الانتصارات العسكرية المذهلة التي حققتها القوات الأوكرانية ضد قوات الاحتلال الروسية منذ بداية الشهر الجاري، وخاصة في محيط مدينة خاركيف في شمال شرق البلاد – حتى ولو لم تحافظ أوكرانيا على جميع الأراضي التي حررتها – غّيرت من طبيعة الحرب للمرة الأولى منذ بداية الغزو في 24 فبراير/شباط الماضي، وطرحت أسئلة بدت مستحيلة قبل سبعة أشهر، مثل هل يمكن لأوكرانيا أن تقضي على طموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الإمبريالية، ومن بينها إعادة أوكرانيا إلى روسيا الأم، أو مثل أن أوروبا التي تحتاج الغاز والنفط الروسيين سوف تقبل الواقع الذي سيفرضه بوتين، كما فعلت حين احتل وضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا في 2014.
قبل أيام قالت المؤرخة آن أبلبوم ما كان مستحيلًا أو وهميًا في الأيام الأولى للغزو، كعنوان لمقال نشرته في مجلة ذي أتلانتك، “لقد حان الوقت لنحضّر أنفسنا لانتصار أوكراني”. ورأت أبلبوم، التي نشرت دراسات عديدة عن روسيا وأوروبا الشرقية، إن تحرير أوكرانيا لأراضيها التي كانت تحتلها روسيا يمكن أن يؤدي إلى الإطاحة بفلاديمير بوتين.
صور العتاد الروسي المدمّر في المناطق الأوكرانية المحررة، والأهم من ذلك الأسلحة والذخائر التي غنمها الجنود الأوكرانيون، والتي سيستخدمونها في معاركهم المستقبلية ضد القوات الروسية، والتقارير العسكرية والصحفية حول انهيار الدفاعات الروسية، وفرار الجنود الروس الذين ألقوا بأسلحتهم الفردية، وتخلوا عن بذاتهم العسكرية لارتداء الثياب المدنية التي تساعدهم على الفرار، واعتراف موسكو غير المباشر بالنكسة المهينة واعتبارها “اعادة تموضع عسكري”، كلها عوامل زعزعت قناعات قديمة، وفرضت ليس فقط على روسيا، بل أيضا على الولايات المتحدة والدول الأوروبية، إعادة النظر ببعض مسلماتها منذ بداية الغزو.
خلال الأيام والأسابيع الأولى التي تلت الغزو، توقعت موسكو انتصارًا عسكريًا سريعًا ينتهي بالإطاحة بحكومة الرئيس فلودومير زيلينسكي، وبفراره من البلاد أو مقتله، وفرض نظام موال لموسكو في كييف. من جهتها توقعت الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين انهيارًا سريعًا نسبيًا للقوات الأوكرانية، ولهذا نصحت هذه الدول الرئيس زيلينسكي بمغادرة العاصمة كييف وقيادة المقاومة من خارج البلاد. ولم يتوقع أحد حربًا نظامية بين دولتين كبيرتين في وسط أوروبا من أكبر وأهم الدول المصدرة للقمح في العالم، وأن تستمر لسبعة أشهر، وأن تؤدي إلى اقتلاع وترحيل أو هجرة أكثر من خمسة ملايين مدني أوكراني إلى الدول المجاورة، مع ما يحمله ذلك من اضطرابات مجتمعية واقتصادية وسياسية على قارة أوروبية لم تشهد أراضيها حربا من هذا النوع منذ أكثر من 75 عاما.
خلال حكمه الطويل، أظهر فلاديمير بوتين استعداده لاستخدام القوة العسكرية لتحقيق أهدافه في الداخل (القضاء على المقاومة في الشيشان وتدمير عاصمتها غروزني)، وفي الخارج، احتلال وقضم أراض في جورجيا في 2008، واحتلال وضم شبه جزيرة القرم في 2014، والتدخل العسكري في سوريا في 2015 لمساعدة الرئيس بشار الأسد ضد شعبه. قبل الغزو بدت روسيا في ظل بوتين وقبضته الحديدية مستقرة، واعتقدت بأنها محصنة ضد العقوبات الاقتصادية الغربية بعد أن نجح مصرفها المركزي بجمع احتياط من العملات الأجنبية زادت قيمته عن 630 مليار دولار، وإن أخطأ بإيداعها في مصارف غربية، قامت لاحقًا بتجميدها بعد الغزو.
