لطالما أعطت المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى الأولوية لمصالحها الوطنية عند اتخاذ قرارات تتعلق بإنتاج النفط، وهي محقّةٌ في ذلك. وتعتبر هذه الدول أنه من الغطرسة أن تتوقّع الولايات المتحدة منهم أن يكونوا بمثابة ما يشبه ماكينة الصرافٍ الآلي في مجال النفط. إلا أنه في ظل الخلافات الأخيرة، على دول الخليج العربية أن تتنبه إلى أن سوق الطاقة ثلاث تحولات رئيسية.
في 5 أكتوبر/تشرين الأول، قررت مجموعة أوبك بلس، التي تضمّ الدول المنتجة للنفط من منظمة أوبك والدول المنتجة للنفط من خارج أوبك، في فيينا خفض الإنتاج بأكثر مما كان متوقعًا، مليونَي برميل في اليوم، وذلك في مواجهة ضغوطٍ ومعارضة شديدة من جانب الولايات المتحدة. وأتى ردّ البيت الأبيض ساخطًا في وجه السعودية بشكلٍ خاص، بحجّة أن القرار ينحاز إلى روسيا – وهي الدولة العضو البارزة الأخرى في أوبك بلس – في حربها ضد أوكرانيا ويهدّد سلامة الاقتصاد العالمي. وتجدر الإشارة أن الأسعار الحالية ليست استثنائيةً استنادًا للمعايير التاريخية، كما أنها ليست كافيةً بحدّ ذاتها لتبرير ردّ فعل الولايات المتحدة الغاضب، وقد تراجعت الأسعار فعليًا منذ الاجتماع.
والحال أن الخفض الفعلي سيكون أقلّ مما تمّ الإعلان عنه، إذ أن إنتاج العديد من الدول الأعضاء لم يبلغ المستويات المسموح بها. وتشير حسابات بلومبرج إلى أن الخفض الحقيقي قد يكون أقرب إلى 900 ألف برميل في اليوم، في حين صرّح وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان بأن الخفض سيتراوح بين 1 إلى 1.1 مليون برميل في اليوم. بيد أن الضرورة الاقتصادية تظل محل نقاش. يُذكر أن الأسعار تراجعت من نحو 124 دولارًا للبرميل في يونيو/حزيران إلى 84 دولارًا قبل الاجتماع – وإلا لما تم فرض أي خفضٍ في الإنتاج.
وصحيحٌ أن الاقتصاد العالمي متزعزع، لكن ما من مؤشرات واضحة كثيرة على انهيار الطلب. فستضطر الصين في مرحلةٍ ما إلى البدء بالتخفيف من إجراءات الإغلاق الناتجة عن فيروس كورونا، ولعل ذلك يحدث بعد انتهاء المؤتمر الوطني لـلحزب الشيوعي الصيني في 22 أكتوبر/تشرين الأول. وكان بإمكان أوبك بلس أن تتريث لترى مدى فعالية الحظر الأوروبي على النفط الروسي عند دخوله حيز التنفيذ في 5 ديسمبر/كانون الأول. إن تقليص العرض الآن يهدد بتعزيز التضخم، وتسريع وتيرة ارتفاع معدلات الفائدة، وإبطاء عجلة الاقتصاد العالمي وبالتالي استهلاك النفط.
في هذا السياق، حذّر الرئيس التنفيذي لشركة أرامكو السعودية أمين الناصر من أن الاحتياطي العالمي لا يزال “متدني للغاية”. ولا شكّ في أن خفض الإنتاج يزيد من هذا الاحتياطي، ولكن على حساب استنزاف المخزون الذي يمثل مانع الصدمات الآخر في سوق النفط. وتردد أن مسؤولين سعوديين أخبروا وفدًا أمريكيًا بأنه إن كانت الولايات المتحدة ترى أن السوق بحاجة إلى مزيد من النفط، فعليها إنتاجه بنفسها.
إلا أن الانخفاض الكبير في الإمدادات العالمية ينبع من الدول الأعضاء في “أوبك بلس” نفسها. ففي سبتمبر/أيلول، سجّل إنتاج “أوبك” انخفاضًا بنحو 1.4 مليون برميل في اليوم عن المستهدف، في حين سجّلت حصص إنتاج الدول من خارج المنظمة انخفاضًا بواقع 2.2 مليون برميل في اليوم، حيث يُعزى الـ 1.3 مليون برميل في اليوم من هذا الانخفاض إلى روسيا. ومن المتوقع أن تزيد السعودية نفسها قدرتها بواقع مليون برميل في اليوم فقط بحلول عام 2027. وحدها دولة الإمارات العربية المتحدة التي لديها خطط توسعية ملحوظة وموثوقة من بين جميع الدول المشاركة.
