لا بد للمرء أن يعتمد في تحليله للسياسات التي تنتهجها العائلة الحاكمة في الخليج على ما يراه. إذ يتمّ التكتّم بعناية عن المشاورات الداخلية التي لا تتّضح إلا عبر نتائجها الملموسة. وفي 21 حزيران/يونيو، بانت نتيجة هامة في المملكة العربية السعودية. فقد نجحت عائلة آل سعود الحاكمة في تجاوزها للمهمة الصعبة بطبيعتها والمتمثلة في إعادة هيكلة دوائر السلطة وتمريرها من أبناء المؤسس إلى أبناء الأبناء، وانتقت الوجه الريادي للجيل الثالث. ونجح الملك سلمان بن عبد العزيز في دمج السلطات ومنحها لإبنه: فقد بات محمد بن سلمان، البالغ من العمر 31 عامًا، ولي العهد وفي قبضته مصير المملكة العربية السعودية.
وتجدر الإشارة إلى أن عملية ترقية محمد بن سلمان كانت سريعة ولم تمرّ من دون أن تخلّف جدلا. وقد ضربت بعادات وممارسات تقليدية، لطالما تقيّدت بها العائلة المالكة، عرض الحائط في طريقها إلى شق مسار محمد بن سلمان كوريث للعرش. وعلى وجه التحديد، تم تجاهل مبدأ إحترام ومراعاة الأكبر سنًا في عائلة آل سعود الكبرى وعائلة الملك سلمان الصغرى. كما لم يتم التقيّد بتقليد بناء توافق الآراء، ولاسيما عبر تقاسم المناصب الوزارية الرئيسية، إذ عمد الأمير الشاب ووالده إلى تهميش المنافسين وإلى حصر السلطة ضمن نطاق مركزي عبر اللجوء الاستراتيجي إلى التكنوقراط والهيئات العليا.
وأما إذا كانت هذه النتيجة تلبي تطلّعات المملكة العربية السعودية والمنطقة على نطاق أوسع وتعزز استقرارها فذلك يتوقف على آراء القائد الجديد الشخصية، ورغبته في إجراء تغييرات سريعة وغير مدروسة. وفي كلتي الحالتين، من المرجح أن عملية تعزيز وتوحيد حكمه المستقبلي ستجلب المزيد من السياسات التي تم استعراضها في السنة الأولى من ولاية الملك سلمان: والتي تحرص على بسط النفوذ السعودي في الخارج، كما هي الحال في حرب اليمن ومؤخرًا في الحظر الذي فرض على دولة قطر، وعلى الاستعداد بما يكفي لتحدي مراكز السلطة في الداخل بشأن الاقتصاد والسلطة الدينية. ووحدها ملامح السياسات الإقليمية والمحلية فضلا عن الوقائع الاقتصادية هي التي ستحدد حدود صلاحياته، وليست عائلته.
تسوية المنافسة على قيادة الجيل الجديد
كان محمد بن نايف، وزير الداخلية السعودي، المنافس الأقوى لمحمد بن سلمان على قيادة الجيل القادم. وعندما تولى الملك سلمان مقاليد الحكم في العام 2016، أثبت محمد بن نايف نفسه في وقت مبكر جدًا كشخصية عامة ومرجعيّة ملكيّة يصعب تجاوزها عند تحديد خط الخلافة. وقد ارتكز قرار تعيينه كولي عهد على الاحترام الذي يحظى به في الدوائر الاستخباراتية الدولية، في حين أن منصبه على رأس وزارة الداخلية السعودية النافذة أتاح له مدّ الجسور مع شبكات استخباراتية داخلية هائلة. وفي العام المنصرم، منح الشعور المتزايد بعدم الارتياح في صفوف الشعب السعودي لتوجهات محمد بن سلمان التحررية قاعدة اجتماعية مؤيدة في العديد من الحركات الإسلامية غير الرسمية والكثير من المؤسسات الدينية في البلاد.
