منذ ظهوره على أنه القوة السياسية الرئيسية المساندة لوالده، كان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان شابًا على عجلةٍ من أمره. فبعد أشهر قليلة من توليه السلطة كوزير للدفاع، بدأت المملكة العربية السعودية تدخلها العسكري في اليمن، مستخدمةً ذلك في رؤية حقبة جديدة تتميز بالقيادة الحاسمة والكبرياء الوطني. بعد مرور عام، وفي أول مقابلةٍ له على تلفزيون العربية، أنّبَ الجمهور السعودي على حصر اعتماده على النفط وتعهد بتحويل الاقتصاد إلى اقتصادٍ قائمٍ على الاستثمار.
والآن، أصبحت السياسة الخارجية الحازمة للمملكة العربية السعودية والانتقال الاقتصادي الطموح مهددَين بضربة مباشرة على رأس النبع الذي ما زال يؤمنهما: ألا وهو صناعة النفط في المملكة العربية السعودية. سوف تُشكل الضربات المذهلة على مركز بقيق لمعالجة النفط –الذي قد يكون أهم منشأة نفطية في الاقتصاد العالمي- وحقل خريص النفطي اختبارًا شديدًا للمملكة وبرنامج التحول إضافة إلى حالة الاعتماد على الذات التي ينادي بها ولي العهد.
طموحات اقتصادية ووطنية جديدة
تُصور خطة التحول الاقتصادي، رؤية السعودية 2030، طموحات السعودية إلى ما هو أبعد من بقعة النفط. في الواقع، يبدو في معظم الأحيان أن خيال ولي العهد الجغرافي مستمدٌ إلى حد ما من حقول النفط الشرقية. تشمل المشاريع الجديدة الضخمة للمملكة والوجهات السياحية الدولية على طول ساحل البحر الأحمر، بالإضافة إلى المواقع الأثرية ومدينة نيوم المستقبلية في أقصى الشمال الغربي.
وبالمثل، فقد كان لسفر محمد بن سلمان إلى الخارج دورٌ في جعله رائدًا لمنطقةٍ جديدة. ففي زيارة 2018 الرسمية للولايات المتحدة، لم تقتصر محطات توقفه على مراكز الطاقة والنفط في واشنطن العاصمة وهيوستن كالعادة، بل وسعها لتشمل عقد اجتماعات مع كبار المسؤولين التنفيذيين في أروقة التكنولوجيا في ماساتشوستس، وسياتل، وسيلكون فالي (وادي السيليكون)، والتقرب من أقطاب الترفيه في جنوب كاليفورنيا.
تحقيق هذا التحول في التركيز الجغرافي وتعدد القطاعات يتطلب التخلي عن صفة المحافظة التقليدية في المملكة العربية السعودية، ليس فقط في السياسات الاجتماعية، حيث تخطى ولي العهد محظوراتٍ قديمة العهد، وإنما أيضًا في سياسة النفط. فبدلًا من التعامل مع احتياطيات المملكة العربية السعودية من النفط كمورد بحاجة إلى إدارة، يرى محمد بن سلمان بأنه يجب التعامل مع النفط كاستثمار، “لا أكثر، ولا أقل”. وتحقيقًا لهذه الغاية، وقبل أسبوع فقط من الضربات الأخيرة، قام ولي العهد بتنحية رئيس مجلس إدارة أرامكو السعودية، خالد الفالح الجدير بالاحترام، واستبدله بمحافظ صندوق الاستثمارات العامة في المملكة العربية السعودية، ياسر الرميان، حيث قام رمزيًا بنقل التسلسل الهرمي التقليدي من النفط إلى الاستثمار.
كما قام محمد بن سلمان بتحول مُزلزل في سياسة المملكة العربية السعودية الخارجية. تقليديًّا، كانت السعودية راضية بالنزول عند إرادة القيادة الأمريكية في حين تتمتع بحماية الولايات المتحدة للتدفق الحر لنفطها والشراكة القوية مع الجيش الأمريكي. لقد تخلت المملكة عن هذا الصمت لصالح الإصرار الوطني الجديد وإرادة التدخل عسكريا – في اليمن وقبل ذلك في البحرين. كان هذا الموقف السعودي المتقدم في الاقتصاد والجيش في محور القومية الجديدة التي تتم رعايتها في البلاد، وهي بحد ذاتها تحول ملحوظ عن الهوية الإسلامية الشاملة التي تم العمل بها سابقًا.
نداء إلى المستثمرين الأجانب، والزوار، والحماة
جلبت الضربات الإكلينيكية على بقيق وخريص نوعًا من الوضوح المنبه فيما يتعلق بحدود السعي وراء الاعتماد على الذات. إنه يختبر كلاً من احتمال أن تتمكن المملكة العربية السعودية من أن تتولى قيادة دفاعها عن نفسها، بالإضافة إلى تأمين الموارد ذاتها التي ستمول التحول المستقبلي الذي وعد به محمد بن سلمان. وقد أثارت الضربات أيضًا أسئلة حول طبيعة ودرجة التزام الولايات المتحدة تجاه المملكة.
