منذ ولادة اتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين وإسرائيل في 1993، وهي تموت في بطء. احتضار طويل لاتفاق غير متوازن سمح لإسرائيل، الطرف الأقوى، بمواصلة استعمارها للأراضي الفلسطينية (الاستعمار كلمة نافرة، ولذلك قرر “المجتمع الدولي” وصف الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية لبناء مستعمرات جديدة للإسرائيليين بالمستوطنات)، وأرغم السلطة الفلسطينية، الطرف الأضعف، على “تطبيع” الاحتلال، من خلال التنسيق الأمني مع السلطات الحاكمة، وقبول التعامل مع العالم الخارجي من خلال القنوات الإسرائيلية. وبعد أكثر من 27 عاما من المفاوضات والمناوشات والانتفاضات، من الهجمات والهجمات المضادة، من ارهاب وارهاب مضاد، وتوقيع اتفاقيات جزئية، وقرارات لصالح الفلسطينيين في مجلس الأمن الدولي كانت الولايات المتحدة تنقضها باستمرار، وتعاقب الإدارات الأميركية والحكومات الاسرائيلية، والبحث المضني عن “حل الدولتين”، اقتربت “عملية أوسلو” الآن من لفظ أنفاسها الأخيرة.
قبل أيام، وفي بيان مثير وإن كان متوقعاً، أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس انسحاب السلطة الفلسطينية من كل الاتفاقيات الموقعة مع كل من اسرائيل والولايات المتحدة، بما فيها الاتفاقات الأمنية. الإعلان جاء بعد تأكيد الحكومة الاسرائيلية الجديدة عزمها ضم مناطق واسعة من أراضي الضفة الغربية، يُعتقد أنها ستشمل جميع المستعمرات الكبيرة، وربما كلها، إضافة إلى غور الأردن. هذه ليست المرة الأولى التي يهدد فيها الرئيس عباس بالانسحاب من هذه الاتفاقيات، وإن كانت الظروف الراهنة المحيطة بإعلانه تختلف نوعيا عن التهديدات السابقة. طبعا، قد ترد اسرائيل بإجراءات عقابية آحادية الجانب، قد ترغم القيادة الفلسطينية، التي إذا نفذت بالفعل تهديدها وستجد نفسها في وضع قانوني مبهم، على اتخاذ إجراءات مضادة، هذا إذا لم تتطور الأمور بطريقة تؤدي إلى فلتان أمني وفراغ سياسي لن يكون من السهل التكهن بما يمكن أن يؤدي إليه.
قرار الضم الاسرائيلي المتوقع هو نتيجة حتمية لازدياد وتيرة الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية من جانب الحكومات التي ترأسها بنيامين نتنياهو، ولجنوح نتنياهو وحلفائه في الأحزاب السياسية والدينية لاتباع سياسات يمينية وشوفينية متشددة، ليس فقط ضد الفلسطينيين، ولكن أيضا ضد الليبراليين واليساريين في إسرائيل، الذين يتهمون نتنياهو بتقويض المؤسسات الإسرائيلية، بما فيها البرلمان والنظام القضائي (وهو المتهم بالفساد)، ومحاولة ترهيب وتهميش الصحافة الإسرائيلية التي تتجرأ على انتقاده.
هذا الجنوح الاسرائيلي اليميني والشوفيني في ظل نتنياهو ساهم في إغضاب شريحة هامة من الديموقراطيين في الولايات المتحدة. وأصبح انتقاد نتنياهو وسياساته أمراً متوقعا من كّتاب الرأي والمعلقين في الولايات المتحدة. وكان من اللافت أن المرشح الرئاسي السابق السناتور بيرني ساندرز، الذي يمثل تطلعات فئة واسعة من الديموقراطيين، كان يصف نتنياهو “بالعنصري”، وهو وصف استخدمه أيضا المرشح الديموقراطي السابق بيتو أورورك. قبل عقود كان لإسرائيل مكانة هامة في أوساط الديموقراطيين وخاصة قيادات الحزب. ولكن تحالف سياسيين إسرائيليين يمينيين، مثل نتنياهو، مع المسيحيين الانجيليين المتعصبين في الولايات المتحدة، الذين يشكلون جزءاً هاماً من قاعدة الحزب الجمهوري، وضع إسرائيل ومصالحها في صلب اهتمامات هذا الحزب.
