يشكل مواطنو المَلكيات البرلمانية الرائدة في الخليج قوة ضاغطة تفوق تلك التي يتمتع بها المواطنون الخليجيون الآخرون : فإن رفضت السلطة التنفيذية التي تترأسها العائلة المالكة إجراء الإصلاحات أو قامت باتخاذ تدابير سياسية أحادية الجانب، فمن الممكن أن يعودوا عن مشاركتهم في الانتخابات. إلا أن هذا الشهر المنصرم قد أظهر بشكل كبير أن قدرة المقاطعة السياسية محدودة وأن ثمن مغادرة الساحة السياسية الرسمية باهظ. وفي الكويت والبحرين، لقد مُنع قياديو المعارضة السياسية والمجتمع السياسي تباعًا من المشاركة في السياسة وفقًا للقوانين الجديدة التي أقرها البرلمان: أي المؤسسة عينها التي يعملون على مقاطعتها.
إذ تشكل التعديلات التي طرأت على قانون الانتخابات في الكويت وقانون المجتمعات السياسي البحريني جزءًا من الإجراءات الاستباقية التي تتخذها كل من حكومة البلدين لإعادة تشكيل الساحة السياسية قبل الانتخابات النيابية التي ستجري في الكويت عام 2017 وفي البحرين عام 2018 ، التي كان من المتوقع أن تشهد عودة بعض عناصر المعارضة إلى الحياة السياسية الرسمية. وتعتبر هذه الخطوات ذروة سنوات من العمل على بناء الدعم السياسي والقاعدة القانونية التي يرتكز عليها عزل المعارضة التي شعرت بالقوة إثر سقوط مستبدين عرب بمطالبتها بتغييرات جوهرية من شأنها أن تعزز قوة المؤسسات المنتخبة.
سياق المقاطعة
أتت القرارات التي تقضي بالمقاطعة في سياق الربيع العربي، بحيث أجبرت التعبئة السياسية التي قادها الشباب السياسيين المعارضين الخليجيين على تصعيد مطالبهم السياسية. وفي البحرين، استقالت حركة الوفاق، وهي تنظيم إسلامي شعيي رئيسي معارض، من مقاعدها الثمانية عشر في البرلمان المؤلف من 40 عضوًا وذلك كردة فعل على حملة القمع المميتة التي طالت الانتفاضة السياسية التي قادتها الحركة الشبابية في 14 شباط/فبراير. دفع الشعور المتعاظم بمناهضة النظام في المجتمع الشيعي وغياب أي تطور ملحوظ في المفاوضات مع الحكومة حول الإصلاحات السياسية، حركة الوفاق إلى مقاطعة الانتخابات الفرعية التي جرت عام 2012 والانتخابات البرلمانية التي تبعتها عام 2014. ولقد تمت هذه المقاطعة الأخيرة على الرغم من الضغوطات السياسية العديدة التي قامت بها الحكومة البحرينية والحلفاء الغربيين، وعلى الرغم من رفض للمقاطعة داخل فصائل “حركة الوفاق” نفسها.
وفي الكويت، اعتمدت استراتيجية المقاطعة للاحتجاج على القرار الصادر عن المحكمة والذي يقضي بحلّ البرلمان الذي كانت تقوده المعارضة عام 2012 والقرار الذي تبعه والصادر عن الأمير الشيخ صباح الأحمد الصباح القاضي بتغيير إجراءات التصويت على حساب المعارضة. واستمر معظم أعضاء ائتلاف المعارضة، المؤلف من الإسلاميين السنّة والشعبويين العشائريين والقوميين اليساريين في مقاطعتهم الانتخابية في الانتخابات الثانية التي أجريت في تموز/يوليو 2013 بعد حلّ البرلمان مجددًا بسبب عيوب إجرائية.
