عانت العملية السياسية الليبية من انتكاسة كبيرة، تم انعقاد ملتقى الحوار السياسي الليبي، الذي ترعاه الأمم المتحدة، من يوم 28 يونيو/حزيران حتى 2 يوليو/تموز، في مسعى للتوصل إلى إجماع حول كيفية المضي قدمًا نحو إجراء الانتخابات في ديسمبر/كانون الأول، ولكن لم يتمكن الـ 75 مبعوثًا من التوافق على أساس دستوري للانتخابات. أشار المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى ليبيا يان كوبيش في مؤتمرٍ صحفي، عقده في 15 يوليو/تموز إلى أن ثمة فصائل وأفراد يحاولون تأخير أو عرقلة العملية. إضافة إلى ذلك، ومع تعثر العملية السياسية، أعلن الجنرال خليفة حفتر، الذي يقود الجيش الوطني الليبي المتمركز شرق ليبيا، في مقابلة له أنه في حال عدم الوصول إلى حل سياسي، “فإن الجيش الوطني الليبي سيكون على استعداد مجددًا لتحرير طرابلس من الميليشيات والمجرمين”، مهددًا بشن حملة عسكرية ثانية على طرابلس على غرار الهجوم الذي قاده في نيسان/ أبريل 2019.
توضح تلك التطورات الأخيرة العلاقة المتداخلة بين التطورات السياسية والعسكرية في ليبيا. من المرجح لوقف إطلاق النار أن يصمد في ليبيا، فقط، إن أحرزت العملية السياسية، التي ترعاها الأمم المتحدة، تقدمًّا. وهذا كان واضحًا ليس فقط عندما هدد حفتر باستئناف القتال، وإنما أيضًا عندما قامت مؤخرًا اللجنة العسكرية المشتركة 5+5، وهي مجموعة مؤلفة من 10 من كبار الممثلين العسكرين من الأطراف المتحاربة في ليبيا، الذين اتفقوا على السير قدمًا في تنفيذ وقف إطلاق النار في أكتوبر/تشرين الأول 2020، بتأجيل إعادة فتح الطريق الممتد على طول الساحل الذي يربط الشرق بالغرب، احتجاجًا على فشل ملتقى الحوار السياسي الليبي في التوصل إلى اتفاق، وتأخر انسحاب القوات الأجنبية من البلاد.
انقسامات مؤسساتية مستفحلة
لا تزال المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية الليبية منقسمة بشكل كبير. يعزى تعثر ملتقى الحوار السياسي الليبي، بشكل كبير، إلى الفصائل التي تطمح في ترسيخ وتوسيع نفوذها في مؤسسات الدولة قبيل إجراء الانتخابات، التي قد تحد من وصولها إلى خزائن الدولة والسيطرة السياسية. أكد كوبيش في مؤتمره الصحفي الذي عقد في شهر يوليو/تموز على أن:
المصالح المؤسساتية والسياسية والفردية تقف عائقًا في طريق الاتفاق على إطار العمل القانوني الضروري لإجراء الانتخابات يوم 24 ديسمبر/كانون الأول 2021 كما تم الاتفاق في ملتقى الحوار السياسي الليبي في سياق خارطة الطريق التي أقرها الملتقى، وصادق عليها مجلس الأمن. تلجأ قوى الأمر الواقع القديمة منها والحديثة إلى استخدام تكتيكات متنوعة وتسوق حججًا مشروعة يترتب عليها نتيجة واحدة – عرقلة إجراء الانتخابات. لقد وصفهم من سبقني في المنصب، الذي خاض التجربة نفسها بأساليب مماثلة، بأنهم “مخربون”، وهو وصف صائب نظرًا لتأثير النهج الذي استخدموه ومراوغتهم.
ناقش ملتقى الحوار السياسي الليبي مواضيع تضمنت الدستور المستقبلي، والانتخابات والعديد من المسائل الأخرى في آخر اجتماع له في جنيف. تم وضع أطر العمل الدستورية كمقترح من أجل التقدم في سير العملية الانتخابية، لكن بعض الفصائل لم تلتزم بالإطار الزمني الذي حدده ملتقى الحوار السياسي الليبي في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 لإجراء الانتخابات في ديسمبر/كانون الأول. قامت بعض الفصائل بوضع شروطٍ مسبقة لإجراء الانتخابات، وأخرى اقترحت إبقاء الحكومة المؤقتة على رأس السلطة. وهذا قد يعني فقط أن انتخابات تشريعية فقط هي التي ستجرى في ديسمبر/كانون الأول. تضمنت جوانب الجدال الأخرى مناقشات حول الاقتراع المباشر مقابل الاقتراع غير المباشر، والقواعد التي تحكم من يمكنه خوض الانتخابات. إن هذا يتعلق بالاختلافات حول ما إذا كان المواطنون ذوو الجنسية المزدوجة، مثل حفتر وسفير ليبيا السابق لدى الإمارات العربية المتحدة عارف علي النايض، سيُسمح لهم بخوض الانتخابات أم لا. النايض هو مسؤول دبلوماسي ليبي كبير وحليف مقرب من الإمارات وزعيم تكتل “إحياء ليبيا” السياسي. ولديه طموحات في الوصول إلى منصب رئيس الوزراء منذ سنوات عدة.