طبعا، اقتراب اسرائيل من ضم هذه المناطق الواسعة، أدى إلى قيام بعض الحكومات الأوروبية والعربية ومنظمات يهودية أوروبية وأميركية بالتعبير عن قلقها، ورفضها لأي قرار من هذا النوع تتخذه حكومة الائتلاف الجديد في إسرائيل. مواقف معظم هذه الأطراف ركزت على أن قرار الضم سوف يقوض مفهوم الدولتين، ويؤذن بنهاية “عملية أوسلو”، كما ركزت المنظمات اليهودية الليبرالية على أن قرار الضم سوف يزعزع أيضا الهوية اليهودية لإسرائيل. ولوحظ مرة أخرى أن الاعتراضات والانتقادات لم تتطرق إلى أن الضم سوف يكون خطوة غير شرعية، وتتعارض مع القانون الدولي ومقررات مؤتمر جنيف، وغيرها من المواثيق الدولية التي تحرّم التوطين في أراض محتلة.
عندما بدأت اسرائيل بالاستيلاء على أراضي الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد احتلالها في حرب 1967 لبناء مستعمرات لمواطنيها، اعتبر المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة، أن الاستيطان في أراضي محتلة هو أمر مخالف للقانون الدولي. في عام 1978 خرجت وزارة الخارجية الأميركية بتقويم قانوني، جاء فيه أن الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية يتناقض مع القانون الدولي. ولكن مع مرور الوقت، بدأ موقف واشنطن والعواصم الأوروبية بالتغير. وهكذا أصبح الاستيطان الإسرائيلي عائقاً في وجه السلام، ولاحقاً عقبة في وجه “حل الدولتين”، وهي تقويمات لا تعكس فداحة ما تفعله إسرائيل في الأراضي المحتلة. ومع كل مستعمرة إسرائيلية جديدة، التي كان يلحقها شكوى فلسطينية، ومع كل أمر واقع جديد كانت تفرضه إسرائيل على الأرض، ويلحقه احتجاج عربي أو دولي، أو حتى أميركي، كان العالم يتأقلم عملياً وتدريجياً مع الاحتلال الإسرائيلي.
لم يحدث أن تحولت الانتقادات الدولية وبيانات الشجب والتنديد لسياسات إسرائيل الاستيطانية أو القمعية للفلسطينيين إلى إجراءات عقابية مؤلمة لإسرائيل. وخلال أكثر من نصف قرن، وفرت واشنطن مظلة وقائية لإسرائيل، أعطت لها مناعة ضد قرارات عقابية كانت تُناقش في مجلس الأمن الدولي قبل أن يقضي عليها الفيتو الأميركي، الذي استخدمته حكومات جمهورية وديموقراطية 43 مرة منذ 1967، بمعدل فيتو واحد كل سنة تقريبا. وحتى الرؤساء الأميركيين الذين انتقدوا إسرائيل، مثل جيمي كارتر وبيل كلينتون وباراك أوباما، كانوا يوافقون على زيادة الدعم الاقتصادي والعسكري لها باضطراد، بغض النظر عن سياساتها في الأراضي المحتلة.
الدعم غير المشروط الذي قدمه الرئيس دونالد ترامب لإسرائيل، والذي صاحبه موقف عدائي من الفلسطينيين وحقوقهم، مثل الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها، وقطع المساعدات المالية والتعليمية عن الفلسطينيين، وحتى التراجع في السنة الماضية عن الموقف القانوني الذي اتخذته إدارة الرئيس جيمي كارتر في 1978 بأن الاستيطان يتعارض مع القانون الدولي، يبدو سافراً ومشينا وفظاً.
