ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
ما عزلة قطر إلا مثال على كيفية عرقلة السياسة في دول الخليج العربية للتنوع والتحوّل الاقتصاديين. فقد ظهر عددٌ من الرؤى القاضية بالتغيير بعيدًا عن النمو الذي تقوده الدولة ستؤمن فيها دينامية القطاع الخاص الجديدة وتوسيع أسواق الأسهم الخليجية فرص عمل للمواطنين وتغني الدول عن عائدات النفط والغاز. بيد أنّ الوقائع السياسية على الأرض في الأسبوعين الأخيرين تثبت أن ثمة قوى أخرى أكثر نفوذًا تشارك في هذه اللعبة السياسية.
ويشير تعنّت طرفي الصراع، وكلاهما يزدادان تشددا، أن النمو الاقتصادي وتحرير هذه الاقتصادات السياسية أولويتان من الدرجة الثانية بالنسبة إلى الأطراف المعنيّة. وتقوّض العقوبات التي تفرض باستمرار على حرية التعبير الشخصية وسهولة التنقل بين دول “مجلس التعاون الخليجي” الثقة الاجتماعية ومؤسسات الاقتصاد الحر غير الرسمية. وستتمثل عواقب هذا الواقع في إضعاف، إن لم نقل تشتت، “مجلس التعاون الخليجي” وفي تراجع هيمنة الدولة على كل من الاقتصادات والمجتمعات في دول الخليج العربية. والمفارقة هي أن الدول الأمنية نادرًا ما تنعم بالازدهار.
ويُظهر الحصار المفروض على الدوحة أن هدف سهولة التنقل الاقتصادي لكل من المواطنين الخليجيين والاستثمار ليس مشتركًا بين دول “مجلس التعاون الخليجي” أو على الأقل لا تعتبره أولى أولوياتها. وفي الوقت الذي يبيع فيه المستثمرون القطريون طوال هذا الأسبوع الأصول التي يمتلكونها في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ليتمكنوا من مغادرة البلدين ضمن المهلة المحددة التي فرضتها عليهم الدولتان، تشكّل صفقات البيع العاجلة والمخفضة السعر فضلا عن العائلات المشتتة نموذجًا عن أسوأ الكوابيس التي تطارد كل مستثمر أجنبي مباشر. فيعتمد الاستثمار الأجنبي، سواء كان في متجر صغير للبيع بالتجزئة أو في مشروع مشترك يساوي مليارات الدولارات، على سهولة حركة رأس المال وسيادة القانون. ومتى افتقرت الدول لهذين النظامين، عانت اقتصاداتها. وتجدر الإشارة إلى أن نتائج الأبحاث التي توصّل إليها الباحثون المخضرمون في مجالات التحولات ما بعد الاشتراكية وإرساء الديمقراطية والاقتصاد الإنمائي كانت متناغمة في مختلف المناطق: إن حقوق الملكية الفكرية (والثقة الاجتماعية) عنصران أساسيان للنمو الاقتصادي. وستتوقف أهداف خصخصة أصول الدولة وتحفيز نمو القطاع الخاص وإرخاء قبضة الدولة على الاقتصاد، على المفاهيم المستمدّة من الحكم حول حقوق الملكية الفكرية، وإشهار الإفلاس بطريقة نظامية ونوع من القدرة على انخراط الشركات في كافة القطاعات من دون أن تُعطى الأفضلية لمصالح الدولة.
وشاعت أنباء في المملكة العربية السعودية عن الانهيار الوشيك لشركة “سعودي أوجيه” العملاقة العاملة في مجال البناء. لم يتقاض العمال الأجانب فيها أجورهم كما صرف عدد كبير من السعوديين من وظائفهم نظرًا إلى حلّ الشركة أو اقتسام ملكيتها بين شركات جديدة قد تربط بعضها علاقات بالدولة أو بالعائلة المالكة. وقد تكون الطريقة التي ستستخدمها “سعودي أوجيه” لحلّ شركتها في المملكة العربية السعودية بمثابة مؤشر على المخاطر التي ستترتب عن عمليات القطاع الخاص في وقت تسعى فيه الحكومة إلى تقديم ما قد يصل إلى 250 مليار دولار في عقود البناء، وفي قطاع الطاقة بشكلٍ رئيسي. وستأخذ شركات القطاع الخاص الحيطة والحذر، ولاسيما عندما تقترب أعمالها كثيرًا من الدولة أو عندما يصبح الاقتراب منها مغريًا.