ومع ذلك، فقد شددت بعثة الأمم المتحدة على أن الاقتراحات “التي لا تجعل العملية الانتخابية قابلة للتحقيق وممكنة الحدوث في 24 ديسمبر/كانون الأول لن تؤخذ بعين الاعتبار”. ودعا كريستيان باك، مدير شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لدى وزارة الخارجية الألمانية لعدم إرجاء الانتخابات محذرًا من أن هذا الإجراء “قد يمهد الطريق لحدوث سيناريوهات خطيرة”. وأكد المبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى ليبيا ريتشارد نورلاند أن “العديد من أعضاء” ملتقى الحوار السياسي الليبي كانوا يستخدمون “حبوبًا سامة” لمنع إجراء الانتخابات.
سلط كوبيش الضوء، على وجه الخصوص، على التوترات القائمة بين حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة ومجلس النواب، وبين حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة والجيش الوطني الليبي، وكذلك بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة. لم تتمكن مؤسسات الدولة تلك من الوصول إلى تسويات حول الأشخاص الذين سترشحهم لتقلد مناصب رئيسية في الحكومة، بما في ذلك منصب وزير الدفاع، الذي سيكون دوره مركزيًا في حفظ وقف إطلاق النار، وتوحيد القوى العسكرية المقسمة. كما أشار كوبيش إلى وجود نزاعات حول قيادة البنك المركزي، بالإضافة إلى المزاعم بأن الحكومة المؤقتة لا تدفع لقوى المعارضة والمقاتلين. إن هذا قد يفضي إلى تفكك اللجنة العسكرية المشتركة 5+5، وهي مجموعة مؤلفة من مسؤولين عسكريين كبار من أطراف النزاع المتحاربة في ليبيا. إن الخطوة الضرورية والجوهرية التي يتطلبها حفظ وقف إطلاق النار وتعزيز العملية السياسية ستكون إعادة توحيد القوى المسلحة الليبية تدريجيًا. ولهذا السبب، إن التزمت حكومة الوحدة المؤقتة بالدفع لبعض المقاتلين وامتنعت عن الدفع للآخرين؛ فإن هذا سوف يتسبب في المشاكل.
الجهات الأجنبية الفاعلة تعيد تقييم أدوارها في ليبيا
عقد مؤتمر برلين الثاني في شهر يونيو/حزيران قبل انعقاد ملتقى الحوار السياسي الليبي. حضر المؤتمر الحكومة الانتقالية الليبية ووزراء خارجية كل من فرنسا وألمانيا ومصر وتركيا وتونس والجزائر وإيطاليا ووزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن، ومسؤولين كبار من روسيا والإمارات ودول أخرى. تمخض الاجتماع عن إعلانٍ ختاميٍّ يؤكد على التزام الحكومة الانتقالية بإجراء الانتخابات في ديسمبر/كانون الأول، وعلى أهمية انسحاب المرتزقة الأجانب من البلاد “في غضون أيام” من انعقاد مؤتمر برلين.
أفاد دبلوماسيون شاركوا في المؤتمر أن فرنسا قدمت اقتراحات لانسحاب تدريجي للقوات الأجنبية ناقشتها مع الولايات المتحدة وتركيا. وأقرت مصادر دبلوماسية رفيعة بوجود اتفاق مبدئي بين تركيا وروسيا على بدء سحب أعداد قليلة من المقاتلين الأجانب، بالأخص سحب 300 من المقاتلين المرتزقة السوريين من كل جانب. وما هذا العدد إلا نقطة من بحر المقاتلين الأجانب المتمركزين في البلاد، والذين يبلغ عددهم 20,000، لكن البدء الجاد في سحب تدريجيٍ للقوات قد يكون خطوة في الاتجاه الصحيح. هناك مخاوف من أن سحب المقاتلين الأجانب على وجه السرعة قد يشكل خطورة على التوازن الهش بين قوى الأمن التي تعمل في الوقت الراهن على إبقاء وقف إطلاق النار قائمًا. في تعليق لوزير الخارجية الألماني هيكو ماس على تلك الاتفاقية المذكورة أوضح قائلاً، إنه “حالما يبدأ الانسحاب، ستكون هناك فترة طويلة ريثما تنسحب جميع القوات… لكن ذلك سيشكل نهجًا متدرجًا”.
