفاع جيمس ماتيس. وقالت لنا مصادر أمريكية مطلعة إن ترامب كان يريد سحب القوات الخاصة التي لا يتجاوز عددها ألفي عنصر من سوريا بعد تحرير الرقة وغيرها من المدن والبلدات السورية التي كانت قوات “الدولة الإسلامية” تحتلها، ولكن وزارة الدفاع اقنعته بابقاء القوات في سوريا لضمان عدم عودة الإسلاميين إلى إحياء قواتهم وتنظيمهم. ويوم الخميس فاجأ الرئيس ترامب المسؤولين في حكومته حين قال في خطاب أمام قاعدته الانتخابية “نحن ندمر “الدولة الإسلامية، وسوف ننسحب من سوريا في القريب العاجل” مضيفا “فلندع الآخرين يهتمون بها من الآن فصاعدا”. المسؤولون في وزارة الخارجية نفوا علمهم بأي خطط رسمية للانسحاب من سوريا.
وقبل اجتماع الأمير محمد بن سلمان بالرئيس ترامب، تقدمت السعودية والإمارات باقتراح يهدف إلى مساعدة قوات سوريا الديمقراطية المؤلفة من قوات سورية عربية وكردية التي قادت الحملة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، ويقضي بدفع رواتب عناصرها لسنة كاملة، والمقدرة بمئتي مليون دولار. الاقتراح يهدف أيضا إلى تشجيع الولايات المتحدة على البقاء في مناطقها، والحفاظ على جهوزية قوات سوريا الديمقراطية، التي تعارض وتقاوم الاجتياح التركي للمناطق الكردية في عفرين، وربما لاحقا في منبج. وليس سرا أن السعودية والإمارات تعارضان الاجتياح التركي لشمال سوريا، كما تعارضان التعاون العسكري المتنامي بين تركيا وقطر، وتركيا والسودان. ولكن الرئيس ترامب، الذي يتصرف أحيانا وكأنه يعيش ويمارس العمل في بازار سياسي ومالي، خرج باقتراح مضاد، وهو الطلب من السعودية تغطية نفقات القوات الأمريكية شرق الفرات لمدة سنة كاملة، ومن هنا اتصال ترامب بالعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز وطلبه أن تقدم المملكة مبلغ 4 مليارات دولار لهذا الهدف. حديث ترامب عن انسحاب سريع للقوات الأمريكية من سوريا، يمكن أن يفسر على أن السعودية والإمارات لن تلبيا طلب ترامب.