إن الاعتقالات المذهلة للعشرات من الأمراء البارزين والوزراء ورجال الأعمال الذين كان يعتقد أنه لا يمكن المساس بهم، والمؤشرات لحملة موسعة ضد الفساد، تثير أسئلة جوهرية حول التوجه المستقبلي للمملكة العربية السعودية. والجدال حول ما إذا كانت الجولة الحالية من الاعتقالات هي حملة حقيقية ضد الفساد أم لانتزاع السلطة من قبل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، يفتقد إلى نقطة جوهرية، وهي أن الدولة السعودية يجري إعادة تشكيلها أمام أعيننا. وفي حين أن توقيت هذا التحول لم يكن حتميًّا، إلا أنه منطقي جدًّا. والمملكة العربية السعودية الآن على مفترق طرق، حيث إن القواعد القديمة في تقاسم السلطة، وتوزيع الثروات، وإدارة شؤون المواطنين بالتوريث، لم تعد فاعلة.
استئصال الإقطاعيات
على مدى العقود العديدة الماضية، تم تقاسم السلطة في المملكة العربية السعودية بين أبناء الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود. ولم يكن هذا النظام مثاليًّا، فقد كان للمملكة العربية السعودية نصيبها من الاغتيالات، والقادة الضعفاء، والكسب المفرط غير المشروع، ولكن التوافق الذي تم التوصل إليه بين القيادات الرئيسية أبقى أسرة آل سعود في السلطة بسياسة اقتصادية وسياسية خارجية متجانسة بما فيه الكفاية للحفاظ على تحالفاتها البالغة الأهمية. لقد ازدادت صعوبة الحفاظ على نظام تقاسم السلطة هذا أكثر فأكثر بمرور المملكة من حكم الأبناء إلى الجيل الثالث من الأمراء. وتتفاقم المنافسة حتمًا مع حرمان أسر بارزة بأكملها من الخلافة المستقبلية وحرمانها من السلطة والثروة التي توفرها لها تلك المناصب. ويلقي نمو أسرة آل سعود بكاهله على نظام يعاني من الإجهاد أصلا في ظل ظروف التقشف.
لقد أدى إقصاء الأمير متعب بن عبد الله، رئيس الحرس الوطني السعودي وورود أنباء عن اعتقاله، إلى جانب إقصاء وزير الداخلية السابق -وولي العهد- محمد بن نايف وورود أنباء عن تجميد حساباته المصرفية، إلى القضاء على جيلين من المنافسين. ولكن ذلك أيضًا يقوض قاعدة “الإقطاعيات” المستقلة داخل وزارات “السلطة”، مثل الدفاع والداخلية والحرس الوطني السعودي (SANG)، التي شكلت هيكلية السلطة السياسية في المملكة عبر أجيال. ومن المؤكد أن يتبع ذلك إعادة تنظيم الأمن والمخابرات السعودية على نحو أكثر مركزية، وهذا بالفعل يجري العمل عليه حاليًّا كما هو واضح من افتتاح مركز الأمن الوطني السعودي والمركز العالمي لمكافحة الأيديولوجيات المتطرفة.
السيطرة على الإعلام
أسس أمراء آخرون نفوذهم على امتلاكهم لوسائل الإعلام وتواصلهم مع رأس المال العالمي والأعمال التجارية. وقد استهدفت الحملة الحالية أمراء بارزين في هذه المجالات، كان من أبرزهم المستثمر الدولي الأمير الوليد بن طلال. ولربما لم ينل الاستهداف الدقيق لأقطاب الإعلام الاهتمام الكافي نظرًا للأهمية المركزية لوسائل الإعلام والاتصالات في أي انتقال للسلطة. بالإضافة إلى الأمير الوليد، وهو صاحب نصيب الأسد في اتحاد “روتانا” للقنوات الإعلامية الفضائية، فقد وردت أنباء عن اعتقال كل من وليد آل إبراهيم، مؤسس مجموعة MBC، التي تملك أيضًا فضائية “العربية” للأنباء، وصالح كامل، مؤسس شبكة ART. ويمثلون معًا أكبر إمبراطوريات الإعلام في العالم العربي، ما قد يوسع بشكل كبير السيطرة الحكومية على موجات الأثير الإقليمية.
وتسمح قوانين لجنة الفساد “بإعادة الأموال إلى الخزينة العامة للدولة، وتسجيل الأصول والأموال كممتلكات دولة”، ما يزيد من إمكانية تولي الدولة للملكية. بالرغم من أن هناك تصريحات أخرى صادرة عن الحكومة تشير إلى أنه تم تجميد الحسابات الفردية فقط حتى الآن. ومع ذلك، ليس هناك شك في أن محمد بن سلمان، باعتباره من أمراء الجيل الجديد، يقدر أهمية إدارة وسائل الإعلام التقليدية والجديدة، ومتحمس للتحكم في الرسالة الإعلامية أثناء اضطلاعه بعملية صعبة لإعادة هيكلة الدولة والاقتصاد السعوديين. والواقع أن الحملة الحالية ضد قطر قد صيغت أيضًا جزئيًّا، لتهذيب تغطية قناة الجزيرة التي غالبًا ما تكون ناقدة، سواء بالنسبة للمشهد السياسي الداخلي أم لتدخلات المملكة العربية السعودية المتزايدة في المنطقة.