ولكن طموحات بوتين الإمبريالية، وتوقعات الغرب بحرب قصيرة، ورغبة أو تمنيات الأمم المتحدة و”المجتمع الدولي” بعودة الاستقرار إلى القارة الأوروبية بعد حرب قصيرة يليها وقف لإطلاق النار، تحطمت على صخرة الصمود الأوكراني والمقاومة الشعبية والعسكرية الشرسة للقوات الغازية فاجأ العالم، كما فاجأه أيضا الأداء الرديء للقوات الروسية الغازية، التي عانت منذ اللحظات الأولى للغزو من تخبط القادة العسكريين، وضعف معنويات الجنود الروس، والاخفاق المحرج في تنسيق الهجمات، وحتى في القيام بالمهام اللوجستية الأساسية، ما جعل القوات الروسية تبدو وكأنها قوات تابعة لدولة من المرتبة الثانية أو الثالثة، وليست قوات دولة نووية تصّنع أسلحتها، أو أن تقاليدها العسكرية تشمل قيامها بدور أساسي في إلحاق الهزيمة بألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية. في الأشهر الماضية “حيّد” الأوكرانيون البحرية الروسية في البحر الأسود من خلال تدمير وإغراق بعض قطعها الرئيسية، بمن فيها الطراد الروسي الصاروخي موسكفا في أبريل/نيسان الماضي، كما حيّدوا سلاح الجو الروسي الذي لعب دورًا محدودًا في الغزو.
الشروط المطلقة أو التعجيزية التي طالب بها بوتين في بداية الغزو، أي الاستسلام الكامل من جانب أوكرانيا، وعودتها إلى أحضان روسيا الأم، والتخلص من حكومة الرئيس زيلينسكي، والتخلي عن أي طموحات بعلاقات سياسية واقتصادية وثقافية متشعبة مع الغرب، فرضت على أوكرانيا حربًا وجودية، وسهّلت علي القيادات السياسية والعسكرية القول أن استحالة المفاوضات مع روسيا تعني أن الخيار الوحيد هو مقاومة المحتل بغض النظر عن كلفة هذه المقاومة أو دمويتها.
المقاومة الأوكرانية الفعّالة، والتخبط العسكري الروسي (قّدرت وزارة الدفاع الأميركية عدد القتلى والجرحى الروس بعد 6 أشهر من القتال ما بين 70 و80 ألف عسكري بين قتيل وجريح، من بينهم عدد ملحوظ من الضباط الكبار) دفعت بإدارة الرئيس بايدن وبسرعة إلى تعديل توقعاتها الأولية، والمبادرة بتجنيد موارد حلف الناتو لتسليح وتدريب القوات الأوكرانية، ودعمها من قبل كتلة من الدول الديموقراطية في العالم، من بينها أستراليا واليابان وغيرها. وفي الأشهر الماضية، قدمت الولايات المتحدة مساعدات عسكرية وتقنية لأوكرانيا شملت المسيرات والصواريخ المضادة للدروع والمدفعية المتطورة، زادت قيمتها عن 15.2 مليار دولار. ويقوم المستشارون والمدربون العسكريون الأميركيون بمساعدة وتدريب القوات الأوكرانية في أراضي الدول الحليفة. ومن بين أسباب نجاح القوات الأوكرانية في عملياتها العسكرية الأخيرة في شمال وجنوب البلاد، هو المعلومات الاستخباراتية التي توفرها الولايات المتحدة على مدار الساعة للقوات الأوكرانية.
