ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
أمام أكثر من ثلاثة آلاف مدعو من دبلوماسيين وسياسيين وصحافيين غص بهم البيت الأبيض صباح يوم جميل في 13 من أيلول- سبتمبر 1993، وقع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين على اتفاق أوسلو بمباركة الرئيس بيل كلينتون، بهدف “إنهاء النزاع” بين الفلسطينيين واليهود. كثيرون في المنطقة، وخاصة في الغرب رأوا في الحدث “التاريخي” بداية النهاية للصراع الطويل بين العرب وإسرائيل. عناوين الصحف الأمريكية آنذاك نضحت بتفاؤل يصعب اليوم تصديقه او تخيله : “انتصار الامل على التاريخ” و “يوم مجيد” و “نهاية رمزية لعقود من النزاع”. يوم الأربعاء الماضي جاءت الذكرى الخامسة والعشرون لاتفاقية أوسلو. ولكن هذه المرة، لم يحتفل أحد بالاتفاق أو بوعوده بالاستقلال للفلسطينيين والسلم لإسرائيل. القلائل من الذين لاحظوا أو كتبوا عن الذكرى، كمعلقين أو دبلوماسيين سابقين شاركوا في احتفال التوقيع وساهموا في “عملية السلام”، تحدثوا بتشاؤم عن المستقبل القريب “القاتم”، وعن صدمتهم وخيبة أملهم العميقة وهم يراقبون الحملة المنظمة التي يقودها الرئيس دونالد ترامب وما يسمى بفريق السلام في البيت الأبيض الذي يقوده صهره ومستشاره المكلف بإحياء المفاوضات جاريد كوشنر لتفكيك ما تبقى من تركة اتفاقية أوسلو، والأهم من ذلك الإجراءات العقابية العديدة التي اتخذها البيت الأبيض ليس فقط لتطويع السلطة الفلسطينية لإرادته السياسية بل لحرمان اللاجئين الفلسطينيين من الخدمات الصحية والتعليمية التي توفرها لهم وكالة اغاثة اللاجئين، من خلال انهاء المساهمة المالية الأمريكية الهامة في ميزانيتها، (360 مليون دولار). وتسعى إدارة الرئيس ترامب إلى تغيير الوضع القانوني لمعظم اللاجئين الفلسطينيين، وعدم الاعتراف بأولاد أو أحفاد الذين لجأوا من فلسطين بعد إنشاء إسرائيل. إضافة إلى إلغاء برنامج اقتصادي لمساعدة الضفة الغربية بقيمة 200 مليون دولار، وحتى حرمان المرضى الفلسطينيين من العلاج في مستشفيات في القدس كانت الولايات المتحدة تساهم في ميزانيتها. وقبل أيام أغلقت إدارة الرئيس ترامب مكتب البعثة الفلسطينية في واشنطن، وهو من “إنجازات” أوسلو.
هذه الإجراءات العقابية جاءت بعد قرار الرئيس ترامب “سحب القدس من طاولة المفاوضات” كما قال من خلال نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها كعاصمة لإسرائيل. ولخص آرون ديفيد ميلر نائب رئيسة مركز ويلسون العالمي للأبحاث، والدبلوماسي الأمريكي السابق الذي شارك في المفاوضات التي أدت إلى اتفاق أوسلو، ما يقوم به الرئيس ترامب بالقول في حوار خاص معه “لم أفكر قط بأن يقوم رئيس أميركي عن سابق تصميم وقصد بالحاق مثل هذه الإضرار بفرص السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، أو بتعميق التوتر أكثر بين الطرفين”.
اتفاق مبهم ووعود لم تتحقق
اتفاقية أوسلو كانت مبهمة عن قصد. وهي لم تلزم إسرائيل مسبقا بوقف عمليات الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ( وهو ما يعتبره المحللون من أبرز إخفاقات السلطة الفلسطينية خلال المفاوضات) أو بقبول دولة فلسطينية مستقلة، أو بمشاركة القدس أو بأي حل مقبول لمشكلة اللاجئين. استمرار الاستيطان، وانتفاضة سنة ألفين وما صاحبها من أعمال عنف من الطرفين، بما فيها اجتياح إسرائيل لمناطق فلسطينية انسحبت منها، بدأت سلسلة من عمليات التصعيد التي أدت بإسرائيل إلى وقف برنامجها بالانسحاب من الضفة الغربية، ولاحقا قرار إسرائيل ببناء جدار عازل، أجزاء منه فوق أراض فلسطينية استولت عليها إسرائيل. وخلال ربع القرن الماضي تضاعف عدد المستوطنين الإسرائيليين ثلاث مرات ووصل إلى 600 ألف في الضفة والقدس. وجاء في استطلاع للرأي أن ثلاثة أرباع الفلسطينيين في الضفة الغربية يقولون إن الوضع اليوم أسوأ مما كان عليه قبل اتفاقية أوسلو.