استمالة الشباب وتقويمهم
إن الحاجة إلى إستراتيجية إعلامية مكثفة تتطلب تزايدًا في مشاركة مواطني المملكة، ولا سيما جيل الشباب. في مملكة اليوم، لم يعد من الممكن إصدار الإملاءات من الأعلى دون تفسيرها، كما أنه ليس من الممكن تنمية الاقتصاد دون إفساح المزيد من المجال الاجتماعي. ويظهر الاهتمام بالرسالة الإعلامية في سياق الحملة الحالية لمكافحة الفساد، ولا سيما في مقبوليتها لفئة الشباب لدورها الحاسم. وفي ظل أن التقشف أصبح لا مفر منه، ومواجهة الشباب السعودي صعوبات أكبر في الحصول على وظائف حكومية، وتخفيض المعونات، فإن ضبط صفوة أفراد الأسرة المالكة المسرفين سيكون ضروريًّا للحفاظ على دعمهم للميثاق الوطني الجديد الناشئ.
يبدو أن الأهداف الأولية للجنة مكافحة الفساد حيكت خصيصًا لتتناسب مع الاهتمامات الشبابية. وقد أعلنت اللجنة على وجه التحديد عزمها على إعادة فتح التحقيق في فيضانات جدة عام 2009، بما في ذلك محاكمة السلطات ورجال الأعمال الذين ثبت إهمالهم في الاستعدادات العامة والبناء العصري. وهناك تقارير تفيد بأن هنالك عدة مئات من الأشخاص يمكن أن يكونوا قيد التحقيق، وذكرت التقارير أنه تم اعتقال بعضهم، بمن فيهم وزير سابق ورجل أعمال بارز من جدة. كانت الفيضانات في جدة تجربة بنيوية لأجيال الألفية السعوديين، والاختبار القاسي الذي أنتج أشكالاً جديدة من العمل التطوعي والنشاط الشبابي لترى الضوء للمرة الأولى أمام عامة الشعب. إن إعادة فتح الملاحقات القضائية لهذه الفترة تظهر وعيًا كبيرًا باهتمامات الشباب وتتناول بشكل مباشر مظلمة مؤثرة في خلق سياسة مستقلة للشباب في المملكة.
وتتم قولبة الاعتقالات الأخرى في إطار المناشدات الشعبية أو لصرف اللوم عن البرامج التي تفتقر للشعبية. على سبيل المثال، هنالك استياء لدى الشباب من تعليقات وزير المالية السابق ابراهيم عساف (احد المعتقلين) العامة التي تدعم تخفيض مخزون السكن ومخصصات الطلبة الذين يدرسون في الخارج. ويرتبط اسم رجل الإعلام كامل ارتباطًا وثيقا مع تنفيذ مشروع كاميرات المرور “ساهر” في المخالفات عن بعد. وبالتزامن مع الاعتقالات تقريبًا، تم الإعلان عن تدابير جديدة تتعلق برصد حركة المرور.
لقد تمت الإشادة بهذه الاعتقالات المتزايدة على وسائل التواصل الاجتماعي، بمن في ذلك أشخاص بارزون ومؤثرون في العديد من البرامج التي يديرها خبراء مؤسسة محمد بن سلمان، مسك (MiSK). كما نددت السلطات الدينية بموافقتهم وبياناتهم حول الضرورة الدينية لمحاربة الفساد.
المملكة العربية السعودية الجديدة
إنه من الصعب معرفة حجم الآثار المترتبة على هذه التغيرات العميقة التي تتلاحق بسرعة مذهلة. ولكن برز هناك اتجاهان واضحان يسترعيان الانتباه. الأول هو توجه واضح نحو مركزية السلطة في جميع جوانبها: السياسية والأمنية والإعلامية والتخطيط الاقتصادي. وهذا الدمج في السلطة سيكون له فائدة تسريع عملية صنع القرارات اللازمة لمواجهة التحديات المتعددة التي تواجهها المملكة. أما الجانب الآخر فهو أن هذه التغيرات ستقضي على الحذر وعلى أسلوب بناء التوافق الملكي الذي كان يميز القيادة السعودية فيما مضى. وما لم يتقدم النظام القانوني تماشيًا مع هذه المركزية، فستغيب بشدة المساءلة وغيرها من ضوابط السلطة. وتشير إقالة واعتقال وزير الاقتصاد والتخطيط الحالي عادل فقيه إلى أن الوزراء قد يحاسبون على البرامج الصعبة التي لا تحظى بشعبية .
إن استعطاف المشاعر الشعبية والمصلحة الوطنية تمثل اتجاهًا جديدًا وهامًّا آخر في المملكة. وتمتاز المملكة العربية السعودية الجديدة بجمهور أكثر تواصلا، وتتطلب مساهمات أكبر في الاقتصاد. وبما أنه يطلب المزيد من جيل يوصف بالجيل المتصل، فإن تعبئة الجمهور لدعم القيادة وبرامجها – بالتثقيف والملاحقات- أصبحت ضرورة.