جدول أعمال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مزدحم، فهو في صدد تركيز السلطة في المملكة العربية السعودية بشدة تحت إشرافه وذلك على خلاف كل من كان قبله. وقد تضمن ذلك احتجاز بعض كبار الأمراء السعوديين مؤخرًا بتهمة الفساد. ولم يسبق لهذا التحرك مثيلٌ في تاريخ المملكة وبالفعل، يصعب الإشارة إلى أي اعتقالات مماثلة واسعة النطاق في أي بلد في التاريخ المعاصر لأعضاء العائلة المالكة ذوي المناصب الحالية أو السابقة أو لنظرائهم أو للوزراء أو لرواد الأعمال.
وفي الأسبوع الماضي، كان الفندق الذي يستضيف اليوم الأمراء المحتجزين موقعًا فخمًا لاحتفالات الاستثمار الدولي. وقد أعلن محمد بن سلمان عن مشروع نيوم (Neom) الذي سيُنفَق عليه مبلغًا قيمته 500 مليار دولار صمم بهدف تحفيز الاقتصاد السعودي في المستقبل سعيًا منه إلى إطلاق عملية تعزيز انفتاح المملكة العربية السعودية على العالم. وفي أواخر شهر أيلول/سبتمبر، رُفِعَ الحظر المفروض على قيادة المرأة للسيارات، ما يعتبر لحظة رمزية هائلة في تاريخ المملكة. وقبل الإعلان عن رفع الحظر بلحظات، تم توقيف بعض أبرز المثقفين وعلماء الدين السعوديين الذين يمكن اعتبار الكثير منهم ضمن طيف التيار الإسلامي، والذين كان يحظى البعض منهم بملايين المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي.
في حزيران/يونيو، انضمت المملكة العربية السعودية إلى الإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر في فرض الحظر على قطر، ما يمثل سياسات سعودية أخرى لا مثيل لها في تاريخ الحكومات الملكية في الخليج. وفي العام 2016، في سياسات لم يكن تصورها ممكنًا حتى تلك اللحظة، أعلنت المملكة بيع حصص في جوهرة المملكة، ألا وهي شركة النفط الحكومية أرامكو. في العام 2015، شنت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة حربًا في اليمن على نطاق لم يشهد له مثيلًا من قَبْل من جانب الحكومات الملكية في الخليج. واعتبارًا من العام 2012، أثار ظهور محمد بن سلمان نفسه ذهول التقليديين السعوديين إذ تولى العمل في المزيد من المناصب، مستوليًا على مراكز ملكيين قدامى يتمتعون بخبرة أكبر وذلك ليصبح وزيرًا للدولة، ووزيرًا للدفاع، وولي ولي العهد، وولي العهد. كما أنه ما من سبب يدفع بنا إلى الاعتقاد بأن السياسات التي تحطم النمط السائد ستتوقف هنا. فلن يكون الأمر غريبًا إذا سعت المملكة على سبيل المثال إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل في المستقبل القريب.
وكان يمكن لأي واحدة من هذه السياسات، التي حطمت النمط السائد والإجراءات المتوقعة الممكن تحقيقها في السياسة السعودية، أن تشعل العالم الذي ينظر إلى واقع السعودية، بالجدالات والتحليلات المتنافسة. أما تلك السياسات جميعها فتعادل معًا سلسلة غير مسبوقة من السياسات تقذف بالسعودية إلى المجهول.
وهنا إذًا تجد قطر نفسها، مجرد قضية واحدة من سلسلة قضايا السياسات المتنافسة. فتستنزف هذه الأزمة قطر تمامًا، كما كان متوقعًا. وتركز الدولة على إعادة تجهيز وارداتها وصادراتها والنظر في رد فعلها السياسي، وتخمين ما يمكن أن يصدر عن الدول الرباعية التي تفرض الحظر عليها وتخيل كيفية البدء في وضع حل للأزمة. وتجري المنشآت التجارية حسابات مماثلة، وتعمل على التخلص من الأضرار الناجمة عن الحظر المفروض، وتنظر في أفضل السبل للتخفيف من آثارها وتتساءل ما إذا كانت ستحتاج مغادرة الدوحة أم لا. أما المغتربون الذين يواجهون إمكانية الانتقال فيحاولون فهم ما تعنيه هذه الأزمة لهم ولأسرهم ولمستقبلهم.
وبصفة عامة، أظهرت الدولة القطرية قدرة ملحوظة على الصمود. ولكن مشكلة القيادة القطرية هي أن هذه الأزمة، التي تستهلك اهتمامها، تصل بالكاد إلى لائحة المشاكل الخمس ذات الأولوية بالنسبة للمملكة العربية السعودية. وفي الوقت نفسه، لا تزال دولة الإمارات العربية المتحدة تعارض بشدة تخفيف الضغط على الدوحة. كما إن أبوظبي ترى أن القطريين قد أثبتوا أنهم ببساطة غير جديرين بالثقة، وهو رأي أشبه بإيمان وثيق. فمن وجهة نظرها، إن الاتفاقيات الموقعة في عامي 2013 و2014، قد أبطلها القطريون. فما الهدف من إعادة التفاوض معهم مرة أخرى إذًا؟ وعلاوة على ذلك، في صميم هذا النزاع، يبرز اختلاف أساسي في الرأي حول دور الإسلام في الحياة اليومية في العالم العربي. فالإماراتيون يريدون أن يلعب الإسلام دورا في المجتمع، ولكن في المجال الخاص فحسب، في حين أن قطر قد دعمت غالبًا الأفراد والأحزاب والدول التي أرادت مأسسة دور الإسلام وتسييسه في المجتمع.