ومع ذلك، وبالتزامن مع تعيين محمد بن نايف وليًا للعهد، بدأ الملك سلمان وابنه بتقويض قاعدة محمد بن نايف السياسية. تولّى ولي العهد منصبه في الوقت الذي كان ديوان مكتبه منحلا، مما حرم محمد بن نايف من مصدر نفوذ ورعاية. وأدى تشييد كل من “مركز الأمن الوطني” في شهر نيسان/أبريل و“مركز دولي لمكافحة الإرهاب” في شهر أيار/مايو، المرتبطين بالديوان الملكي، إلى انتزاع قاعدة محمد بن نايف التقليدية التي تقوم على النفوذ والخبرة. تبددت أذرع تهويل هائلة عندما حُرمت الشرطة الدينية التي تشرف عليها وزارة الداخلية من صلاحياتها بالاعتقال في شهر نيسان/أبريل عام 2016، ومرة أخرى هذا الأسبوع إثر تجريد هيئة التحقيق والادعاء العام من صلاحيات الإشراف على الادعاء، وهي سلطة هائلة تتمتع بها وزارة الداخلية، وليس وزارة العدل، في المملكة العربية السعودية. كما شهد الحلفاء المحتملون في مراكز السلطة الإسلامية، “كالندوة العالمية للشباب الإسلامي” على سبيل المثال، اقتطاعًا في تمويلهم ولاحظوا أن الخناق قد ضاق على مناوراتهم السياسية.
وفي نهاية المطاف، ليست عملية عزل محمد بن نايف سوى شكليات، فقد سبق أن انتقلت صلاحياته إلى مواقع أخرى وأن أصبحت شبكات نفوذه مقيّدة. ولا تفسح موافقته الواضحة على إعفائه مجالًا واسعًا أمام أية معارضة من جانب العائلة المالكة، وتقدّم صورة واضحة عن الاتجاه الذي ستسير فيه البلاد في المستقبل.
ويأتي تعيين محمد بن سلمان وليًا للعهد ضمن مجموعة من المراسيم الملكية الأخرى التي تضع قواعد جديدة للخلافة في المستقبل وتكشف عن التعيينات الملكية الجديدة. ويسير كلاهما في الاتجاه غير الاعتيادي إلى حد ما الذي يقوم على تمكين أمراء الجيل الثالث، والذي ظهر جليًا في آخر رزمة من المراسيم الملكية التي صدرت في شهر أيار/مايو. وتشغل مجموعة منوّعة من الأمراء الأصغر سنًا مناصب بالإنابة في وزارات وحكومات إقليمية، مزوّدة محمد بن سلمان بقاعدة دعم متنوعة في صفوف أفراد العائلة المالكة الشباب. ويشير تقييم سريع للتعيينات إلى مراكز قوة نسبية في صفوف فرع عائلة بن نايف وفرع عائلة بن سلطان بالإضافة إلى فرع عائلة بن سلمان، أي جميع أحفاد السديريين السبعة الذين سيطروا على حكم الجيل الثاني من عائلة آل سعود.
والجدير بالذكر أن وزارة الداخلية قد سُلّمت إلى الأمير عبدالعزيز بن سعود بن نايف، البالغ من العمر 33 عامًا وابن أخ محمد بن نايف (الذي لا يمتلك أي وريث ذكر) وابن حاكم المنطقة الشرقية، الأمير سعود بن نايف. مما يضمن بقاء هذين المنصبين، اللذين يشكّلان ركنين من أركان الأمن الداخلي، في قبضة فرع عائلة بن نايف. ولكن حتى في هذه الحالة، لا يخفى على أحد النفوذ الذي يتمتع به محمد بن سلمان. يعمل عبدالعزيز منذ ستة أشهر تحت إشراف محمد بن سلمان في الديوان الملكي ووزارة الدفاع. ومن غير المرجح أن تعاد السلطات التي أُنتزعت من وزارة الداخلية ونقلت إلى مؤسسات جديدة تحت سلطة الديوان الملكي. تضمن التعيينات الجديدة داخل وزارة الداخلية مشاركة تكنوقراطيين فعالين وممثلين عن أقارب بن سلمان.
وتشير كافة المعطيات إلى أن هذه علامة غير مسبوقة على مركزية السلطة في المملكة العربية السعودية. وفضلًا عن سلطة محمد بن سلمان الشاملة كولي للعهد وصاحب السلطة المهيمنة داخل الديوان الملكي، يتمتع بسلطة واضحة على الاقتصاد عبر مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية والمجلس الأعلى لشركة أرامكو السعودية، بالإضافة إلى الدفاع على الصعيدين الداخلي والخارجي، عبر وزارة الدفاع وأجهزة الأمن ومكافحة الإرهاب الجديدة.