وعلى نحو مماثل، ستعتبر الجهود الرامية إلى خصخصة المستشفيات والمطارات أولى العلامات التي ستدلّ على الطريقة التي تعتزم الدولة أن تتبعها في التعامل مع المستثمرين الجدد المحليين والأجانب. وكانت المطارات أولى المواقع التجريبية التي استخدمتها المملكة العربية السعودية في توجهها نحو الخصخصة، على الرغم من أن معظم الترتيبات لم تكن ترمي إلى الملكية الكاملة للأصول، بل إلى تنازلات للبناء أو التشغيل. وبموجب العقود الجديدة التي وقّعت في 8 حزيران/يونيو، ستتولى شركات من وسنغافورة وتركيا وألمانيا مهمة تشغيل المطارات في المملكة العربية السعودية.
أما بالنسبة إلى الشركات الكبرى التي تعقد صفقات تجارية في دول “مجلس التعاون الخليجي”، من تجمّعات شركات الشحن إلى شركات التبريد والمصارف والخدمات المهنية، فستخلّف المنطقة الرمادية بين تعليمات الحكومة المباشرة بشأن العمليات التجارية المتبادلة في قطر ودول أخرى من دول “مجلس التعاون الخليجي” وتوخي الحذر الشديد في ما يتعلق بالعمليات التجارية، موجةً من الاحتكاك وستعيق التوسع الإقليمي. وبالتالي، لن يعتبر انخفاض فرص الوصول إلى السوق القطرية بحد ذاته خسارة فادحة، إلا أن سابقة القيود القانونية المفروضة على التجارة والخدمات ستزيد من الأخطار التي ترافق أي معاملة أو مشروع تجاري مشترك أو محاولة لتطوير المنتجات المالية الأكثر تعقيدًا في أسواق الأسهم الخليجية كالصناديق المتداولة في البورصة.
وفي الإمارات العربية المتحدة، أثار المنحى الشديد الذي اتخذته في عزل قطر الدهشة لدى عدد كبير من رجال الأعمال المغتربين. إذ تتنافى هذه الضراوة مع الأخلاقيات التي لطالما اتّسم بها مجتمع الأعمال في دبي الذي يعتبر السياسة والجنسية عنصرين ثانويين عند إبرام أي صفقة. وفي ما يتعلق بتقديم المساعدات الخارجية، وإبرام الاتفاقيات الثنائية المتعلقة بالزراعة والتعاون العسكري، فقد تزداد الانحيازات والاصطفافات، ما لن يعيق التعاون في “مجلس التعاون الخليجي” فحسب، بل التعاون الإقليمي أيضًا في القرن الإفريقي وغيرها من دوائر النفوذ الأوسع نطاقًا.
وتجد في الكويت، وفي عمان بشكل أكبر، عكس توجهات العزل، ألا وهو النشاط الاقتصادي الانتهازي وسياسة إفقار الجار. فقد زاد الطيران العُماني من إمكانيات وعدد رحلاته اليومية بين مسقط والدوحة، فيما سيتسع مطاره في صحار ليشمل الرحلات الدولية. وقد يكون دور الوساطة الذي تضطلع به الكويت مجديًا أو مضيعةً للوقت. ولا يخفى على أحد أن للكويت مصلحة في استقرار “مجلس التعاون الخليجي”، إذ أعطى انطباعا على أن أعضاء الاتحاد وكأنها قوى ذات مكانة متساوية. ومتى أصبح أقل نفوذًا، فقدت الدول الأعضاء الأصغر حجمًا في “مجلس التعاون الخليجي” كالكويت وسلطنة عُمان والبحرين ما تبقى لها من الاستقلالية، والأهم من ذلك كلّه أنها سترزح تحت وطأة الآثار السلبية على التوسع الاقتصادي والفرص الاقتصادية السانحة أمام المواطنين.
قد لا تولي القوى النافذة التي تقود السياسة الاقتصادية في دول الخليج العربية في الوقت الحالي الأولوية للتنوع والنمو الاقتصاديين. وستكون الخسائر أقل قدرة ملموسة على قياس ما كان يمكن أن ينطوي عليه نمو المنافسين الإقليميين في مجالات الرعاية الصحية والطاقة والشؤون اللوجستية والتجارة الإلكترونية والخدمات المالية وغيرها. وعلاوةً على ذلك، ما لم تحظ الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية بدعم واشنطن في سياساتها العقابية تجاه قطر، فستخاطران في تعرضهما للعزلة وتشويه سمعتهما التجارية كموقعين للفرص الاقتصادية.