عندما اخترقت الدبابات والمدرعات الروسية حدود أوكرانيا، بادئة بذلك أكبر غزو بري تشهده أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، لم يتوقع الرئيس فلاديمير بوتين أن يؤدي قراره المتهور إلى بدء حقبة جديدة في العلاقات والتوازنات الدولية، سوف تمس تداعياتها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية جميع بقاع العالم، وسوف تكون ردودها كارثية عليه وعلى روسيا بطرق لم يتصورها أحد. في الأسابيع والأشهر التي سبقت الغزو، كان بوتين القيصر المبادر، الذي يأمر جحافله العسكرية بحصار أوكرانيا من الشرق والجنوب والشمال، الزعيم الجالس في عزلته الغريبة في القاعات الواسعة في الكرملين، حيث يواجه عبر هوة واسعة أو طاولات لا نهاية لها مستشاريه المتلعثمين وهو يؤنبهم علنًا، أو يستقبل قادة دول أوروبية هامة، مثل ألمانيا وفرنسا، قاموا بفريضة الحج السياسي إلى موسكو لمناشدته ضبط النفس، وعدم غزو الدولة التي يقطنها أكثر من أربعين مليون مواطن، يدعي بوتين أنهم منحدرون من الأم روسيا.
بعد أسبوع واحد من بدء الغزو، أصبح من الواضح أن جميع حسابات بوتين السياسية والعسكرية والاقتصادية كانت خاطئة أو ساذجة بشكل محرج. لم يتوقع بوتين أن يواجهه الغرب بجبهة موحدة وقادرة على اتخاذ قرارات عقابية حاسمة وسريعة ضد اقتصاده وقواته. من عزلته في موسكو رأى بوتين رئيسًا أميركيًا ضعيفًا أحرجه الانسحاب الفوضوي والدموي من أفغانستان، ويتعرض لانتقادات قوية بسبب ارتفاع معدلات التضخم، وخاصة أسعار الأغذية والمحروقات. وعندما ألقى الرئيس بايدن أول خطاب له حول حالة الاتحاد الفيدرالي يوم الثلاثاء كان بالكاد يحظى على تأييد 43 بالمئة من الأميركيين، وهو مقبل على انتخابات نصفية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، يجمع المراقبون أنها ستهزم حزبه في الكونغرس، وتحوله إلى رئيس لتصريف الأعمال حتى نهاية ولايته.
ولكن بايدن، على الرغم من بعض التردد والتخبط الأولى، بعد الساعات التي تلت الغزو، سارع مع كبار مساعديه إلى البدء بتطبيق جميع التحضيرات والخطط والإجراءات السياسية والعسكرية والمالية، التي بحثها خلال الأشهر الماضية بالتفصيل، وأحيانا بشكل يومي مع الحلفاء، لمعاقبة روسيا إذا تهورت بالفعل واجتاحت اوكرانيا. الرئيس بايدن الذي كان نائبًا للرئيس أوباما في 2014 حين غزا بوتين أوكرانيا للمرة الأولى وضم شبه جزيرة القرم، يدرك أن الولايات المتحدة وحلفاؤها آنذاك خذلوا أوكرانيا لأنهم لم يفرضوا على بوتين دفع ثمن باهظ لعدوانه، ومن هنا تهديده المستمر من أن العقوبات هذه المرة سوف تكون بالفعل غير مسبوقة.
أحد الأسئلة التي طرحت في واشنطن بعد الغزو هو: لماذا لم يغز بوتين أوكرانيا خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، المعجب بشخصية بوتين وأسلوبه القيادي الأرعن؟ الجواب البديهي هو أن بوتين، الذي توقع إعادة انتخاب ترامب في 2020، كان يريد أن يواصل صديقه في البيت الأبيض عملية تفكيك حلف الناتو، وتوسيع الهوة أكثر بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وهو هدف رئيسي لبوتين. صحيح أن الرئيس بايدن أعاد الكثير من العافية الصحية لحلف الناتو، ولكنه لم يمح من الذاكرة الأوروبية الجماعية الضرر الذي ألحقه ترامب بالحلف. ولكن هذا ما حققه بالضبط الغزو الروسي لأوكرانيا. بوتين هو المسؤول الأول الآن عن استعادة الحلف لمهمته ووظيفته وهويته.