السلطة الفلسطينية التي انبثقت عن اتفاقية أوسلو توفر خدمات أولية للفلسطينيين، ولكنها أيضا تتحمل مسؤولية الأمن في المناطق المتواجدة فيها وتتعاون أمنيا مع السلطات الإسرائيلية لمنع تعرض إسرائيل لأي هجمات، الأمر الذي عزز من أمن إسرائيل، دون أن تتكبد أي ثمن، الأمر الذي أطال عمليا الاحتلال الإسرائيلي. الانقسامات السياسية العميقة بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس الإسلامية في غزة، غير مرشحة للانتهاء في أي وقت قريب وساهمت في اضعاف الفلسطينيين في مختلف المجالات. علاقات حماس مع إيران عززت من نفوذ طهران السلبي في المنطقة وأضرت بعلاقات الفلسطينيين مع العرب ومع الدول الغربية. الرئيس محمود عباس الذي بدأت رئاسته في 2005 لأربع سنوات فقط لا يزال موجودا في السلطة وكأنه رئيس لمدى الحياة، مثله مثل رؤساء عرب آخرين. ومع مرور كل سنة تزداد سلطوية السلطة الفلسطينية ويزداد تشددها ضد حريات التعبير والتجمع، كما تفوح من مؤسساتها الضعيفة وغير الفعالة روائح الفساد. السلطة الفلسطينية منذ اتفاقية أوسلو لم تقرّب الفلسطينيين ولو بوصة واحدة باتجاه الدولة المستقلة. هذه السلطة التي تعيش على المعونات الدولية، تعتمد إلى حد كبير اقتصاديا على البضائع الإسرائيلية وإمدادات الوقود والكهرباء، ما يجعلها غير قادرة على البقاء دون إسرائيل، الأمر الذي يزيد من استياء الفلسطينيين الذين يجدون أنفسهم في سجن فوق أرضهم.
“صفقة القرن” أو صفعة القرن؟
ادعى الرئيس ترامب في السنة الماضية أن إدارته سوف تحيي المفاوضات وتحقق “صفقة القرن” بين الفلسطينيين وإسرائيل، وعّين جاريد كوشنر، المعروف بدعمه القوي للإستيطان الإسرائيلي مسؤولا عن هذه الجهود. ولكن بعد أن رفضت السلطة الفلسطينية التعامل معه بعد نقل السفارة إلى القدس، وبعد أن أدرك الفلسطينيون أن صفقة القرن لن تعطيهم حتى نصف الضفة الغربية، بدأ الرجل المكلف بتحقيق السلام، باجراءاته العقابية والإنتقامية من الفلسطينيين لإرغامهم على التفاوض حول “خطة سلام” لم تُعلن حتى الآن، وليس من المتوقع أن تُعلن قبل الانتخابات النصفية في تشرين الثاني- نوفمبر المقبل. وفي يوم ذكرى اتفاق أوسلو دافع جاريد كوشنر عن الإجراءات الانتقامية من الفلسطينيين وأصر في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز أن هذه الإجراءات العقابية لن تقلص من فرص السلام. وادعى أن “هناك وقائع خاطئة عديدة تم خلقها، وحتى عبادتها، وأنا أعتقد بضرورة تغييرها. كل ما نفعله هو التعامل مع الأشياء كما نراها، وأن لا نخاف منها لكي لا نقوم بما هو صحيح. ونتيجة لذلك لدينا فرص أعلى لتحقيق السلام الحقيقي”. وأضاف في إشارة إلى المساعدات التي ألغيت للفلسطينيين أن القيادة الفلسطينية التي انتقدت إدارة ترامب بشدة تستحق عقابها، مضيفا ” لا أحد يحق له تلقائيا الحصول على المساعدات الأمريكية”.