ولكن إذا نظرنا إلى ما هو أبعد من الأساليب النابية في التعامل مع الفلسطينيين، فإن ما فعله ترامب هو عملياً يشرعن ما قبلت به الحكومات الأميركية السابقة. خطة “السلام” التي طرحها جاريد كوشنر، صهر ومستشار الرئيس ترامب، في مطلع العام، “أهدت” إسرائيل حوالي 30% من أراضي الضفة الغربية. في الشهر الماضي قال وزير الخارجية مايك بومبيو أن مسألة ضم اسرائيل للأراضي الفلسطينية متروكة للإسرائيليين، “هذا قرار اسرائيلي، وسوف نعمل معهم عن كثب، وسوف نشاطرهم آرائنا في سياق خاص”، أي غير علني. الرئيس ترامب هو النتيجة الحتمية لتركة الولايات المتحدة خلال العقود الطويلة لما عرف باسم “عملية السلام” بين الفلسطينيين واسرائيل.
الاتفاق الذي أبقى نتنياهو رئيساً للحكومة لمدة ثمانية عشرة شهراً على أن يعقبه في رئاستها شريكه في الائتلاف الجديد بيني غانتس، يسمح له بأن يطرح قرار ضم الأراضي الفلسطينية في مطلع يوليو/تموز. التوقيت يناسب نتنياهو لأنه سيأتي تحت غطاء انشغال إسرائيل والعالم بمكافحة جائحة كورونا، وقبل بضعة أشهر من نهاية ولاية الرئيس ترامب، أي أن أمام نتنياهو فرصة محدودة، للتحرك في ظل رئيس يؤيده دون شروط تقريبا، ولأنه لا أحد يعلم ما الذي سيقرره الناخبون الأميركيون في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. كما يرى نتنياهو أن علاقاته السرية والعلنية السياسية والأمنية مع مصر، وكذلك مع بعض دول الخليج العربية – حيث ترى هذه الدول وإسرائيل في إيران عدواً مشتركاً – يمكن أن تساعده على استيعاب أي غضب عربي في أعقاب ضم الأراضي الفلسطينية. قرار نتنياهو يعني موت أوسلو وكل ما مثلته الاتفاقية من مسلمات وتمنيات وأساطير وتضليل وأوهام.
ضم الأراضي الفلسطينية وغور الأردن، سوف يخلق بالدرجة الأولى اضطرابات سياسية واقتصادية وأمنية في الأراضي المحتلة، ويمكن أن يزعزع العلاقات الهشة بين ما تبقى من السلطة الفلسطينية وإسرائيل. ولكن قرار الضم سيؤثر سلبا على الأردن، ما دفع العاهل الأردني الملك عبد الله إلى القول أن القرار الإسرائيلي “سوف يؤدي إلى نزاع شامل مع المملكة الأردنية الهاشمية”، مضيفا أنه يدرس مختلف الخيارات المتوفرة له.
إذا نفذ نتنياهو وعده بضم الأراضي الفلسطينية، فإن ذلك سوف يعني نهاية مرحلة حافلة بالنكسات للفلسطينيين، ليس فقط بسبب سياسات إسرائيل التوسعية، ولكن أيضا لإخفاق القيادة الفلسطينية، في عهدي ياسر عرفات ومحمود عباس في اعتماد استراتيجية نضالية سلمية فعالة، وبداية لمرحلة لا أحد يعرف بالضبط ما هي ملامحها، وإلى أي وقت ستدوم وإلى ما ستؤدي. خيارات الفلسطينيين، (والأردن أيضا) محدودة، خاصة في ظل القيادة الحالية في رام الله.
الركود السياسي الفلسطيني والعربي، جائحة كورونا والقيود التي تفرضها على أي عمل سياسي ميداني، الانحياز الأميركي السافر لإسرائيل، رغبة نتنياهو بتحقيق حلمه القديم والثابت بضم أكبر جزء ممكن من الاراضي الفلسطينية لإسرائيل، كلها عوامل سوف تضع الفلسطينيين في مأزق قد لا يكون الخروج منه ممكناً بالوسائل السلمية، كما أن ثمن محاولة الخروج منه بالوسائل العنفية سوف يكون باهظاً، وغير مضموناً. مرة أخرى يجد الفلسطينيون أنهم بمفردهم في مواجهة أنفسهم وفي مواجهة إسرائيل.