عبرت مجموعة من البلدان الرئيسية، التي كانت تساند بدرجات متفاوتة مختلف الأطراف في حرب ليبيا على مدى سنين عديدة، ومن ضمنها تركيا وروسيا والإمارات وفرنسا ومصر وقطر وبلدان أخرى، عن دعمها لملتقى الحوار السياسي الليبي الذي ترعاه الأمم المتحدة، لكن هناك مخاوف بأن بعض البلدان لا تزال تفرض نفوذها من خلال أطراف ليبية فاعلة ومؤسسات تقوم بدور تخريبي في العملية السياسية. ومن ضمن هؤلاء أشخاص ذو نفوذ في الساحة العسكرية، مثل حفتر والجيش الوطني الليبي الذي يقوده، بالإضافة إلى شخصيات سياسية رئيسية مثل المتحدث باسم مجلس النواب في طبرق عقيلة صالح الذي يزعم بعض الخبراء بأنه يحاول الزج بحلفائه الرئيسيين في مناصب قيادية في بعض أهم المؤسسات السياسية الليبية، مثل محافظ البنك المركزي، قبل موعد إجراء الانتخابات. تصف بعض التقارير التوترات الحاصلة بـ “مباراة مصارعة بالأيدي” بين صالح وحكومة الوحدة الوطنية. حاز كل من حفتر وصالح على دعم دبلوماسي، وعسكريٍ في بعض الأحيان، من فرنسا والإمارات ومصر وروسيا.
في اجتماع افتراضي لمجلس الأمن في يناير/كانون الثاني، حددت الولايات المتحدة تركيا وروسيا والإمارات، كجهات فاعلة رئيسية تدفع بمقاتلين أجانب في ليبيا. قال ريتشارد ميلز، رئيس بعثة الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة، إن الولايات المتحدة تدعو “جميع الأطراف الخارجية، ومن ضمنها روسيا وتركيا والإمارات لاحترام السيادة الليبية، والوقف الفوري لجميع التدخلات العسكرية في ليبيا”. ردًا على ذلك، وعد سفير الإمارات إلى الأمم المتحدة بالعمل مع الأمم المتحدة للمساعدة على حل الصراع الليبي، وشدد على أن “الإمارات تعتقد اعتقادًا راسخًا بأن الحلول الدبلوماسية والسياسية هي الطريق الوحيد لإنهاء الصراع الليبي”. أفاد تقرير لـ العربي الجديد صدر في مارس/آذار بأن المفاوضات الجارية بين اثنين من أبناء حفتر والإمارات أفضت إلى اتفاق على سحب حوالي 5000 من المرتزقة السودانيين والتشاديين من جنوب وشرق ليبيا. ويفيد التقرير بوصول فريق متقدم من بعثة مراقبي الأمم المتحدة، في هذه الأثناء، للشروع في مراقبة وقف إطلاق النار وخروج المقاتلين الأجانب. لكن على ما يبدو أنه لم يحدث أي انسحاب كبير للقوات الأجنبية في هذه المرحلة، على الرغم من أن وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش قالت خلال مؤتمر برلين المنعقد في يونيو/حزيران أنها توقعت بدء عملية الانسحاب قريبًا. وقد نقلت المنقوش للمراسلين بأنه “لقد أحرزنا تقدمًا فيما يتعلق بالمرتزقة، لذلك فإننا نأمل خلال الأيام القادمة… أن يتم انسحاب المرتزقة من كلا الجانبين، وأعتقد أن هذا أمر مشجع”.