إلا أن ثمة تغيير جديد يعيق مسار هذا الانتزاع التاريخي للسلطة. يحول تعديل قانون الحكم الأساسي دون احتكار محمد بن سلمان وذريته للسلطة، عبر سن قانون يشترط أن يتحدر الملك وولي العهد من فروع مختلفة من العائلة الحاكمة، باستثناء التشكيلة الحالية. مما يعني أن ولي العهد المستقبلي قد لا يكون من فرع عائلة بن سلمان، وهي استجابة للتخوفات التي تساور البعض إزاء استبعادهم جراء تضخم مركز السلطة بشكل سريع. ويبدو أن هذا التنازل هو بمثابة إقرار بالتخوفات من الإقصاء الملكي، ولربما قد أدى دورًا في كسب الموافقة الملكية على استبدال محمد بن نايف بمحمد بن سلمان. وأفادت التقارير بأن 31 إلى 34 من أفراد العائلة المالكة في هيئة البيعة، التي تأسست على يد الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز بغية تحديد من سيتولى الخلافة في المستقبل، قد قدموا دعمهم لهذا القرار. فلو تم التأكيد على هذا التغيير في دستور المملكة العربية السعودية، قد يشرّع الباب أمام نظام ينصّ على تقاسم السلطة في المستقبل بين فرع عائلة بن سلمان وربما مع فرع عائلة بن نايف شبهًا بما يحدث في التبادل بين فروع العائلات الحاكمة منذ فترة طويلة في الكويت. ومع ذلك، ليس هناك الكثير مما قد يمنع الملك محمد بن سلمان المستقبلي الذي سيتمتع بالقوة والمناعة من تغيير قانون الحكم الأساسي مرة أخرى. فهو في سن الحادية والثلاثين وقد يبقى في السلطة لوقت طويل.
مستقبل المملكة العربية السعودية
ومن المرجح أن تشهد المملكة العربية السعودية، في ظل توحيد السلطة بشخص محمد بن سلمان، استمرارًا لأكثر السياسات حزمًا التي اتخذت على أراضيها في خلال عهده. وتعتبر هذه السياسات عصارة النزعة إلى الحكم والظروف الإقليمية والمحلية. وقد أظهر محمد بن سلمان استعدادًا دائمًا لاستثمار الفجوة الإقليمية الناجمة عن انهيار بعض الحكومات وعن تراجع النفوذ الأمريكي نسبيًا في المنطقة، والذي عززته الحاجة الملحوظة إلى دحر المكاسب الإيرانية. وقد أصبحت أوجه السلطة هذه واقعًا بفضل الشراكة المتينة التي أقيمت مع الإمارات العربية المتحدة، التي قد تكون أبرز تطور في سياسات الخليج في السنوات الخمس الماضية. وساهم هذا الاقتران في توسيع نطاق النفوذ الخليجي في كل من مصر واليمن، وفي الخطوات الصارخة التي اتخذت مؤخرًا لتحييد قطر كي لا تبقى منافسًا إقليميًا.
كما أن النفوذ الإماراتي ملحوظ أيضًا على الصعيد المحلي، إذ يستفيد ولي العهد الذي عيّن حديثًا على الخبرة الإماراتية وأمثلتها في التنوع الاقتصادي وبناء روح وطنية جديدة. إلا أن النموذج الإماراتي لا يتماشى مع نظام المملكة، التي لا تمتلك كمية الموارد عينها التي تكفي لابتكار صناعات جديدة والتي تعتمد بشكل أكبر على الدين الإسلامي كأساس للسلطة وكركن من أركان الشرعية. ومع ذلك، لا يخفى على أحد أن الخطوة التي تتخذ نحو موقف مشبّع أكثر بالحس القومي، القائم على القيادة السنية، تبدو جلية في المنظمات الوطنية والعابرة للحدود التي تنضوي تحت سلطة محمد بن سلمان. ومع مرور الوقت، قد تصبح هذه المنظمات بمثابة وسيلة جديدة بخدمة سلطة آل سعود، فتقلل من اعتماد العائلة على الشبكات الإسلامية غير الرسمية وحتى إلى حد ما على المؤسسة الدينية للتمتع بالشرعية. ولن تقلّ تحديات تحويل الاقتصاد المبنيّ على الرؤية السعودية 2030 عنها أهمية، بما في ذلك الخطوة غير المسبوقة نحو خصخصة شركة أرامكو جزئيًا، وهي خطوة تخوّف منها التكنوقراط المحافظون الذين يشرفون على الاقتصاد السعودي.
