مع اقتراب عام 2019 من نهايته، احتفلت صناعة الطيران العالمية بعقد من النمو غير العادي والأرباح الطائلة. لقد كانت بمثابة ثورة في السفر الجوي. استقل ما يقارب 4.5 مليار مسافر الطائرات في ذلك العام، أكثر من أي وقت مضى في التاريخ، وسافر حوالي 35 ملياراً جواً على مدار العقد.
تصدرت شركات الطيران في الخليج العربي النمو في ثورة السفر الجوي هذه. أصبحت شركات الطيران “الثلاث الكبرى” -طيران الإمارات، والاتحاد للطيران، والخطوط الجوية القطرية- أسماء مألوفة، وزيّنت شعاراتها قمصان لاعبي كرة القدم العالمية، وأسطولها الضخم من طائرات إيرباص وبوينج المنتشرة في كبرى المطارات العالمية. وبرزت شركة طيران الإمارات، على وجه الخصوص، كرمز للسفر الجوي الفاخر، ووسيلة قوية لسفر الأشخاص حيث نقلت ما يقارب 500 مليون شخص على مدار العقد.
في هذه الأثناء، سجلت شركات الطيران المنخفضة التكاليف، مثل العربية للطيران ومقرها الشارقة وفلاي دبي ومقرها دبي، ارتفاعاً في إجمالي عدد الركاب عام 2019، بلغ حوالي 22 مليون مسافر، ما ساهم في تبوء الإمارات العربية المتحدة مكانتها كمركز جوي عالمي. وحافظ مطار دبي الدولي في عام 2019 على مكانته كأكثر المراكز الجوية الدولية ازدحاماً في العالم للعام السادس على التوالي، وسجلت مطارات الإمارات مجتمعة أكثر من 110 ملايين مسافر في عام 2019، أي ما يقرب من 6٪ من إجمالي الحركة الجوية الدولية.
بعد ذلك، ضربت الجائحة ضربتها.
عملت جائحة فيروس كورونا، التي ظهرت في ووهان بالصين في أواخر عام 2019 على تغيير العالم، وتعطيل السفر الجوي بشكل كبير. ووصلت ما بين 40 إلى 50 شركة طيران على مستوى العالم إلى حالة الإفلاس أو إعادة الهيكلة، وشهدت شركات الطيران الخليجية أسوأ أزمة في ريعان تاريخها.
عندما أغلقت السلطات الإماراتية جميع الرحلات الجوية في أواخر مارس/آذار 2020، كانت كأنها تمارس “الخيار النووي”. فبعد كل الاعتبارات، وبإغلاقها للمطارات، كانت الإمارات تغلق ما يقارب من 13٪ من ناتجها المحلي الإجمالي وصناعة تدعم 800000 وظيفة، وفقاً لاتحاد النقل الجوي الدولي. وكانت الضربة أشد بالنسبة لدبي، حيث تشكل صناعة الطيران لديها أكثر من ربع ناتجها المحلي الإجمالي. كما شعرت قطر أيضاً بشدة المعاناة، حيث يشكل الطيران 11٪ من ناتجها المحلي الإجمالي.
من المرجح أن الجائحة وعمليات الإغلاق قد عملت على تسريع عملية إعادة الهيكلة الجارية في شركة الاتحاد للطيران منذ أوائل عام 2018. يتولى المدير التنفيذي الجديد لشركة الاتحاد، توني دوجلاس، إدارة مشروع تحول مدته خمسة أعوام يهدف إلى استعادة الأرباح بحلول عام 2023، بعد أن أثقلت الاستراتيجية السابقة للشركة المتمثلة بشراء حصص أسهم في شركات الطيران في جميع أنحاء العالم كاهل الشركة بالديون وأثبتت فشلها. في بيان صدر في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 تم الإعلان عن “تغييرات جريئة”، حيث أعلن دوجلاس أن الشركة بصدد “اتخاذ إجراءات محددة وحاسمة لتعديل أعمالنا لنتبوأ مكانتنا بفخر كشركة نقل متوسطة الحجم”.