ردود الفعل الروسية الأولية على النكسات العسكرية الأخيرة التي منيت بها القوات الروسية عكست عمق القلق الذي تعبر عنه الشخصيات السياسية والإعلامية المؤيدة لبوتين، والتي وجدت نفسها عاجزة ومحبطة عن تفسير أسباب الهزائم الميدانية الأخيرة، ومطالبتها لبوتين بتصعيد القتال واستهداف البنية التحتية الأوكرانية بشكل شامل أكثر، وحتى بإعلان حالة تعبئة عامة لزيادة عديد القوات الروسية في أوكرانيا. وفي خطوة لافتة وقّع عشرات المسؤولين المحليين في روسيا على عريضة انتقدوا فيها غزو أوكرانيا، وقالوا إن “اجراءات الرئيس بوتين تضر بمستقبل البلاد وبمواطنيها”، وأضافت العريضة “نطالب باستقالة فلاديمير بوتين من منصبه كرئيس لروسيا الاتحادية”. في الأشهر الماضية، كانت مثل هذه المعارضة العلنية للحرب، ناهيك عن المطالبة باستقالة بوتين، تؤدي بأصحابها إلى السجن. وحتى مؤيدي بوتين، مثل الرئيس الشيشاني رمضان قديروف، انتقدوا علنًا اخفاق الضباط الروس في إدارة الحرب.
حتى الآن، التزم بوتين بصمت محبط لأنصاره، وإن كانت تصريحاته القليلة العلنية التي تزامنت مع بدء الهجوم الأوكراني المضاد، مثل قوله أن روسيا لم تخسر أي شيء، ولن تخسر أي شيء، تعكس تمسكه بحالة النكران للواقع. يقول الخبراء العسكريون المحايدون أن خيارات بوتين العسكرية غير جذابة وغير مضمونة، وقد تعقّد من مشاكله وتحدياته الداخلية. حتى الآن لا يعترف بوتين أن توقعاته الأولية بنجاح عسكري سريع تحطمت خلال أيام، ولا يزال يصر على وصف الغزو كعملية عسكرية محدودة، وقبل يومين قال الناطق باسمه أن التفكير بالدعوة إلى حالة تعبئة عامة لتجنيد أكثر من مئة ألف جندي، ليست واردة “في هذا الوقت”.
النكسات الميدانية الأخيرة لروسيا تؤكد مرة أخرى أن اعتماد بوتين على قوات متطوعة ومقاتلين من الشيشان و”متطوعين” (مرتزقة) من سوريا وغيرها من المناطق، لن تكون كافية لمواصلة القتال، ناهيك عن استعادة الأراضي التي حررتها أوكرانيا. إعلان حالة التعبئة العامة، يعني مجازفة سياسية كبيرة لبوتين، لأنه سيكون بمثابة الاعتراف بالفشل، وأن ما يحدث في أوكرانيا هو حرب شاملة. الرئيس بوتين يدرك أن الشباب الروسي في المدن الرئيسية، والذين سيضطرون للقتال في اوكرانيا في حال قرر بوتين تجنيدهم، لا يريدون أن يكونوا طرفًا في هذه الحرب. حتى الآن العائلات التي لم تر شبابها ورجالها يحاربون في أوكرانيا أو يجازفون بأرواحهم، تعاملوا مع هذه الحرب وكأنها حرب الأخرين، لأنها لم تمسهم مباشرة. التعبئة العامة سوف تغير من مواقف ومشاعر هذه الشريجة الاجتماعية في روسيا. ويقول الخبراء العسكريون أن التعبئة العامة، لن تؤد إلى أي نتائج سريعة، وسوف تتطلب على الأقل ستة أشهر لتأهيل الجنود الجدد وتدريبهم، خاصة وأن القوات الروسية تعاني من نقص في المعدات، بعد الخسائر الكبيرة التي منيت بها في اوكرانيا.
وفي مؤشر حول التحديات التي تواجهها المؤسسة العسكرية الروسية، كشفت الاستخبارات الأميركية أن موسكو طلبت من إيران تزويدها بمسيرات من صنع إيراني، بعد أن خسرت مسيرات عديدة، ولأنها عاجزة عن تصنيع بدائل لها بالسرعة المطلوبة، كما طلبت موسكو من كوريا الشمالية بيعها قذائف مدفعية كانت روسيا قد باعتها في السابق لكوريا الشمالية. أن تلجأ روسيا إلى دول مثل ايران وكوريا الشمالية لمساعدتها عسكريًا، هو أمر محرج ويطرح أسئلة جديدة حول هذا الجيش الذي يفترض أن يكون مؤهلًا لمواجهة القوات الأميركية أو قوات حلف الناتو.