وفشلت المقاطعات في البحرين والكويت على حد سواء في كسب تنازلات سياسية من السلطة التنفيذية التي تقودها العائلة المالكة. وفي المقابل، أدّى الاعتماد على الإجراءات غير البرلمانية بما في ذلك التعبئة السياسية في الشارع والإجراءات العقابية التي اتخذتها الحكومات وحلفاؤها. وفي الوقت عينه، أدت المناشدة المستمرة للبرلمان، على الرغم من صلاحياته المحدودة، إلى انشقاقات في صفوف الحركات الإسلامية وانقسامات بينها وبين والمعارضة على نطاق أوسع.
ثمن المقاطعات
وبالتالي، تشكّل البرلمانات في الخليج العربي الميدان الأساسي للمساومة على مناصرة الدولة. إن البقاء خارج البرلمان يحرّم على المجتمعات السياسية التمتع بالخدمات المقدمة للمواطنين ومن المناصب الحكومية التي تشكل بحد ذاتها مصدر النفوذ والقوة. وظهر هذا الأمر جليًا في الكويت حيث فقد “تنظيم الإخوان المسلمين”، أحد أبرز مؤيدي استراتيجية المقاطعة، مناصب وزارية في ظل حكم الأمير، كما خسر من وظائف التي كان يشغلها والنفوذ الذي كان يتمتع به في وزارة الأوقاف الإسلامية ووزارة التعليم منذ المقاطعة. إلا أن موقف “حركة الوفاق البحرينية” كان مختلفًا إذ أتت المقاطعة على أعقاب طرد المواطنين الذين على نطاق واسع من الوظائف الحكومية ووظائف القطاع الخاص. ومع ذلك فإن غيابها من مجلس النواب البحريني حرمها من التمتع بصوت سياسي مسموع وبدرجة من الشرعية السياسية.
وأتت المقاطعات الانتخابية في البحرين والكويت لمصلحة البرلمانات والحكومة وبرامجها. وسهّل هذا الأمر الإقرار الفوري للصلاحيات الأمنية الجديدة التي تضيّق الخناق حول وسائل الإعلام وحرية التعبير بما في ذلك التعديلات على قانون الإرهاب في البحرين وقانون الأمن الإلكتروني التقييدي في الكويت. وبالإضافة إلى ذلك، دعم بعض أعضاء البرلمان المؤيدين للحكومة تغيير القوانين الداخلية بغية إضعاف المناعة البرلمانية ولتشديد شروط إحداث تحقيقات برلمانية. وتذمّر معارضو الحكومة من خسارتهم للرقابة التشريعية إذ تقدمت المشاريع الكبيرة في الكويت التي لطالما تأخر تنفيذها وطبّقت في البحرين إجراءات التقشف الحكومي غير المستحبّة.
وتسببت المقاطعة الانتخابية في البحرين خسارة المعارضة لدعم الحكومة الأميركية الذي تقر واشنطن على أنه محدود. أحبط قرار حركة الوفاق القاضي بالمقاطعة عام 2014 السياسات الأميركية التي تحثّ على المشاركة والمصالحة. وأوضح مسؤولو الحكومة الأميركية في ذلك الوقت أن أي مقاطعة تجعل “الحركة” عرضًة للقصاص الحكومي وخارج نطاق حماية الولايات المتحدة، علمًا أن هذا التكهّن قد ثبت صحته عاجلا إذ تم اعتقال الأمين العام في حركة الوفاق الشيخ علي سلمان بتهم التحريض على الكره وتعزيز العصيان و”إهانة” المؤسسات العامة بعد شهر من الانتخابات.
استراتيجيات الحكومة ومصير المعارضة
اتخذت الحكومتان في الأسبوعين الماضيين خطوة إضافية محددة لمنع عودة المعارضين البارزين إلى البرلمان. وفي الكويت، يحرّم التعديل الذي اجري على قانون الانتخابات على المدانين بالتجديف أو بإهانة الأمير من التصويت أو الترشح لأي منصب كان. يحرّم القانون، الذي سبق أن صادق عليه مجلس الوزراء ونشر في الجريدة الرسمية، على العديد من الأعضاء السابقين العودة إلى البرلمان بما فيهم قائد “الحركة الديمقراطية الشعبية” البارز “مسلّم البراك” الذي تحدى الأمير جهارة في خطاب علني عام 2012 وها إنه يقضي حكمًا بالسجن لسنتين.