وفي حين أن الشركات “الثلاث الكبرى” التقليدية، بالإضافة إلى مجموعة من شركات النقل المنخفضة التكلفة والمنطلقة بقوة، كانت تواجه منافسة شديدة حتى قبل الجائحة، إلا أنها نجحت في ذلك فيما كان متوقعًا أنها بيئة جيدة للعمل. وانتهت تلك البيئة. في عام 2020، وفقًا لاتحاد النقل الجوي الدولي، شهد الشرق الأوسط انخفاضاً في الحركة الجوية بنسبة 73%، وهو عام وصفه الاتحاد بأنه “كارثة”. انخفض عدد المسافرين عبر مطار دبي الدولي من 86 مليون مسافر في عام 2019 إلى أقل من 18 مليوناً في عام 2020. ولا يتوقع اتحاد النقل الجوي الدولي العودة إلى ما كانت عليه مستويات السفر العالمي قبل الجائحة حتى عام 2023 أو 2024.
إذاً، إلى أين يتجه الطيران في المنطقة الآن؟ هنالك أربعة مواضيع رئيسية ستدفع هذا العام قدماً: التعافي بسبب اللقاح والعودة إلى الوضع الطبيعي، واستمرار ظهور شركات النقل الإقليمية المنخفضة التكلفة، ونتائج النجاحات الدبلوماسية، بما في ذلك إنهاء مقاطعة قطر واتفاقات إبراهام لتطبيع العلاقات مع إسرائيل؛ والمنافسة الشديدة لحركة الشحن.
اللقاح يقود التعافي في مجال السفر الجوي؟
قال ألكسندر دي جونياك، المدير العام والمدير التنفيذي لاتحاد النقل الجوي الدولي، مؤخرًا إن التفاؤل الناتج عن توزيع اللقاحات قد “تحطم لدى مواجهة حالات تفشٍّ وطفرات جديدة للمرض”. وعلى الرغم من أن الاتحاد يتوقع العودة لما كانت عليه مستويات السفر قبل انتشار الجائحة في غضون عامين إلى ثلاثة أعوام، فإن الطرق المحلية سوف تحتشد بشكل أسرع من الطرق الدولية. فمعظم شركات طيران الخليج العربي، باستثناء تلك الموجودة في السعودية، تعتمد بشكل كبير على الطرق الدولية.
لدى ريتشارد أبو العافية، المحلل البارز في مجال الطيران، ما يدعو لمزيد من التفاؤل بشأن مستقبل السفر الجوي. فهو يرى العودة إلى مستويات السفر، التي كانت سائدة قبل الجائحة، بحلول الربع الأخير من عام 2022. يقول أبو العافية في إحدى المقابلات: “يتحدث الناس كثيراً عن كيفية تغيير التكنولوجيا لمكان العمل، وهذا صحيح، ولكن عندما يبدأ منافسوك بالسفر، وأنت باقٍ في المنزل على زوم، سرعان ما ستتذكر حاجتك للسفر”.
وأشار مارتن درو، النائب الأول لرئيس المبيعات العالمية والشحن في شركة الاتحاد للطيران، إلى أن “طرح اللقاح أمر أساسي”، لكنه قال أيضاً في بيان عبر البريد الإلكتروني: “نحن واثقون من أن الطلب العالمي على السفر سيبدأ بالانتعاش في عام 2021”. ومهما كان الوضع، فسيكون الهدف في عام 2021 هو إيقاف النزيف، والبدء بالتعافي، والبقاء على أهبة الاستعداد للحد من المزيد من الأضرار.
تعرضت الإمارات لواحدة من مثل هذه الضربات في أواخر يناير/كانون الثاني عندما حظرت المملكة المتحدة جميع الرحلات الجوية من هذه الدولة الخليجية، بسبب الزيادة المفاجئة في انتشار فيروس كورونا في دبي. في ذلك الشهر، وعلى الرغم من الجائحة، كان ممر دبي-لندن هو أكثر الطرق الدولية ازدحاماً في العالم، حيث بلغ ما يقرب من 200 ألف مقعد. حيث كان السياح البريطانيون يتدفقون بشكل جماعي إلى شواطئ دبي ووجهاتها السياحية خلال فصل الشتاء.
ظهور شركات النقل المنخفضة التكلفة
نظراً لأن الشركات “الثلاث الكبرى” تبحث عن طرق لتحسين جاهزيتها، فإن الأنظار كلها ترنو إلى شركات النقل المنخفضة التكلفة في المنطقة. ووفقًا لمركز CAPA للطيران، فقد ارتفعت حصة شركات الطيران المنخفضة التكلفة من القدرة الاستيعابية الإجمالية من المقاعد في جميع أنحاء الشرق الأوسط إلى 16.5٪ في عام 2019. وينذر النمو السريع لشركات الطيران المنخفضة التكلفة في الشرق الأوسط بالتحول نحو الآسيوية [Asianization]: تغلغلت الشركات المنخفضة التكلفة بشكل أعمق بكثير. يتم اليوم التعامل مع حوالي 30٪ من القدرة الاستيعابية الإجمالية من المقاعد في جميع أنحاء منطقة آسيا والمحيط الهادئ من قبل شركات الطيران الإقليمية المنخفضة التكلفة. حتى إن الأرقام أكبر من ذلك في جنوب شرق آسيا: حيث تتعامل شركات النقل الإقليمية المنخفضة التكلفة مع أكثر من 50٪ من القدرة الاستيعابية للمقاعد.