ليست هذه المرة الأولى التي تختلف فيها أوبك، وخصوصًا السعودية، مع الولايات المتحدة بشأن إنتاج النفط. فناهيك عن الحظر الذي فرضته مجموعة من الدول العربية المصدّرة للنفط بين عامَي 1973 و1974، زادت الرياض إنتاجها بحذر في مايو/أيار 2008 وسط الارتفاع الكبير في الأسعار رغم مناشدات الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش الابن. فيمكن أن، أو أنه بالفعل، تفهم أوبك توجهات السوق بشكلٍ خاطئ، إذ غالبًا ما تجنح أوبك نحو الأسعار المرتفعة. إلا أن مواقفها تستند بشكلٍ شبه دائم إلى مبرراتٍ اقتصاديةٍ منطقية، ولو أنها لا تستند بالضرورة إلى السياسة. في المقابل، كان الجانب السياسي – أي الشؤون المحلية الأمريكية – أساسيًا في مناشدات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، منذ رئاسة ريتشارد نيكسون، التي عادةً ما كانت تميل إلى خفض الأسعار، وفي بعض الأحيان إلى رفعها.
على الرغم من أن القرارات غير مستندة إلى أساسٍ سياسي عمومًا، تترتب عليها تداعيات سياسية كبيرة. فقد زادت السعودية الإنتاج عدة مرات من أجل مواجهة تعثّر الإمدادات من إيران والعراق وليبيا وفنزويلا، وهي جميعها دول أعضاء في “أوبك”. وفي كافة هذه الحالات، كانت مقاربتها مفيدةً لسياسة الولايات المتحدة. ومن الأمثلة في هذا السياق، حالات انهيار أسعار النفط عام 1986 خلال الحرب بين إيران والعراق، وغزو صدام حسين عام 1990-1991 للكويت، والعقوبات على إيران بين 2012 و2015 ومنذ 2018، كانت خطوات السعودية مجحفةً بحق أصدقائها المفترضين. إلا أنه يتعين على الرياض اليوم أن تكون أكثر حذرًا بسبب التحولات الرئيسية الثلاثة في سوق الطاقة.
يتمثل التحول الأول في انتهاء ثورة النفط الصخري الأمريكية. ولابدّ من أن يواصل إنتاج النفط الأمريكي نموه، ولكنه يواجه قيودًا في سلاسل التوريد وحذر المستثمرين وعدم رضا شركات النفط الصخري الأمريكية على سياسات إدارة الرئيس جوزيف بايدن المناهضة للنفط الأحفوري، ولو أنها لم تحمل أثرًا كبيرًا من الناحية العملية. فلم تعد الولايات المتحدة قادرةً، كما كانت خلال السنوات العشرة ما بعد عام 2010، على تلبية كامل الطلب العالمي المتنامي وإغراق السوق.
يُذكر أنه تم إنشاء أوبك بلس أساسًا لأن منظمة “أوبك” أدركت عدم قدرتها على الوقوف في وجه النفط الصخري الأمريكي بمفردها، وأنها بحاجة إلى روسيا وحلفاء آخرين لتجنّب أي تنازل عن حصتها السوقية. وصحيحٌ أن هذا المبرر بات من الماضي، لكن أوبك بلس مستمرة. وبالفعل، تنتج “أوبك” نحو 52% من النفط في العالم، وهو أعلي من مستوى ذروة الإنتاج الذي حققته المنظمة بين عامَي 1973 و1974 والبالغة 50%.
أما التحول الثاني يتعلق الحرب الروسية-الأوكرانية والانتقال العام نحو سياساتٍ دولية قائمة على المواجهة بشكلٍ أكبر، لا سيما فيما يتعلق بالسياسات الغربية إزاء الصين. وعليه، فإن دعوة سوق النفط لموسكو إلى فيينا واضحة الأسباب. إلا أن جلب قوةٍ عظمى معرقِلة ولديها سلاح نووي وطموحات على امتداد العالم إلى أوبك بلس هو مسألة مختلفة تمامًا عن ضمّ بروناي أو الكونغو مثلًا.
وإذا ما تم النظر إلى أوبك بلس من جديد على أنها جهة معادية للغرب، وليس قوة بنّاءة تسعى لإرساء الاستقرار، سيجد العملاء سبلًا للوقوف في وجهها. هذا وتعتزم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وضع سقفٍ على سعر صادرات النفط الروسية لحرمان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أي إيرادات. ويسود أروقة أوبك القلق من أن تلتف هذه الآلية على الدول الأعضاء في حال اعتمادها. فقد تمّ تشديد العقوبات على الصناعات النفطية في إيران وفنزويلا بصورة مطّردة.
هذا وتسعى دول مجلس التعاون الخليجي إلى الحفاظ على اصطفافها مع الغرب، فيما أصبحت الصين أهم عملاء الطاقة لديها وأهم شركائها التجاريين، وأصبحت روسيا ثقلًا موازنًا مفيدًا على الصعيدين الدبلوماسي والعسكري. إلا أنه حتى بكين لا يمكنها أن ترضى بالأسعار المرتفعة التي تفرضها تارةً الرياض وتارةً أخرى موسكو. فقد أصبحت لعبة التوازن هذه أصعب بكثير.