ويرى السفير الأمريكي السابق في إسرائيل ومصر، وعضو فريق السلام دانيال كيرتزر في حوار خاص معه أن ترامب اخطأ كثيرا برفعه مستوى التوقعات حين تحدث عن صفقة القرن، وحين تجاهل المسلّمات والأعراف التي عمل الرؤساء الأمريكيون بها منذ بداية عملية السلام، مثل تفادي الإجراءات الأحادية الجانب التي تضر بطرف وتخدم مصالح الطرف الآخر، ومنها نقل السفارة إلى القدس. ويضيف “الرؤساء السابقون من ديمقراطيين وجمهوريين كانوا يدفعون إلى مفاوضات حول القدس انطلاقا من مبدأ جعل المدينة عاصمة مشتركة لكل من إسرائيل ولدولة فلسطينية مستقلة في سياق الحفاظ على مدينة مفتوحة. ورأى كيرتزر أن فريق ترامب يمارس الضغوط القاسية ويفرض دبلوماسية الاخضاع في التعامل مع الفلسطينيين،” وأضاف كيرتزر أن هذه الممارسات “سوف توصلنا إلى طريق مسدود وسذاجتهم الخطيرة اقنعتهم أنهم قادرون على مواصلة هذه الممارسات دون ثمن”. ويتابع كيرتز الأستاذ المحاضر في جامعة برينستون “وهم ينظرون إلى العالم العربي المشغول بنزاعاته الدموية في سوريا واليمن وقلقه من ايران، ويعتقدون أن العرب لم يعودوا مهتمين بمستقبل الفلسطينيين”.
ويرى الدبلوماسي المخضرم ميلر أن فرص السلام كانت شبه معدومة قبل انتخاب ترامب، ولكنه يرى الآن أنها مستحيلة بعد إجراءات وقرارات الرئيس وفريقه، ويضيف “لا نستطيع أن نتحرك في أي اتجاه من موقعنا الراهن”. ويرى أنه “لا يوجد هناك قائد في أمريكا أو في إسرائيل أو في رام الله مستعد للمجازفة وتحمل أعباء وآلام تغيير الوضع الراهن”. وأضاف ميلر أن إدارة ترامب “تعتقد أنها تتمتع بمناعة ضد أي ردود فعل سلبية عربية على إجراءاتها العقابية ضد الفلسطينيين. هناك صمت عربي غير معهود، لقد فوجئت جدا بالصمت العربي بعد نقل السفارة إلى القدس” وتابع بتعجب ” هذه هي القدس” (لفظ اسم المدينة بالعربية).
ورأى الباحث والكاتب شبلي تلحمي، المحاضر في الشؤون السياسية والحكومية في جامعة ماريلاند أن تحقيق السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل لم يكن من أبرز أولويات الإدارات الأمريكية في السنوات الماضية، ويضيف “والآن لدينا رئيس لديه أولوية معاكسة، فهو يدعم بانحياز سافر مصالح إسرائيل. صحيح أن أمريكا تقليديا منحازة لإسرائيل، ولكنها خلال عملية المفاوضات كانت تكبح انحيازها وتسعى لإدخال بعض التوازن في تعاملها مع إسرائيل والفلسطينيين”. ويتابع تلحمي الذي ينظم استطلاعات للرأي في الشرق الأوسط وفي أمريكا حول قضايا مختلفة “المشكلة هي أن ترامب ليس منحازا لإسرائيل فقط، بل أن انحيازه النافر هو لليمين الإسرائيلي المتشدد واجندته التي ترفض الحد الأدنى من مطالب الفلسطينيين”. ويشير تلحمي إلى أن انحياز ترامب لليمين الإسرائيلي يأتي في الوقت الذي تركز فيه إسرائيل على هويتها اليهودية، وفي الوقت الذي أظهر فيه استطلاع للرأي أن خمسين بالمئة من اليهود الإسرائيليين يريدون اقتلاع الفلسطينيين. ويرى تلحمي أن انحياز ترامب وإجراءاته العقابية ضد الفلسطينيين، “يأتي في مناخ عربي يسمح بذلك”.