شهدت شركات الطيران المنخفضة التكلفة في السعودية والكويت عامًا قوياً في فترة ما قبل الجائحة. وتصدر هذا الأمر اللاعبان الرئيسيان في السعودية، شركة Flyadeal وشركة Flynas، حيث نقلتا معاً أكثر من 11.5 مليون مسافر. ستكون شركات الطيران الثلاث الكبرى المنخفضة التكلفة، وفقاً لأعداد المسافرين، هي فلاي دبي والعربية للطيران وطيران Flynas مع طيران Flyadeal – التابعة للخطوط الجوية السعودية – منطلقة في إثرها. وتتمتع كل من طيران Flynas وطيران Flyadeal بمكانة جيدة للتعافي بشكل أسرع نظراً لسوقها المحلي الكبير نسبياً وحركة الحج. كما حققت شركة طيران الجزيرة التي تتخذ من الكويت مقراً لها أرباحاً تشغيلية قياسية في عام 2019.
تباطأت الجائحة، ولكنها لم توقف اثنتين من شركات الطيران المنخفضة التكلفة الجديدة التي ظهرت على الساحة: ويز إير Wizz Air أبوظبي، وهي مشروع مشترك بين ويز إير ومقرها المجر وبين شركة أبو ظبي التنموية القابضة؛ وشركة العربية للطيران أبوظبي، بالشراكة بين الاتحاد للطيران والعربية للطيران ومقرها الشارقة. تعمل كلتا الشركتين الآن في رحلات جوية إقليمية إلى جنوب آسيا وشمال أفريقيا وإسرائيل وأوروبا. كما تخطط شركة سبايس جيت SpiceJet الهندية، المنخفضة التكلفة، للانخراط في العمل الإقليمي ولديها خطط لإنشاء مركز لها في رأس الخيمة.
قال لينوس باور، المحلل في مجال الخطوط الجوية الإقليمية في دبي، في إحدى المقابلات، إن الشراكات بين إحدى كبرى شركات الطيران الثلاث مع شركة طيران منخفضة التكلفة ستكون ضرورية “للخروج من الأزمة بشكل أقوى”. بالإضافة إلى ذلك، يرى باور أن أسرع فرص النمو على المدى القريب لشركات الطيران الخليجية تكمن في الطرق المؤدية إلى الهند وباكستان وروسيا والسعودية وإسرائيل.
النجاحات الدبلوماسية: من اتفاقيات إبراهام إلى اتفاقية العلا
منذ اتفاقيات إبراهام في سبتمبر/أيلول 2020، التي أسفرت عن إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين إسرائيل والإمارات، وتدفق السياح الإسرائيليين إلى دبي، وتطبيع شركات الطيران الإماراتية والإسرائيلية لما كان يبدو يوماً على أنه أمر استثنائي: الرحلات الجوية المنتظمة بين المدن الإسرائيلية وشبه الجزيرة العربية. من المؤكد أن شركات الطيران الإماراتية المتلهفة لمصادر الإيرادات سوف ترحب بالإيرادات الإضافية من السياح الإسرائيليين، لكنها قد تخلق أيضاً فرصًا جديدة للسفر المحوري. استقل الإسرائيليون أكثر من 8.2 مليون رحلة طيران دولية في عام 2019، وفقًا لبيانات حكومية، ومن المرجح أن ينتهي الأمر بجزء من هذه الحركة عبر المطارات الإماراتية أو البحرينية.
حتى قبل الجائحة، كان المطلعون على صناعة الطيران يتساءلون بشأن استراتيجيات المسافات الطويلة والمحورية التي تدعم نمو الشركات الثلاث الكبرى ومطاراتها. استندت هذه الإستراتيجية إلى الجغرافيا الجوية المفضلة لشرقي شبه الجزيرة العربية: رحلة جوية لمدة 8 ساعات لما يقارب من ثلثي سكان العالم، ورحلة جوية لمدة 4 ساعات لما يقارب من ثلث تلك المجموعة. وهكذا، وعدت شركات الطيران ومطاراتها بطريق موصلة ذات محطة توقف واحدة للأغلبية العظمى من العالم واستثمرت بكثافة في طرق المسافات الطويلة على امتداد الكرة الأرضية والطائرات العملاقة.
