تتحضّر المملكة العربية السعودية اليوم لتحوّلٍ اقتصاديّ لم تشهده من قبل مع الإعلان مؤخرًا عن التخطيط لوضع صندوق سيادي بقيمة 2 تريليون دولار أمريكي تحت كفالة شركة أرامكو السعودية التابعة للدولة، كأحد الأركان الأساسية لهذه الاستراتيجية الجديدة. وأعلن الأمير السعودي محمد بن سلمان آل سعود في مقابلةٍ واسعة النطاق مع بلومبرغ في الأول من نيسان/أبريل أنّ الحكومة تخطط لطرح بعض الأسهم في شركة أرامكو السعودية لرفع قيمة صندوق الاستثمارات العامة بشكلٍ ملحوظ.
وقد يصبح هذا الصندوق الأكبر من نوعه في العالم بعد الطرح العام لأسهم أرامكو. وتنصّ الخطّة الحالية على أن الطرح العام الأولي سيكون “أقلّ من 5%” وسيندرج في بورصة التداول المحلية عام 2017 أو 2018 كحدٍّ أقصى. ويتوقّع الأمير محمد بن سلمان أن تتخطى قيمة الصندوق 2 تريليون دولار أمريكي وقال:”سوف يجعل الطرح العام الأولي لأسهم أرامكو من الاستثمارات المصدر الأساسي لعائدات الحكومة السعودية، وليس النفط”.
وباشرت المملكة العربية السعودية باستراتيجيةٍ جديدةٍ وقوية من الإصلاحات الاقتصادية والسياسيات التحويلية في العام المنصرم عقب انخفاض أسعار النفط العالمية بنسبة 60% منذ منتصف العام 2014. وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تمكين البلاد من تنويع استثماراتها في كيانياتٍ غير نفطية على الصعيدين المحلي والعالمي. وأضاف بن سلمان:”يبقى أمامنا اليوم تنويع استثماراتنا، لنكون في غضون 20 عامًا، اقتصادًا أو دولةً لا تعتمد على النفط بشكلٍ أساسي”.
وأطلق صندوق الاستثمارات العامة السعودي القائم الصندوق السيادي الخاص به بأصولٍ بقيمة 5.3 مليار دولار عام 2008، لكنسرعان ما حجّمته وسائل الاستثمار الأكثر متانةً في الدول الخليجية المجاورة. وأطلقت الكويت من جهتها أوّل صندوقٍ سيادي في العالم عام 1953، وتقدَّر أصول الهيئة العامة للاستثمار بحوالى 600 مليار دولار أمريكي. أما جهاز أبو ظبي للاستثمار، فأُطلق عام 1976 ويملك اليوم قاعدةأصولٍ تتراوح قيمتها بين 750 و800 مليار دولار أمريكي. وقد صُمّمت صناديق الثروات السيادية في دول الخليج لاستتثمار عائدات النفط في أدواتٍ مالية أو أسهم أو شركات أو عقاراتٍ عالمية غير نفطية، كوسيلةٍ لتنويع مصادر عائدات الدولة والحدّ من آثار عدم استقرار سوق النفط وخلق عائدات استثمارية طويلة الأمد وغير نفطية للأجيال الصاعدة في عصر ما بعد النفط.
وأشار الأمين العام للصندوق السيد ياسر الرميان في مقابلةٍ مع بلومبرغ إلى أنّ قاعدة الأصول الخاصة بصندوق الاستثمارات العامة السعودي لا تزال مستقرةً بنسبة 5%، إلّا أنّ الخطط الراهنة تهدف إلى زيادتها إلى 50% مع حلول العام 2020. وقد كان صندوق الاستثمارات العامة يزيد من عملياته بصمتٍ منذ العام 2015، وذلك بشكلٍ جزئي بسبب الانتقادات الذي وُجّهت إليه على أنّه كثير التحفّظ في استثماراته، وأنّ هذه الأخيرة محليّةٌ بمعظمها. وأفاد الرميان بأنّ الصندوق قد وظّف عددًا من المختصّين في الأسواق الدولية والأسهم الخاصة وإدارة المخاطر. وسوف يؤدّي طرح أسهم أرامكو والأموال الطائلة التي سوف يجلبها دورًا محوريًا في تحويل صندوق الاستثمارات العامة إلى صندوق استثمارٍ بمستوىً عالمي للأجيال القادمة.
