راهن الانفصاليون في كتالونيا وكردستان العراق وخسروا الرهان. وها هم الانفصاليون في جنوب اليمن يعلنون عن خططهم لإجراء استفتاء حول الاستقلال، آملين بأن يساعدهم في ذلك المناخ السياسي الإقليمي السائد، وبأن يحققوا النجاح في شقّ طريقهم نحو الاستقلال، حيث كافح آخرون، بفضل غياب دولة يمنية مركزية وأجهزة أمنية فعّالة.
في خلال تجمّع انفصالي في مدينة عدن الساحلية الواقعة جنوب اليمن في 14 تشرين الأول/أكتوبر، ألقى عيدروس الزُبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، وهو عبارة عن حكومة محتملة قيد الانتظار وعن محاولة أخيرة ضمن سلسلة محاولات قام بها انفصاليون يمنيون من أجل تطوير بنية سياسية متماسكة، خطابًا أعلن فيه عن تشكيل “جمعية وطنية” جديدة تضم 303 عضوًا. وكشف في الوقت نفسه النقاب عن خطط لإجراء استفتاء حول الاندماج الذي دام ربع قرن مع شمال اليمن.
ونظرًا للأحداث في اسبانيا والعراق، قام أعضاء المجلس الانتقالي الجنوبي منذ ذلك الحين، في خطوة قد تعرب عن حكمة في القرار، بالحدّ من الخطاب الذي يتطرق إلى إعلان الاستفتاء والتركيز على تشكيل جمعية وطنية. ويقول أعضاء المجلس الانتقالي الجنوبي إنه بمجرد تشكيل الجمعية، ستشرف على الحكم المحلي، وتستعرض قرارات المجلس، وتعمل جنبًا إلى جنب مع قوات الأمن المدعومة من الإمارات العربية المتحدة على الأرض، كقوة إقليمية مستقلّة. بشكل عام، صرّح مراقب يمني أن الإعلانين يمثلان خطوة أخرى نحو جعل جنوب اليمن “أربيل أخرى”، أي إقامة دولة مستقلة داخل الدولة مع التطلّع إلى الاعتراف الدولي بها.
تحوّل جنوبي؟
تم تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي في أيار/مايو، ويكمن الهدف المعلن منه بتمثيل المصالح الجنوبية على الأرض وفي النقاشات الوطنية والدولية حول مستقبل اليمن، وذلك في إطار سلسلة من الفعاليات المماثلة. ولكن، يعتقد ما يُعرف بـ”الحراكيين”، أي أتباع “الحراك الجنوبي” أنَّ هذه فرصتهم الفضلى لتحقيق الاستقلال.
هذا وقد اشتكى سكان جنوب اليمن منذ فترة طويلة من أن الاندماج بين الجمهورية العربية اليمنية الشمالية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في العام 1990 تركهم مهمشين. (يمكن أن يشكّل مصطلح “الجنوب” إرباكًا، إذ يستخدمه الانفصاليون لوصف المحافظات الجنوبية والشرقية – لحج والضالع وعدن وأبين وشبوة وحضرموت والمهرة – التي شكلت الدولة الاشتراكية قبل الوحدة). فبعد حرب أهلية بين الشمال والجنوب في العام 1994، انتصر فيها الرئيس علي عبد الله صالح بدعم من الحلفاء القبليين والإسلاميين، تم إحالة القادة العسكريين الجنوبيين إلى التقاعد قسرًا، وتمّ توزيع الأراضي على النخب في صنعاء، كما ذهبت الإيرادات من حقول النفط الجنوبية الرئيسية مباشرة إلى صنعاء، ولم يعاد تدويرها في الاقتصاد المحلي. ومنذ العام 2007، عندما تشكّل “الحراك” كحركة تلتقي تحت مظلتها الجماعات الجنوبية الساخطة، تطوّرت هذه الشكاوى لتأجج مشاعر انفصالية وجرت مسيرات احتجاجية مؤيدة للاستقلال بشكل واسع في جميع أنحاء الجنوب منذ العام 2009.
وشكلّت انتفاضات الربيع العربي في العام 2011 مصدر إلهام للناشطين المناهضين للحكومة في الشمال، لكن تمّ النظر إلى الاقتتال الداخلي للنظام الذي أدى في النهاية إلى الإطاحة بالرئيس صالح على أنه صراع على السلطة بين النخبة الشمالية من قِبل العديد من الجنوبيين. يُذكر أن معظم الانفصاليين رفضوا المشاركة في العملية السياسية التي قادتها الأمم المتحدة عقب الإطاحة بصالح، طالبين بدلًا من ذلك السماح لهم بإجراء حواراتهم الخاصة في الجنوب.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن حوارًا مماثلًا كان من الممكن أن يساعد في هذا السياق، إذ إن الحراك عبارة عن حركة غير متبلورة تتكون من عشرات المجموعات المختلفة التي تتشارك هدفًا واحدًا وهو الاستقلال، وليس أكثر. وقد عانت الحركة من الاقتتال الداخلي، ولم يكن المجلس الانتقالي الجنوبي المحاولة الأولى في هيئة برلمانية جنوبية. ففي العامين 2012 و2013، اقترح قادة الجنوب تشكيل جمعية وطنية مماثلة لتلك التي أعلنها الزُبيدي. لكن لم يتم تحقيق الأمر، ويعود السبب في ذلك بشكل كبير إلى الاقتتال الداخلي بين مختلف الفصائل الجنوبية حول تعيينات رئيسية، ما دفع العديد من الجنوبيين الأصغر سنًا إلى رفض قيادتهم من المتقدمين بالسن، إذ إن العديد منهم من بقايا الحقبة الاشتراكية والإمبراطورية البريطانية.