وللمرة الأولى، منذ حروب البلقان في تسعينات القرن الماضي، اكتشفت دول أوروبا أن الحرب الشاملة يمكن أن تزور القارة حتى في بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وأن قائد روسيا، الذي يسيطر على أكبر ترسانة نووية في العالم، قادر على غزو دولة أوروبية كبيرة، إما لتفكيكها أو السيطرة عليها أو تحييدها، وأنه لا يتردد في التلويح بالخيار النووي. هذا الاكتشاف كان في الواقع صدمة لقارة بدت دولها في السنوات الاخيرة غير واثقة من نفسها، وتعاني من استقطابات اجتماعية وسياسية عميقة ناجمة عن أزمات اقتصادية، أو نابعة من تحديات الهجرة واللاجئين من شرق وجنوب القارة، على خلفية بروز تيارات يمينية وعنصرية (تحظى بدعم سياسي وتمويل مالي من روسيا)، وتشكل تهديدًا للأنظمة الليبرالية الديموقراطية الأوروبية. هذه الدول الأوروبية كانت تخشى من تهديدات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشأن مصادر الطاقة في شرق المتوسط، وابتزازاته لهذه الدول للحصول على ما يمكن تسميته “أموال حماية”، لكي لا يعرضها لموجات جديدة من اللاجئين من الشرق الأوسط وأفريقيا. في السنوات الماضية أظهرت بعض استطلاعات الرأي أن شريحة هامة من الشباب الأوروبي غير مستعدة للدفاع عن أوطانها حتى ولو تعرضت لعدوان. هذه القارة المرهقة، تغيرت خلال الأيام الأولى التي عقبت الغزو الروسي لأوكرانيا.
العامل الأساسي وراء ردود الفعل العالمية القوية ضد الغزو الروسي، هو شجاعة وإرادة وعنفوان الشعب الأوكراني وقيادته. الأوكرانيون لم يقاوموا بحزم وشجاعة فحسب، بل بكرامة ونبل وإنسانية. فاجأوا أنفسهم وفاجأوا العالم بأعصابهم الباردة وحكمتهم ومواهبهم في ابتكار سبل المقاومة الشعبية الخلاقة. وقفوا بأجسادهم أمام الدروع الروسية، وحضروا قنابل “المولوتيف كوكتيل” لرشقها ضد الآليات الغازية، وسارعوا إلى تشكيل فرق الدفاع المدني والعسكري. وشاهد العالم صور الرجال الأوكرانيين وهم يودعون زوجاتهم وأولادهم على الحدود ليعودوا إلى أوكرانيا للمشاركة في الدفاع عن الوطن. وإذا كان بوتين قد خدع نفسه بأنه سيجد من يرحب بجيوشه، وأن قوته العسكرية سوف تؤدي إلى انهيار السلطة في كييف، فقد وجد أنه عزز بشكل لم يتوقعه أحد من أهمية الهوية الوطنية الأوكرانية، وهي هوية حديثة العهد لا يزيد عمرها عن ثلاثين سنة. الرئيس فلودومير زيلينسكي، الذي كان ممثلًا وكوميديًا، قبل انتخابه، ارتفع إلى مستوى التحدي التاريخي ليقود بلاده في أحلك لحظاتها منذ استقلالها في مواجهة عملاق عسكري.
هذه المقاومة الأوكرانية شجعت أوروبا على إعادة اكتشاف قوتها الذاتية التي لم تستنزفها كليًا. ألمانيا التي كانت مترددة في وقف الترخيص بعمل خط أنابيب الغاز الطبيعي الروسي المعروف باسم نورد ستريم-2 ، وفرنسا التي كانت تريد التفاوض مع روسيا باسم أوروبا ودون الولايات المتحدة، عادتا بسرعة إلى صف حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، بعد إدراكهما بأن السيف الروسي سوف يبقى معلقًا فوق رأس كل دولة أوروبية إذا نجح عدوان بوتين في أوكرانيا. التحول الكبير الاستراتيجي والاقتصادي كان في ألمانيا، وقرارها تعليق نورد ستريم-2، والأهم من ذلك قرار المستشار الجديد أولاف شولتز زيادة الميزانية العسكرية إلى أكثر من 2 بالمئة من الناتج القومي، وهو تحول جذري ومطلب أميركي قديم كانت تقاومه ألمانيا منذ سنوات. شولتز قال إن القوة العسكرية الألمانية يجب أن تعكس “حجم وأهمية” البلاد. وتخلت ألمانيا عن ترددها قبل الغزو بتزويد أوكرانيا بالأسلحة الدفاعية، وقررت تزويدها بألف صاروخ مضاد للدروع و500 صاروخ مضاد للطائرات من طراز ستينغر (الذي كان كابوس السلاح الجوي السوفياتي في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي). ولم يكن مفاجئًا أن توافق أكثرية من 78 بالمئة من الألمان على موقف حكومتهم بشأن دعم اوكرانيا وزيادة الميزانية العسكرية.
معظم الدول في حلف الناتو قررت تسليح أوكرانيا، وحتى السويد المحايدة قررت تسليح أوكرانيا، كما أعلنت فنلندا المحايدة عن دعمها لأوكرانيا. وإذا كان بوتين يريد ترهيب الغرب وارغامه على إلغاء عضوية دول بحر البلطيق، استونيا وليتوانيا ولاتفيا، إضافة إلى بولندا ورومانيا، في الحلف، فإنه أكتشف أن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الاوروبية قد زادت من عديد جنودها في هذه الدول القريبة جغرافيًا من روسيا. كل هذه التحولات الجذرية لم يتوقعها قطعا بوتين.
