لقد أثبتت دبلوماسية قطر بعد السابع من أكتوبر براعتها بشكل ملحوظ، ومن شأن اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بين إسرائيل وحركة حماس أن يعزز نجاح الدوحة في تحويل أحد الأعباء الجدية المحتملة إلى إنجاز دبلوماسي كبير. وبالفعل، يبدو أن دور قطر المحوري في المفاوضات، إلى جانب مصر والولايات المتحدة، وبراعتها في إدارة الانتقادات بسبب علاقاتها مع حركة حماس قد عزز إلى حد كبير موقفها الدبلوماسي، ومن المحتمل أن ترتفع مكانتها الإقليمية جنباً إلى جنب مع حلفائها المقربين في الحكومة الإسلامية في تركيا.
في أعقاب هجمات السابع من أكتوبر، تعرضت قطر لانتقادات شديدة بسبب رعايتها طويلة الأمد لحركة حماس، ولا سيما أن التصريحات القطرية لم تتضمن أي انتقاد لحماس، وألقت باللائمة في سفك الدماء على إسرائيل وممارسات الاحتلال. هذه العلاقة طويلة الأمد، ولا سيما سياسة قطر المتمثلة في إيواء معظم أعضاء المكتب السياسي للحركة – والتي استمرت بعد هجمات السابع من أكتوبر – عرضت قطر لانتقادات خطيرة في الغرب، وحتى في أجزاء من العالم العربي والخليج.
ومع ذلك، فقد ردت الدوحة على هذه الانتقادات بطريقة ذكية ودهاء. فقد سارعت أولاً لتذكير الحكومات الغربية والعربية بأن دعمها لحركة حماس وتمويلها للرواتب العامة في غزة قد تم بموافقة وتشجيع حتى من أشد معارضي الحركة، بمن فيهم مصر والسلطة الفلسطينية وإسرائيل والولايات المتحدة. وفي نهاية المطاف، كان لا بد لجهة ما أن تتولى مهمة توفير الطعام لسكان القطاع. وإذا كانت قطر مستعدة للقيام بذلك، فهذا أفضل.
علاوة على ذلك، وفي عدة مراحل، صُممت بعناية لتتزامن مع لحظات حساسة في مفاوضات الرهائن، عرض القطريون على قيادة حركة حماس المغادرة. وقد تم حثهم على عدم القيام بذلك من قبل إدارة الرئيس جوزيف بايدن، لأن ذلك كان من شأنه أن يغلق إحدى طرق التواصل المباشر مع الحركة، أما الخيار الآخر، فهو حوار مستمر، لكنه بعيد عن الودية، مع مصر على الحدود المتوترة بين غزة وسيناء. وذكرت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” في مارس/آذار 2024 أن قطر عرضت في أكتوبر/تشرين الأول 2023 إبعاد قادة حماس، ولكن وزير الخارجية أنتوني بلينكن أخبر أمير قطر آنذاك “أنه يعتقد أن من الأفضل لقطر استخدام اتصالاتها مع الحركة – من خلال المكتب الذي سمحت للجماعة الإرهابية بإقامته في الدوحة في عام 2012 بإيعاز من واشنطن – للتوسط بين أطراف الحرب في غزة لتأمين صفقة رهائن”.
وهكذا راوح القطريون مكانهم لأكثر من عام، محافظين على سياساتهم على الرغم من الجدل الناجم عن هجمات السابع من أكتوبر. في نهاية المطاف، تشير التقارير إلى أنه بحلول الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 2024، حثت إدارة بايدن الدوحة على إبعاد قادة حركة حماس، وبالفعل فقد رحل معظمهم إلى تركيا والجزائر، وغيرها من الأماكن الأكثر قبولاً لهم.
كانت هذه بمثابة لحظة بارزة في سياسة قطر الخارجية، حيث تم تسجيل المرة الأولى التي تغير فيها البلاد سياساتها تجاه الجماعات الإسلامية بسبب الضغوط الخارجية على الرغم من الجهود التي بذلتها الدول العربية المجاورة في هذا الاتجاه على مدى عقود. ولا سيما دول ما تسمى “الرباعية المناهضة للإرهاب” – مصر والبحرين والإمارات والسعودية – التي قاطعت قطر من 2017 إلى 2021. ومع ذلك، كان تراجع قطر عن دعم حركة حماس أمراً حتمياً بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. لم يكن الاستمرار في استضافة قيادة المجموعة بعد المجزرة التي ارتكبتها في جنوب إسرائيل لينجح أبداً كسياسة مستمرة لبلد يرتكز أمنها القومي على الشراكة مع واشنطن.