أما وجهة نظر محمد بن سلمان حول هذه المسألة فليست واضحة. فمن الواضح أنه يريد ضبط دور الإسلام في المملكة العربية السعودية إلى حد أبعد بكثير؛ إذ إن إجراءات احتجاز رجال الدين، وتجريد الشرطة الدينية من السلطات، والسماح للمرأة بالقيادة تشير جميعها إلى اتجاهه هذا. ولكن بالنسبة للسياسة الدولية، لا يزال مستعدا أكثر من الإمارات على التحالف مع مجموعة واسعة من الإسلاميين. ولذلك كثيرًا ما تجد الدولتان نفسيهما على خلاف في مدينة تعز في اليمن، على الرغم من أنهما حليفتان مقربتان في الحرب في اليمن، إذ يريد السعوديون التحالف مع قوات متصلة بجماعة الإصلاح، وهي جماعة تابعة للإخوان المسلمين اليمنيين، في حين يرفض الإماراتيون، باستمرار، القيام بهذا التحالف في تلك المدينة.
المقصود هنا أنه ما من دليل يثبت أن محمد بن سلمان قلقًا أو غاضبًا من القطريين كالإماراتيين. ففي العام 2014، وفي خلال الأزمة الخليجية الأخيرة التي تركزت حول قطر، جاء الحل عبر الرياض. وما لم يقم فعلا رئيس لجنة مجلس الشيوخ الأمريكي للعلاقات الخارجية بوقف توفير المبيعات العسكرية الأجنبية إلى الخليج في المستقبل، من المرجح أن تكون المملكة العربية السعودية مرة أخرى الجهة الفاعلة الوحيدة التي تملك القدرة على تغيير موقف الإماراتيين.
ولذلك، تنتظر قطر أن يعود اهتمام محمد بن سلمان إلى الدوحة. على الرغم من أن الشركات السعودية والبحرينية والإماراتية تعاني إلى حد ما، وعلى الرغم من أن الحظر قد تسبب بزعزعة في شبه الجزيرة نظرًا إلى الروابط العائلية المقربة فيها، لا يمكن معرفة متى يظهر ملف قطر من جديد في الصدارة لدى محمد بن سلمان. وبالفعل، كان تصريح ولي العهد بديهيا عندما قال في أواخر شهر تشرين الأول/أكتوبر إن قضية قطر هي “قضية صغيرة جدًا جدًا جدًا” وقد تضطر إلى الانتظار حتى اعتلائه عرش الملك لكي يشعر أنه يملك مجالًا للقيام بمبادرة كريمة، إذا أراد ذلك، من أجل إعادة قطر إلى الواجهة باسم توحيد الخليج.
ولكن حتى في تلك الحالة، إذا كانت قطر تريد حلا، سيتعين عليها التأكد من نوع التنازلات التي ترغب في تقديمها، كما ستحتاج أيضًا إلى الحصول على دعم من محمد بن سلمان. ومن شأن القيام باستثمار كبير في رؤية السعودية 2030 أن يسهل الأمر. والمثير للاهتمام هو أن قطر قد وقعت على اتفاق في أيلول/سبتمبر لشراء ما يصل إلى 24 طائرة تايفون بريطانية نفاثة بعد سنوات من التردد. وتعتبر المملكة العربية السعودية إحدى أكبر مستخدمي هذه المنصة في العالم، وفي إطار رغبة الدولة في تعزيز اقتصادها المحلي، تحرص المملكة على بناء أكبر قدر ممكن من تلك المنصة محليًا. ويمثل ذلك الطريقة المثالية بالنسبة لقطر لدمج نفسها أولا في جزء أساسي من الاقتصاد السعودي، ولتعِد الدولة السعودية ثانيًا بالاستثمار بشكل كبير فيها وذلك من دون أن تبدو وكأنها تدفع رشوة. كما سيعزز ذلك رواية أن قطر تسعى إلى العمل مباشرة مع المملكة العربية السعودية بشأن مسائل التعاون الدفاعي.
ولا يعتبر أي من ذلك سهلًا. فإن السياسة في الخليج تتغير بمعدل لا نظير له، ما قد ينفي هذه الفرص أو قد تُحَل الأزمة في الغد القريب استنادًا إلى نزوة، على الرغم من عدم توفر دلائل حول حصول ذلك في الوقت الحاضر. وبالمثل، بالنسبة إلى موضوع بيع التايفون، فإن العقبات من الجانب البريطاني، فضلًا عن الجانبين السعودي والقطري، أمام العمل معًا بشكلٍ مجدٍ في اتفاق موازٍ، هائلة. ولم توقع قطر حتى الآن الاتفاق النهائي مع شركة بي أي إي سيستمز (BAE Systems). إلا أنها بحاجة إلى أن تستعد إلى اغتنام الفرصة، متى سنحت لها، لحل الأزمة في البلاد في حال لم يتم تحويلها على مدى سنوات طويلة إلى قضية هامشية.