وخلال أقل من أسبوع، تحولت روسيا بالفعل إلى دولة منبوذة عالميًا، وخاضعة لعقوبات مالية واقتصادية غير مسبوقة ضد دولة كبيرة مثل روسيا، وعقوبات ثقافية وفنية بعد أن قاطعتها مؤسسات وشخصيات ثقافية وفنية عالمية، كما قاطعتها المنظمات الرياضية العالمية. تقليديًا العقوبات الاقتصادية، حتى عندما تكون دولية لا تحقق أهدافها بسرعة أو بشكل فعّال. ولكن شمولية العقوبات الحالية ضد روسيا ونوعيتها أثرّت بسرعة على الاقتصاد الروسي، وسلبت الروبل الروسي من قيمته بشكل كلي تقريبًا، وأرغمت موسكو على إغلاق أسواقها المالية، بعد أن تم حرمان حوالي ثمانين بالمئة من المصارف الروسية من استخدام نظام سويفت للمعاملات المالية الدولية، ما يعني عمليًا تعطيل هذه المصارف كليًا. وكان بوتين منذ غزوه الأول لأوكرانيا يحاول تحصين اقتصاده ضد أي عقوبات غربية جديدة، ومن هنا نجاحه في جمع احتياط ضخم من العملة الأجنبية زادت قيمته عن 600 مليار دولار.
وفي مؤشر على تفّرد بوتين بصنع القرار، فقد بقي هذا الاحتياطي الضخم مودعًا في مصارف أميركية وأوروبية حتى بعد عبور الدروع الروسية للحدود الأوكرانية. وعندما قررت الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين فرض العقوبات ضد المصرف المركزي الروسي، وتجميد ودائعه في الغرب، فإنها حرمت موسكو من الوصول إلى هذا الاحتياطي الضخم لتعويم عملتها التي غرقت كليًا. ونجحت واشنطن بإقناع دول هامة اقتصاديًا خارج أوروبا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلاند على المشاركة في مقاطعة روسيا، الأمر الذي شكّل جدارًا اقتصاديًا حديديًا عالميًا يحاصر روسيا، التي يجب التذكير بأن اقتصادها الذي يمثل الاقتصاد الثاني عشر في العالم، يساوي في الواقع اقتصاد ولاية تكساس الأميركية.
الأمر اللافت في هذا السياق أن العديد من الشركات العملاقة في القطاع الخاص قامت (لأسباب مالية أو أخلاقية) بوقف عملياتها في روسيا والانسحاب الجزئي أو الكلي من هذا السوق. وهذا شمل شركات عملاقة تنشط في مختلف المجالات من بينها شركة آبل وشركة الانتاج السينمائي والفني ديزني، وشركة السيارات فورد، وانضمت إليها شركة إيكسون للطاقة التي انسحبت من آخر مشروع لها في روسيا، وانضمت بذلك إلى شركات دولية للطاقة مثل بي بي (BP) وشيل، وكبريات شركات الشحن الدولية مثل ميرسك وغيرها.
الأداء المحرج للقوات الروسية الغازية، والذي بدا واضحًا من توقف القوافل العسكرية بسبب انعدام إمدادات النفط والأغذية، أظهر أن الجيش الروسي ليس ذلك الجيش القوي الذي اعتقد بوتين أنه أعاد بنائه خلال العقدين الماضيين. هذا الأداء العسكري الرديء، إضافة إلى الكلفة المالية الباهظة للعقوبات، دفعت ببعض المحللين والاخصائيين بالشؤون الروسية في الولايات المتحدة إلى التساؤل حول ما إذا كانت “حقبة بوتين” في روسيا قد شارفت على النهاية. ويتحدث هؤلاء عن التظاهرات الشعبية ضد الحرب، والتي اندلعت في 58 مدينة روسية، وأدت إلى اعتقال الآلاف من المتظاهرين، ورأوا فيها تحد هام لبوتين، سوف يتفاقم إذا تورطت روسيا في حرب مدن في أوكرانيا، على خلفية عقوبات مالية كارثية، الأمر الذي يمكن أن يؤدي بالجيش الروسي وأقطاب الطبقة الأوليغارشية إلى الابتعاد عنه وربما الانقلاب عليه.
لا أحد يعلم بأي يقين كيف ستتلاحق الأحداث في أوكرانيا، ولكن العالم سوف يشعر بترددات الزلزال الذي تسبب به بوتين لسنوات طويلة، وهذا الزلزال بالتأكيد سوف يغير روسيا وأوكرانيا، ومعهما أوروبا والولايات المتحدة، بطرق مختلفة لا يمكن التنبؤ بها في هذا الوقت المبكر.