لكن عبر قيامها بدور أساسي في محادثات وقف إطلاق النار الجارية، واستضافتها وتوسطها في المفاوضات حول المسودة التي أعدتها مصر بناءً على خطة بايدن ذات المراحل الثلاث الصادرة في مايو/أيار 2024، أثبتت قطر مجدداً مدى جدوى دورها الدبلوماسي للمنطقة والولايات المتحدة. علاوة على ذلك، فإن قطر ليست مجرد وسيط فحسب. فنظراً لانتصار المتمردين المدعومين من تركيا، وسقوط ديكتاتورية عائلة الأسد التي دامت 50 عاماً في سوريا، أصبحت قطر الآن لاعباً حاسماً، وإن كان ثانوياً، في محور الشرق الأوسط الإسلامي السني الناشئ، الذي أصبح في وضعٍ يسمح له بالتفوق على “محور المقاومة” الشيعي إلى حد كبير، والذي أضعفته الهجمات الإسرائيلية على مدار عام، ودمره سقوط الرئيس السوري بشار الأسد.
وعلى نحو أكثر هدوءاً، تعد تركيا وقطر بمثابة الداعمين الأساسيين للنظام الجديد الناشئ في سوريا. فإذا تمكنت الدولتان من ترسيخ حكم حلفائهم في دمشق، ومساعدتهم على إرساء نظام جديد يشمل الجميع بالقدر الكافي، ويتسم بالتسامح بما يكفي للحيلولة دون المزيد من التشرذم الوطني، والبدء في إعادة الإدماج وإعادة الإعمار، فقد تبرز الدولتان كلاعبين رئيسيين في السلطة في جميع أنحاء منطقة الشام.
وعلاوة على ذلك، فإنه من المرجح للنصر الذي حققته جماعات المتمردين من هيئة تحرير الشام/الجيش الوطني السوري أن يحول ميزان القوى داخل حركة حماس، ويغيره بشكل حاسم لصالح القيادة السياسية التي يتواجد معظم أفرادها الآن في تركيا، بعيداً عن المسلحين المسيطرين على كتائب القسام في غزة والمتحالفين مع إيران. لقد أصبح معظم هؤلاء القادة في عداد الموتى الآن، وأما القادة الجدد منهم فهم حديثو السن نسبياً ولم يتم اختبارهم بعد. لم تعد الورقة الإقليمية الرئيسية التي يمكن لحركة حماس أن تستخدمها تتمثل في العلاقات القوية التي احتفظت بها كتائب القسام والقيادة العسكرية في غزة مع إيران وفيلق القدس التابع لحرس الثورة الإسلامية، وإنما تتمثل بدلاً عن ذلك في العلاقات السياسية التي يحتفظ بها المكتب السياسي مع تركيا وقطر.
ليس لدى أنقرة ولا الدوحة أي مصلحة في “استدامة الحرب” مع إسرائيل، والتي كانت النية المعلنة لهجمات السابع من أكتوبر، على الرغم من أن إيران وحزب الله لديهما مصلحة في ذلك (طالما استطاعا تجنب الانجرار إلى المعركة، وهو ما فشلا في تحقيقه نتيجة لحساباتهما الخاطئة). من ناحية أخرى، سوف تهتم تركيا وقطر كثيراً بمساعدة حركة حماس في محاولة إعادة بناء سيطرتها على قطاع غزة، والعودة إلى نسخة معدلة من الوضع الذي كان قائماً قبل السابع من أكتوبر.
يبدو أن بنود اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليها، إذا ما تم تنفيذها، تسمح بذلك. سوف تتنازل إسرائيل فعلياً عن السيطرة لحركة حماس. وسوف تنسحب من معظم قطاع غزة، مع الحفاظ على منطقة عازلة قوية في الشمال، وربما تواجد مخفف جداً في محور فيلادلفيا على الحدود المصرية، ولن تقوم إسرائيل بإعداد إدارة مدنية فلسطينية بديلة في غزة.
وإذا ما حدث هذا الانسحاب، فلن تكون السمة الغالبة في قطاع غزة هي التمرد المفتوح ضد إسرائيل (فالتمرد يفتقر الآن للدعم الإقليمي اللازم للبنية التحتية، والذي كانت حركة حماس تعتمد عليه سابقاً من “محور المقاومة” وإيران اللذين ليسا في وضع يسمح لهما بتقديم مثل هذا الدعم). وبدلاً من ذلك، سوف يتعين على الحركة أن تحول أهدافها نحو أجندة الحوكمة وإعادة الإعمار تحت إشراف المكتب السياسي، الذي يتخذ الآن من تركيا مقراً له وتموله قطر وتركيا وآخرون.
إذا حدث كل ذلك، فتكون قطر قد حولت نقطة ضعف دبلوماسية وسياسية كبيرة محتملة – علاقتها القوية مع المكتب السياسي لحركة حماس- إلى فرصة كبيرة لتعزيز نفوذها ليس فقط في غزة، بل في سوريا كذلك، وبالتالي ربما في لبنان والعراق، ومن خلال علاقتها القوية مع تركيا بشكل خاص. وفي كلتا الحالتين، ومن خلال عدم استضافة قطر لقيادة حركة حماس، والعمل بدلاً من ذلك كقاعدة لانطلاق المفاوضات التي يبدو أنها ستؤدي إلى إنهاء الحرب في قطاع غزة، أثبتت قطر مرة أخرى قدرتها الملحوظة وبراعتها في تحويل التهديدات الدبلوماسية والسياسية إلى فرص.