بعض المحللين العسكريين، يقولون أن بوتين لا يزال يعول على “جنرال الشتاء” لمساعدته، لأنه لا يزال يصر على أن حاجة دول أوروبية، مثل المانيا وغيرها، إلى الغاز والنفط الروسيين سوف يفرض عليها خيارات صعبة، وقد تضطر إلى الضغط على كييف للتوصل إلى تسوية سياسية. ولكن ردود الفعل الأميركية والأوروبية على النجاحات العسكرية الأوكرانية أدى إلى نتائج عكسية. الموقف الألماني ازداد تصلبًا ضد روسيا بعد الانتصارات الأوكرانية، وهذه الانتصارات سوف تجعل من الصعب جدًا على أي دولة اوروبية أن تضغط على أوكرانيا، أو أن ترفض طلباتها لمزيد من الاسلحة.
الغزو الروسي لأوكرانيا، فرض اصطفافات دولية جديدة. هناك الكتلة التي تمثلها أوكرانيا وحلفائها الديموقراطيين، وفي طليعتهم الولايات المتحدة، وهناك الكتلة التي تمثلها روسيا وحلفاءها العسكريين، مثل إيران وكوريا الشمالية، والتي دفعت ببعض المحللين إلى وصفها بـ “محور الشر الجديد”. وأخيرًا، هناك كتلة الدول المحايدة رسميًا، ولكن متعاونة عمليًا مع روسيا، والتي منعت حتى الآن اقتصادها من الانهيار، وهي تشمل الصين والهند والبرازيل، ودول عربية مثل السعودية. هذه الدول تنسق سياساتها النفطية مع روسيا، وتشتري منها النفط بأسعار مخفضة، ما يضمن استمرار التمويل المالي للغزو. هذه الدول تخدم مصالحها الاقتصادية الآنية، وتربطها علاقات قديمة مع روسيا، ولها علاقات متشعبة، وأحيانًا، مضطربة مع واشنطن، وهي لن تغير من سياساتها حتى ولو أدى ذلك إلى فتور أو حتى توتر في العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة.
لا أحد يتوقع أن تنتهي الحرب في أوكرانيا في أي وقت قريب، وعلى الرغم من نكساتها الأخيرة، فإن روسيا قادرة على مواصلة الحرب في المستقبل المنظور، ولديها القدرة العسكرية على إلحاق أضرار كبيرة في البنى التحتية الأوكرانية أو قصف المدن وغيرها من الأهداف المدنية وإطالة أمد معاناة الأوكرانيين. كما أن استمرار المأزق العسكري الروسي في أوكرانيا، وهو ما يتوقعه المحللون العسكريون، يعني أن إمكانية انتصار أوكرانيا في الحرب أصبحت في حيز الممكن. كما أن المأزق الراهن سوف يدفع بالمزيد من الروس – من مدنيين وربما عسكريين – إلى تحميل بوتين، وليس وزير الدفاع أو أي ضابط عسكري، مسؤولية هذه النكسة المهينة لروسيا.
النجاحات الميدانية الأخيرة لأوكرانيا، أكدت من جديد أن روسيا ليست قوية أو محصنة كما اعتقد بوتين –وغيره الكثيرون في العالم – وأن أوكرانيا، الدولة المستقلة منذ 31 سنة فقط، قد أثبتت أنها قادرة على الدفاع عن نفسها بفعالية وشجاعة. وأكدت انتصارات أوكرانيا مرة أخرى أن المواجهات مع أنظمة سلطوية وعدوانية، يقودها رجال من أمثال بوتين، لا يمكن التفاوض معها، بل يجب احتوائها بمزيد من الأساليب العسكرية والسياسية والاقتصادية إذا أمكن، أو هزيمتها على أرض المعركة إذا دعت الضرورة.