غالبًا ما يلاحظ محللو الطيران أن صعود الطائرات الأصغر التي يمكنها قطع مسافات أطول سوف يعطل هذا النموذج، لكن قد يكون من السابق لأوانه شطب هذا النموذج بعد. تم توضيح النموذج بشكل أقوى بين الهند والإمارات. حيث ظهرت الإمارات كبوابة جوية لجنوب آسيا إلى العالم. فعلى مدى السنوات السبع الماضية، هبطت واحدة تقريباً من كل ثلاث رحلات دولية غادرت الهند في الإمارات، وواحدة تقريباً من كل ثلاث رحلات جوية دولية هبطت في الهند انطلقت من الإمارات، وفقًا لبيانات المديرية العامة للطيران المدني في الهند. بالنسبة لأولئك الذين يرفضون النموذج المحوري، فإن هذه الأرقام هي رد حاسم وقوي.
وفي غضون ذلك، أعطى التقارب بين قطر وثلاثة من جيرانها الخليجيين – الإمارات والسعودية والبحرين- بالإضافة إلى مصر، دفعة كانت الصناعة في أمس الحاجة إليها. ستستفيد شركات الطيران المنخفضة التكلفة من العودة إلى العمل كالمعتاد على خطوط الدوحة، وستستفيد الخطوط الجوية القطرية من الوصول مجدداً إلى المجال الجوي السعودي، ولا سيما لمساراتها إلى أفريقيا بالإضافة إلى المسارات المنتظمة إلى مدن السعودية والإمارات. ويُذكر أن الخطوط الجوية القطرية قد ربحت 600 مليون دولار من رحلاتها إلى السعودية في عام 2016، وهو رقم انخفض إلى الصفر تقريباً في السنوات الثلاث التي تلت ذلك.
وفي حين استفاد الطيران العماني من تحويل جزء من الحركة الجوية بعيداً عن الدوحة أثناء المقاطعة، فقد تضاءل وزن السلطنة مقارنة بنظيراتها الإقليمية. وضعت عُمان خطة طموحة مؤخراً لتكثيف نشاط قطاع الطيران بشكل كبير كمساهم في الناتج المحلي الإجمالي، بما في ذلك إعادة هيكلة شركة الطيران العماني. وفي غضون ذلك، ستكون صالة المطار الجديدة في البحرين بمثابة إضافة كبيرة إلى قدرات الدولة، الأمر الذي سيعزز شركة طيران الخليج التي تتخذ من المنامة مقراً لها، وهي شركة طيران إقليمية رائدة احتفلت للتو بالذكرى السبعين لتأسيسها.
الشحن الجوي يهب للنجدة؟
في حين أن عام 2020 كان صعباً أيضاً على الشحن الجوي، إلا أن الطلب قد ارتفع في الربع الأخير من العام، وسوف تصبح شركات الطيران الثلاث الكبرى ناقلات رئيسية لإمداد العالم باللقاح. أقامت كل من أبوظبي ودبي مراكز عالمية لتوزيع اللقاحات، وفي نهاية شهر يناير/كانون الثاني، أعلن حاكم دبي ورئيس وزراء الإمارات، محمد بن راشد آل مكتوم، عن تشكيل تحالف لوجستي للقاحات سيقوم بدعم جهود منظمة الصحة العالمية لتوزيع ملياري جرعة لقاح لفيروس كورونا في عام 2021.
بما أن الخطوط الجوية القطرية وطيران الإمارات هما بالفعل من بين أكبر ثلاث شركات شحن جوي في العالم، وأن أعمال الشحن الجوي لشركة الاتحاد تشهد تصاعداً كبيراً، فمن المرجح أن تضاعف الشركات الثلاث الكبرى من جهودها في مجال واحد من الأعمال أقل التزاماً بالقيود التي يفرضها فيروس كورونا. ومن خلال توزيع اللقاحات إلى العالم، سيقومون بعمل جيد في حماية صافي أرباحهم المستقبلية.
وبالرغم من كل هذه الاعتبارات، فمن دون وجود قدر من مناعة القطيع في جميع أنحاء العالم، سوف تتوقف ثورة السفر الجوي التي شهدناها في العقد الماضي، وستصبح نوعاً من ذكرى الحنين إلى الماضي- مثل طائرة بان آم (Pan Am jetliner).