تم رفض هذا التعديل الجديد من قبل كافة تيارات المعارضة بالإضافة إلى “الحركة الدستورية الإسلامية” و”الائتلاف الديمقراطي الوطني”، و”المنتدى الديمقراطي الكويتي” و”التيار التقدمي الكويتي” الذين أصدروا بيانًا مشتركًا لشجبه على أنه غير دستوري ويخالف الحقوق الإنسان. ولكنّه من غير المؤكد إذا ما كان هذا التعاون سيردم الفجوات التي طالت المعارضة بعدما أعلنت “الحركة الإسلامية الدستورية” المدعومة من “تنظيم الإخوان المسلمين” و”حركة ثوابت الأمة السلفية” عن نيتهما لإنهاء الجمود السياسي من خلال تعيين مرشحين في الانتخابات البرلمانية عام 2017، مستشهدين بالأثر السلبي للمقاطعة على الحريات والتطور. وندد بقرارهم القادة الشبان الذين أشاروا إلى انعدام التنازلات السياسية بما في ذلك إطلاق سراح ناشطي المعارضة من السجن أو إلغاء مرسوم الأمير الذي من شأنه أن يغيّر إجراءات التصويت.
وفي البحرين، طالبت “وزارة العدل والشؤون الإسلامية” حلّ “حركة الوفاق” وفقًا لانتهاكها للتعديلات الجديدة التي طرأت على قانون الجمعيات السياسية لعام 2005 الذي حرّم خلط الدين بالسياسة. اعتمد مجلس النواب التعديلات وصادق عليها مجلس الشورى وأصدرها الملك حمد بن عيسى الخليفة. وأعلنت الوزارة عن مهمتها التي تتمثّل بـ “تصحيح المسار السياسي لكافة الفصائل” للتحضير للانتخابات النيابية التي ستجري عام 2018. ولم يعرف إذا ما كان سيُطبق القانون الجديد على الجمعيات السياسية الإسلامية السنية أو على الدعاة السنّة، الذين يشارك بعضهم في البرلمان الحالي. غرّد نائب الأمين العام لجبهة العمل الإسلامي المدعومة من “جماعة الإخوان المسلمين” مشيدًا بتصرف الحكومة الذي وصفه “بالشجاع”.
يؤمّن التراجع الحاد في الأمن الإقليمي بيئة مؤاتية لهذه الإجراءات الصارمة إذ دفع خطر الإرهاب المتزايد والمواجهة المتصاعدة مع إيران الكثير من المواطنين إلى التخوف من التطرف وعدم الاستقرار السياسي. ومنذ إصدار التعديلات، اتخذت الحكومتان إجراءات صارمة بحق الشبكات السنية المتطرفة، وحاكمت البحرين 24 مؤيد “لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” واعتقلت الكويت عددا كبيرا من المتهمين بانتمائهم “لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام ” وبالتآمر لشن الهجمات على الكويت.
وصورت كل من الحكومتين اتخاذ الإجراءات التشريعية على أنه يخدم الوحدة الوطنية. ولكن لا شك في أن هذه التعديلات والإجراءات الحكومية ذات الصلة قد ضيّقت مسار المشاركة السياسية والخصام. ولقد أُحبطت المعارضة التي باتت محرومة من السلطة. ومع ترشح مرشحين جدد، فإن الوقت وحده هو من سيقرر إذما كان البرلمان المستضعف قادرًا على المحافظة على الدعم الشعبي أو إن كانت الدولة الأمنية ستُزوّد بدعم أكبر لإدارة العقبات السياسية المترتبة عن عزل الناخبين الساخطين.