يشير هذا التحول في الجهود الدبلوماسية والسياسية المبذولة في ليبيا إلى ما يبدو أنه توجه واسع لدى العديد من الجهات الفاعلة الإقليمية، بما في ذلك دول الخليج، نحو الحد من التصعيد في ساحات النزاع الرئيسية في المنطقة، ومن ضمنها ليبيا واليمن وسوريا. جادل البروفيسور الإماراتي في العلوم السياسية عبد الخالق عبد الله مؤخرًا في دورية كايرو ريفيو للشئون الدولية (The Cairo Review of Global Affairs) بأن الإمارات بصدد إعادة تقييم تواجدها العسكري في مناطق النزاع مثل ليبيا واليمن. حيث كتب، “في حين أن الإمارات لم تصل بعد إلى الاستخدام المفرط لمصادرها المالية والسياسية والعسكرية والدبلوماسية المعتبرة، إلا أن المبالغة في التوسع والسيطرة تعد مبعث قلق متنامٍ”. كما تواصل دول خليجية أخرى مثل السعودية وقطر التعبير عن دعمها للعملية التي ترعاها الأمم المتحدة. قام رئيس وزراء ليبيا المؤقت عبد الحميد دبيبة مؤخرًا بزيارة للإمارات والسعودية والكويت في أبريل/نيسان، في حين أجرى وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني محادثات مع دبيبة في طرابلس في مايو/أيار.
التطورات السياسية في ليبيا تعكس ديناميكيات إقليمية أوسع
لا تزال الانقسامات بين المؤسسات السياسية والأمنية والمالية الليبية تشكل عقبة رئيسية في طريق البلاد نحو العملية الانتقالية السياسية، ولا تزال القوى الأجنبية تؤجج تلك الانقسامات لخدمة مصالحها الاستراتيجية. ربما وافقت القوى الأجنبية علنًا على سحب المقاتلين الأجانب ودعم العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة، إلا أننا ما زلنا نفتقد الدليل القوي على أن عملية الانسحاب قد بدأت بالفعل. تركز بعثة الرصد التابعة للأمم المتحدة على تتبع تلك المسألة، وتطبيق وقف إطلاق النار الذي من المفترض أن يؤدي دورًا حيويًا في الانسحاب. إن الضغوط الدولية لسحب القوات الأجنبية وإجراء الانتخابات لن تتوقف، ما من شأنه أن يعقد الأمر على كلٍ من مؤسسات الدولة الليبية والجهات الفاعلة الأجنبية الساعية علنًا لتخريب العملية، رغم أن الميول السياسية للتخريب لا تزال معلنة.
علاوة على ذلك، حتى لو غادر الكثير من أولئك المقاتلين الأجانب البلاد، وهذا قد يشكل خطوة كبيرة في الاتجاه الصحيح، فمن المرجح أن تتواصل الحرب بالوكالة في ليبيا من خلال وسائل أخرى. لا يزال بالإمكان تأجيج الانقسامات الداخلية من قبل أطراف خارجية متخوفة من فقدان نفوذها في الدولة الواقعة في شمال أفريقيا ذات الأهمية الاستراتيجية – الدولة التي تكمن أهميتها ليس فقط في غناها بالنفط، بل أيضًا بكونها في قلب نزاعات دول شرق المتوسط حول الحدود البحرية واستكشاف الغاز، بالإضافة إلى التنافس الإقليمي والتنافس بين القوى العظمى. ومع ذلك، يجب عدم المبالغة في القلق بشأن الجانب الخارجي المؤجج للانقسامات، إذ إن الانقسامات السياسية الداخلية في ليبيا – التي ترمز إلى الصراع من أجل القوة والنفوذ، إضافة إلى القوى القبلية والإقليمية والأيدولوجية – متأصلة بعمق، بل ومستعصية كما يجادل البعض.
بعدما وصل اجتماع جنيف الأخير إلى طريق مسدود، استضافت بعثة الدعم التابعة للأمم المتحدة الاجتماع الافتراضي المنعقد بتاريخ 16 يوليو/تموز لـ اللجنة المكلفة بسد الفجوة بين الاقتراحات التي شكلها ملتقى الحوار السياسي الليبي لمواصلة مناقشة المقترحات لصياغة مسودة دستور قد تشكل الأساس القانوني لإجراء الانتخابات. الأمل معقود على أن تكون حالة الجمود الراهنة هي حجر عثرة مؤقتة.
وفي حين أن العملية السياسية الليبية منهكة بسبب الانقسامات والمخربين، إلا أنها على ما يبدو هي السبيل العملي الوحيد لإحراز تقدم في المرحلة الراهنة. إن ما يحدث في ليبيا سيبعث بإشارة، من نواحٍ عدة، على ما إذا كانت الجهود نحو الدبلوماسية والحوار والحد من التصعيد في المنطقة – من جانب الجهات الفاعلة الإقليمية والعالمية- تمثل تغيرات بعيدة المدى في التفكير الاستراتيجي أم أنها مجرد انتهازية قصيرة الأجل.