تشكو الدول الخليجية من تجاهل الولايات المتحدة لأمنها، في حين يهدّد المشرّعون الأمريكيون بتقليص الدعم العسكري. وبصرف النظر عن مدى نفور هذه الدول من إدارة بايدن ومساعيها لإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، كان الرئيس دونالد ترامب من قال إنه “ليس هناك عجلة” للتدخل في أعقاب هجمات سبتمبر/أيلول 2019 بالصواريخ والطائرات المسيرة، والتي يتم اتهام إيران بالقيام بها، على منشآت النفط الرئيسية في بقيق وخريص في المنطقة الشرقية السعودية. وفي حال تبلور تهديدٌ إيراني جدّي لصادرات النفط أو الغاز الخليجية في ظل هذا الوضع الدقيق الذي يشهده قطاع الطاقة اليوم، ستتدخل الولايات المتحدة من دون شكّ ولكنها ستضع شروطها.
أخيرًا، يتمثل التحول الثالث في قضية التغيّر المناخي طويلة الأمد. في هذا السياق، غالبًا ما تحذّر الولايات المتحدة أوبك من أن خفض الإنتاج سيضرّ بالاقتصاد العالمي والطلب على منتجاتها. وكانت أزمتا 1973-1974 و1978-1980 قد ألحقتا ضررًا دائمًا في استهلاك النفط، كما أفضتا إلى حدوث تطوّرات على صعيد الدول المنتجة المتنافسة وكفاءة الطاقة والتكنولوجيات غير النفطية. ومنذ ذلك الحين، تصرّفت أوبك بحذرٍ أكبر إزاء الأسعار المرتفعة جدًا، ولكنها أبدت عادةً حماسًا حيال الارتفاع المعتدل في الأسعار، حتى عندما ساهمت في التباطؤ الاقتصادي، إذ خلصت إلى أن الطلب سيتعافى في نهاية المطاف.
إلا أن الوضع الحالي مختلف. فقد أصبح لمستهلكي النفط بدائل عملية، خصوصًا مع بروز الهيدروجين والمركبات الكهربائية التي تزداد شعبيةً وفعاليةً يومًا بعد يوم. ففي حين سيعزز أمن الطاقة والرغبة في التخلي عن المواد الهيدروكربونية الروسية الطلب على إمدادات بديلة عن النفط والغاز والفحم بصورةٍ مؤقتة، من شأن السياسات، مثل خطة ري باور إي يو (REPowerEU) الأوروبية [الرامية لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري الروسي وتسريع الانتقال الأخضر الأوروبية] و”قانون خفض التضخم” الأمريكي أن تعزز من اعتماد التكنولوجيات ذات الأثر الكربوني المنخفض ووضع قواعد سياسية داعمة لها.
يتعين على أوبك، إلى جانب كونها نظامًا لإدارة إنتاج النفط، أن تنظر في دورها الأطول أمدًا في عالمٍ بات يراعي المناخ. وقد خاضت هذه المنظمة بالفعل العديد من عمليات التحول: ففي عقدها الأول الذي بدأ عام 1960، سعت إلى مشاركة أكثر عدلًا للضرائب، ومن ثم حوّلت انتباهها للأسعار الآخذة في الارتفاع. ولم تعتمد نظام الحصص إلا في عام 1982، وهو الدور الذي تشتهر فيه في الوقت الراهن. أما تحالف أوبك بلس، وهو شكلٌ آخر من أشكال التحول، الذي نشأ عام 2016.
يمكن لأسلوب منظمة أوبك في إدارة سوق النفط أن يكون أكثر تدقيقًا بدلًا من الاستخدام الفظ لأداة الحصص. وقد خففت أوبك أسلوبها بعد الجائحة، مع استبدال الاجتماعات الفعلية، التي كانت تعقد بصورة غير منتظمة، باجتماعات شهرية تُعقد عبر تطبيق “زوم” لمناقشة تعديلات معدلات الإنتاج. ويمكن أن تنظر المنظمة في اقتراح الولايات المتحدة بإعادة ملء احتياطي النفط الاستراتيجي عند تراجع الأسعار إلى أقل من حدٍّ معيّن يبلغ 75 دولارًا للبرميل الواحد من خام برنت، بحسب ما ورد في صحيفة “وول ستريت جورنال”. هذا وقد استُنزف هذا الاحتياطي إلى أدنى مستوياته منذ عام 1984 في ظل محاربة بايدن للتضخم وارتفاع أسعار البنزين. ومن شأن وعدٍ بإعادة ملء المخزون أن يضع سقفًا للأسعار، ويشجع على الاستثمار في الإمدادات المستقبلية.
إذا كان لأوبك أن تعيد صياغة رسالتها لتتمثل في مساعدة الدول الأعضاء في عملية التحول في مجال الطاقة والتنويع الاقتصادي، فإنها قد توفّر على نفسها الكثير من الازدراء. فقد ووضعت السعودية ودولة الإمارات، وعُمان والبحرين غير المنتميين إلى أوبك، اهدافًا تقضي بتحقيق انبعاثات كربون صفرية. ومن شأن إحراز التقدّم على مستوى المناخ وتجنّب تكرار أزمة الطاقة الحالية أن يوفرا أساسًا مشتركًا للولايات المتحدة وأوروبا وأوبك، وأن يساعدا على تجنّب أي تدهور إضافي في العلاقات فيما بينها.