حتى الآن، تمثل رد فعل السعوديين في إظهار الثقة أمام جمهورهم والمجتمع الدولي. داخليًا، أظهرت القيادة صورة العمل كالمعتاد. في اليوم التالي للهجمات، تم تصوير محمد بن سلمان وهو يحضر سباق الجمال الذي أقيم برعايته. البيان الأول الصادر عن الملك لوسائل الإعلام في أعقاب الضربات جاء بلهجة – “قادرون على التصدي لهذا الهجوم الإرهابي والتعامل مع آثاره”. وقد تم دعم ذلك من خلال الحملات العامة التي تمثلت في تنقل العمل والكفاءة: مدح رجال الإطفاء الذين تعاملوا مع الهجمات وبعد ذلك عمال أرامكو الذين عملوا بكفاءة للوفاء بعقود التصدير الخاصة بالشركة.
وكذلك كانت الرسالة الموجهة إلى المجتمع الدولي رسالة مطمئنة. خلال الأسبوع الأول، وضعت الحكومة ممثلين عن وزارات الطاقة، والمالية، والدفاع أمام وسائل الإعلام، ليقوموا جميعًا بإيصال الرسالة نفسها ومفادها أن كل شيء تحت السيطرة. قام وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان بالتأكيد للأسواق الدولية أن إنتاج النفط السعودي سيعود إلى خطوط الانابيب بحلول أواخر أيلول، وأضاف بأن الاكتتاب العام الأولي لشركة أرامكو سيمضي قدمًا. وفي مقابلة مع بلومبرغ، أصر وزير المالية السعودي محمد الجدعان على أن توقف الاقتصاد السعودي والإيرادات بلغ نسبة “صفر”. في مؤتمر صحفي أكد متحدث باسم وزارة الدفاع السعودية قدرة المملكة على الدفاع عن بنيتها التحتية.
حقيقةً، يبدو أن القيادة السعودية مصممة على تحويل الأزمة إلى فرصة. فبدلًا من الاستسلام للحديث عن أن الأضرار التي لحقت بمنشآت بقيق وخريص ستؤخر الاكتتاب العام في أرامكو، قدم المسؤولون الرد على الهجمات كدليل على مرونة الشركة وقدرتها المهنية. وبالمثل، فإن المخاوف من تصاعد التوتر مع إيران والتهديد بالحرب لم تفعل شيئًا لتحبط إدخال تأشيرة دخول سياحية جديدة وتسهيل متطلبات الدخول إلى جانب ذروة التسويق المرتفعة لإغراء الزوار الأجانب لزيارة المملكة.
كانت الرسائل السعودية في الداخل والخارج تفتقر بوضوح للخطاب القومي الساخن الذي غالبًا ما كان يستخدم في تعبئة الرأي العام السعودي ولا سيما في المواجهة مع قطر. بدلًا من ذلك، كانت البيانات العامة والرسمية موجهة لإقناع المجتمع الدولي بأن الهجوم على المملكة العربية السعودية هو أيضًا هجوم على مصالحها، وأنه لا بد للمجتمع الدولي أن يساعد المملكة. وكما ذكر وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير، “تدعو المملكة المجتمع الدولي إلى تحمل مسؤوليته في إدانة من يقف وراء هذا العمل، واتخاذ موقف حازم وصريح ضد هذا السلوك المتهور الذي يهدد الاقتصاد العالمي”.
يمكن ملاحظة هذا التحول في النغمة في الافتتاحيات والمقالات الصادرة عن وسائل الإعلام السعودية. ففي حين لا يزال يحتوي على شجبٍ لإيران وأفعالها، إلى جانب بعض الدعوات إلى الرد، إلا أن الموقف، يبقى في المقام الأول، أكثر حذرًا، مع العديد من الدعوات لاحترام حكمة القيادة وتنسيقها مع القوى العالمية. ومع ذلك، من الملاحظ أن هناك بعض الإحباط من موقف الولايات المتحدة، لا سيما تناقضات الرئيس دونالد ترامب. من خلال تصعيد المواجهة مع إيران مع التشكيك في درجة التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن المملكة العربية السعودية، أدى ترامب إلى تضخيم نقطة ضعف المملكة العربية السعودية وعزلتها المحتملة. وقد وجد هذا الفَهم طريقه إلى وسائل الإعلام السعودية، وخاصة في المقال اليائس الذي أعده حمود أبو طالب في عكاظ “لا حليف لنا إلا نحن”، حيث قال: “حلفاء الأمس لم يعودوا اليوم كما كانوا… فكروا جيدًا أيها العقلاء لأننا أمام خطر وجودي غير مسبوق”.
الاستمرار في الاعتماد على الحلفاء الدوليين … والنفط
على الرغم من الاطمئنان البارز لدى القادة السعوديين، إلا أن، الآثار الاستراتيجية للهجمات تثير قلق المملكة. ويؤكد عدم الوضوح في السياسة الأمريكية تجاه إيران، وهشاشة قطاع النفط التي كشفت عن الحاجة الملحة لتنويع الاقتصاد وتحقيق قدر أكبر من الاعتماد على النفس في مجال الدفاع. ومع ذلك فهذه هي معضلة السعودية. فهي لا تستطيع تحقيق أي من ذلك على المدى القصير دون الدعم والمشاركة الدولية، وبالتأكيد ليس دون توفر الأمن الداخلي، والأهم من ذلك في قطاع النفط الذي لا يزال يمثل الركيزة الأساسية للتحول في المملكة العربية السعودية ومستقبلها.