وبحلول العام 2014، ازدادت اللهجة القتالية في الخطابات الانفصالية، على الرغم من الوعود بوجود هيكل فيدرالي للحكومة. وأعلن الشباب في الحراك، الذين تعبوا من الكلام وعدم التنفيذ وعدم الاهتمام الدولي بالقضية الانفصالية، عن تشكيل “مقاومة جنوبية” جديدة، وباتوا يهدّدون بالاستيلاء على الشوارع بالقوة، إذ كانوا يبحثون عن قادة يركزون على التنفيذ بدلًا من إلقاء الخطابات.
ومن الصعب معرفة ما هي الأحداث التي كان من الممكن أن تقع إن لم تقرر جماعة الحوثيين التقدم نحو عدن في آذار/مارس عام 2015 سعيًا وراء الرئيس الفارّ عبد ربه منصور هادي. ولكن سلسلة من الأحداث أدت إلى تقدّم كبير في القضية الانفصالية: انهيار الجيش الوطني، ووحشية المعركة اللاحقة للسيطرة على عدن، والتدخل من قبل تحالف تقوده المملكة العربية السعودية شمل (بشكل هامّ بالنسبة للجنوب) الإمارات العربية المتحدة، والفراغ في القيادة بعد طرد الحوثيين من عدن والمحافظات الجنوبية الأخرى.
نهوض الجنوب
في الواقع، إن الدعم من الإمارات العربية المتحدة التي أرسلت قوات خاصة إلى عدن للعمل جنبًا إلى جنب مع المقاتلين المحليين، هو الذي ساعد على قلب الموازين ضدّ تحالف الحوثيين-صالح في الجنوب. وبحلول تموز/يوليو 2015، تم طرد التحالف من معظم المحافظات الجنوبية. ومنذ ذلك الحين، لعبت الإمارات العربية المتحدة دورًا هامًا في تنظيم العديد من الميليشيات والوحدات العسكرية الأكثر رسمية والتي تمّ إرسالها لحفظ أمن الأراضي من غزو تحالف الحوثيين-صالح، ومن تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، كما لعبت دورًا في تدريبها وتوجيهها. في الآونة الأخيرة، بدت مؤشرات قوية على أن الإمارات العربية المتحدة تسعى إلى الحفاظ على وجودها العسكري في الجنوب حتى في المستقبل، ظاهريا لغرض تأدية دور في مكافحة الإرهاب.
وقد كان تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية يسيطر على مدينة المكلا الجنوبية لمدة عام قبل أن تتم الإطاحة به من قبل “قوات النخبة الحضرمية” المدعومة من الإمارات العربية المتحدة في نيسان/أبريل عام 2016. ومع تردّد حكومة هادي بشأن الانتقال من الرياض إلى عدن، تم تفويض الحكم المحلي بشكل متزايد للجنوبيين المدعومين من دولة الإمارات العربية المتحدة والمرتبطين بالميليشيات المحلية. على سبيل المثال، تم تعيين الزبيدي حاكمًا لعدن في أواخر العام 2015 وذلك لقدرته بشكل رئيسي على جلب الميليشيات من محافظته في الضالع لحفظ أمن مدينة عدن، التي كان يسيطر عليها جزئيًا في ذلك الوقت تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية.
ويُعدّ الزُبيدي من عدّة نواحٍ رمزًا للتغيير الذي حصل في الجنوب منذ بدء الحرب. وقد وُلد في الفترة التي تمّ فيها إعلان استقلال جنوب اليمن عن الإمبراطورية البريطانية، وتدرّب في القوات الجوية في عهد جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الثمانينيات. وبمقاتلته في الحرب الأهلية في العام 1994، لم يكن معروفًا بشكل خاص خارج المجموعات الانفصالية عندما بدأت الحرب الحالية. وبدأت تزداد شعبيته منذ العام 2015، ومعروف عنه قدرته على ترجمة أقواله إلى أفعال، كما اشتهر بأنه رجل الإمارات العربية المتحدة في الجنوب.