وفي سياق إدارة هذه التحولات على الصعيدين الدولي والمحلي، يأمل محمد بن سلمان أن يعوّل على الشراكة التقليدية بين الولايات المتحدة والمملكة. ولقد أقام علاقات شخصية وطيدة مع كل من الرئيس الأمريكي دونالد جي. ترامب وصهر ترامب ومستشاره جاريد كوشنر. سيتمكن محمد بن سلمان من التحكم بعلاقته مع واشنطن عبر تعيين شقيقه، الأمير خالد بن سلمان، سفيرًا. إلا أن هذه العلاقة المميزة لن تجعله محط ثقة مطلقة بالنسبة إلى الولايات المتحدة وربما لن يشعر بالراحة عينها التي كان يشعر بها أسلافه لدى تعاملهم مع صناع السياسات الأمريكيين.
الشعب السعودي يراقب
استيقظ الشعب السعودي على التحوّل المصيري في السلطة الذي أُبرم فيما كانوا نائمين. ثم شاهدوا طرحًا محبوكا بصورة جيدة للنظام الجديد، وفيه تركيز على تواضع الأمير الشاب في قبوله لبيعة ولي العهد المتقاعد، فضلًا عن أشرطة الفيديو التي تظهر الملك الراحل عبدالله وهو يتوقع كيف سيكون مستقبل الوريث الشاب في الحكم.
وقد باتت وسائل التواصل الاجتماعي توفر وسيلة جديدة للتعبير عن الولاء للنظام الجديد إلا أنها لم تقدم سوى علامات قليلة تدل على معارضة البعض على انتقال الحكم. وتجدر الإشارة إلى أن حتى الشخصيات البارزة في المعسكر الإسلامي الذين هم الأقل فرحًا بالمنحى الذي اتخذته سياسة محمد بن سلمان، أعربت بكل إخلاص عن تمنياتها للملك ولمحمد بن سلمان وعبّرت على الملأ عن آمالها في أن تتسم فترة حكمه بالحكمة وأن تعود بالخير على الشعب والوطن. وقد تعرضت هذه الشخصيات بالإضافة إلى شيوخ بارزين يظهرون على وسائل الإعلام، الذين غرّدوا بدورهم على موقع تويتر للتعبير عن تأييدهم وأطيب التمنيات، لموجة من التعليقات السلبية من الخارج، التي عبّرت عن خيبة أمل مغرّديها بعدم استقلالية هذه الشخصيات. وأعرب متابعون آخرون بثقتهم بنهج القيادة الإسلامية الذي يتمتع به محمد بن سلمان.
ومع ذلك لا يمكن لأحد أن يتجاهل اعتبارات الرأي العام، ولاسيما إن كان العاهل الشاب من الجيل الجديد الملمّ جيدًا بوسائل التواصل الاجتماعي المعاصرة. وجاءت ترقية محمد بن سلمان مصحوبة بقرار إعادة بدلات الموظفين إلى سابق عهدها بعد أن اقتطعت على خلفية تدابير التقشف التي اتخذت مؤخرًا بالإضافة إلى تمديد عطلة العيد للعاملين في السلكين العسكري والمدني. ولم تشمل العطاءات القطاع الخاص السعودي الذي يشكل شريحة كبيرة من العاملين ضمن رؤية 2030.
ويشير إعلان محمد بن سلمان وليا للعهد إلى إزالة لكل من القيود المفروضة على سلطته، وانتهاء لاحتمالية اتخاذ السياسات منحى مغايرًا تمامًا إن حكم محمد بن نايف البلاد، أكثر منه تغييرا في مسار الحكم في البلد. وفي الوقت الراهن، يتولى محمد بن سلمان قيادة البلاد من دون أن تعترضه أي معارضة داخلية ملحوظة بهدف ردعه. وسينضم إلى الشخصيات الملكية التي أنتجها الجيل الجديد في منطقة الخليج والتي أشرفت على التوسع المثير للإعجاب الذي شهدته الثروة والنفوذ الخليجيين، بالإضافة إلى التنافر الذي خلفته جداول الأعمال الخليجية المتضاربة في الشرق الأوسط.