ودخل الزُبيدي أيضًا في منافسة مفتوحة مع هادي الذي اطاحه من منصب حاكم عدن في نيسان/أبريل ردًا على انتقاداته الصريحة المتزايدة للرئيس وبسبب التوترات الكبيرة السائدة بين هادي والإمارات العربية المتحدة. وانتقد القادة الإماراتيون بشدة فشل هادي في السيطرة على الجنوب بعد طرد تحالف الحوثيين-صالح، وعلاقاته مع أعضاء من حزب الإصلاح، وهو حزب سياسي إسلامي سني مرتبط بالإخوان المسلمين. وتمّ النظر بشكل كبير إلى الإعلان عن تشكيل المجلس الانتقالي، الذي يعتبر نفسه بديلًا لحكومة هادي، على أنه عبارة عن هجوم حادّ تدعمه الإمارات العربية المتحدة ضد الرئيس هادي. وبعد اعتماد لهجة تميل إلى الصلح تجاه الرئيس لفترة وجيزة، يعلن الزبيدي وأعضاء آخرون في المجلس الانتقالي اليوم أنهم لن يعملوا مع حكومة هادي، ووصفوها بأنها فاسدة تتعاون مع حزب الإصلاح. ووعد الزبيدي “بالتصعيد” ضد المسؤولين في حكومة هادي في الأسابيع المقبلة.
تحويل جنوب اليمن إلى أربيل أخرى
يرى العديد من الجنوبيين أن إعلان الجمعية والاستفتاء يأتي بموافقة ضمنية من الإماراتيين، وكدليل على أن الإمارات ستدعم انفصال الجنوب في الوقت الملائم. في حين يشير آخرون إلى أن الزبيدي، الذي لا يحظى بأي حال من الأحوال بشعبية كبيرة في الجنوب، يحتاج إلى إعطاء انطباع بالزخم إلى المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي لم يحقق بعد أي إنجازات ملموسة. ومن المحتمل أن تهدف خطة الاستفتاء إلى الحصول على دعم محلي أكبر للمجلس.
من جهته، يسعى المجلس الانتقالي الجنوبي بشكل واضح للحصول على الموافقة الإقليمية. ومن خلال تبنيه المتزايد لخطاب رافض لحزب الإصلاح، والتركيز على جهود الميليشيات الجنوبية لمواجهة تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، يضع نفسه في موضع شريك للإمارات العربية المتحدة التي تبغض الإخوان المسلمين. ويتطلع المجلس أيضًا إلى توجيه نداء إلى صانعي السياسات في واشنطن الذين يرون أن تنظيم القاعدة والجناح المحلي لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام من القضايا ذات الأولوية في اليمن. كما هاجم الزبيدي علنًا إيران، التي يُزعم أنها دعمته في الماضي، وقطر، وهما منافسان إقليميان رئيسيان لدولة الإمارات العربية المتحدة.
قبل المضي قدمًا، سيكون من الأفضل للزبيدي وزملائه الانفصاليين الاطلاع على ما حصل مع نظرائهم الأكراد من أجل اتخاذ العبرة من تجاربهم. فحكومة إقليم كردستان شبه المستقلة شريك أمريكي لمكافحة الإرهاب، وقد أدّت دورًا هامًا في مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. وفي الحالتين، دعمت حكومة إقليم كردستان الأهداف الإقليمية للولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في حين كانت مصدرًا للمشاكل بالنسبة إلى تركيا وإيران، اللتين تربطهما علاقات متوترة مع دول الخليج. مع ذلك، رفضت كل من واشنطن والرياض، وأبوظبي، الاستفتاء الكردي الأخير حول الاستقلال، كما راقبت استيلاء القوات العراقية على كركوك من الميليشيات الكردية في منتصف تشرين الأول/أكتوبر من دون أي تدخل منها (انسحبت القوات العراقية منذ ذلك الحين من بعض المدن الكردية). لذلك يشكك بعض الجنوبيين بأهداف الإمارات العربية المتحدة، إذ يرون أنها تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة في جنوب اليمن وذلك من خلال استخدام الانفصال كأداة إقناع من دون نية فعلية لدعم استقلال الجنوب.
تزداد القضية الجنوبية تعقيدًا إذ تتعلّق مشاركة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في اليمن، من الناحية الفنية على الأقل، بدعمهما لهادي، الحاصل على الشرعية من الأمم المتحدة، وهي شرعية تعتمد عليها الحرب بشكل كبير. فإذا كان المجلس الانتقالي الجنوبي سيطرد حكومة هادي من عدن من قبل انتهاء الحرب الأوسع مع تحالف الحوثيين-صالح، يبقى من غير الواضح كيف سترد الرياض بشكل خاص على هذا الأمر. لذا، في الوقت الراهن، أفضل ما يمكن أن يفعله الزُبيدي وشركاؤه هو العمل من أجل إنجاح الجمعية الوطنية. بالتالي، سيتوجب عليهم على الأرجح تأجيل الاستفتاء.