ويدير الأمير محمد بن سلمان آل سعود هذه الخطط الطموحة بتحقيق صندوق ثرواتٍ سيادي وبطرح أسهم أرامكو السعودية، كونه رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية السعودي. وحلّ هذا المجلس مكان المجلس الاقتصادي الأعلى عام 2015، وقد اعتمد سياساتٍ هادفة إلى حصر الإنفاق من خلال تخفيض دعم الوقود والكهرباء ووضع حدٍّ للعجز إلى نسبة 15% من الناتج المحلي الإجمالي – وذلك ضمن خطةٍّ أوسع لمواجهة أزمة العجز الناجمة عن انخفاض أسعار النفط.
الأهمية تكمن في التفاصيل
وتحفّظ الأمير محمد بن سلمان عن إعطاء تفاصيل خطة طرح أسهم أرامكو، لذلك من الصعب جدًّا تقدير قيمة الطرح العام الأولي في هذه المرحلة المبكرة. وعبّر الأمير عن احتمال عرض أسهم أرامكو في مقابلةٍ مع ذي إيكونوميست في 4 كانون الثاني/يناير وانتشرت بعدها الإشاعات بأنّ احتياطي النفط السعودي المرغوب به سوف يشكّل جزءًا من الطرح. إلّا أنّ رئيس مجلس إدارة أرامكو خالد عبد العزيز الفالح أوضح في مقابلةٍ على قناة العربية في أواخر شهر حزيران/يونيو أنّ احتياطي الغاز والنفط لن يدخل في الطرح وقال:”سوف نطرح القيمة الاقتصادية التي تتمتع بها شركة أرامكو السعودية وليس احتياطي النفط الخاص بها”. وأضاف شارحًا: “إنّ احتياطي النفط ملكُ الدولة. لذلك، سوف نطرح قدرة الشركة على الإنتاج من هذا الاحتياطي”.
وأوضح الأمير بن سلمان في آخر مقابلةٍ له مع بلومبرغ أنّه”سيتمّ طرح أسهم الشركة الأمّ للعموم إلى جانب عددٍ من الشركات التابعة لها”. وقد أعادت هذه اللّغة غير الواضحة رفع التوقعات بأنّ احتياطي النفط السعودي سيشكّل جزءًا من الطرح العام الأولي. فبالنسبة للمستثمرين الدوليين، يشكّل إدراج احتياطي البلاد المرغوب به في الصفقة عنصرًا أساسيًا. وقد حرست المملكة على مدى التاريخ قاعدة احتياطي النفط الخاص بها كأنّه سرٌّ من أسرار الدولة، وهنا الصعوبة في تقدير قيمته- أي في نقص الشفافية التي تشكّل جزءًا لا يتجزّأ من شركةٍ تابعة للدولة.
وتضمّ أرامكو ما يقدَّر بـ260 مليار برميل للاحتياطي الخاص بحسب تقريرها السنوي، إلّا أنّه لم يتمّ تحديث هذا الرقم منذ أكثر من 25 عامًا. (مقارنةً مع احتياطي الولايات المتحدة الأمريكية المؤلّف من 39.9 مليار برميل منذ العام 2014). ومنذ أوائل الثمانينات، وبعد أن سيطرت الحكومة بالكامل على الشركة، تكتّمت المملكة العربية السعودية عن بيانات الميدان واحتياطي النفط، لتبقي الخبراء الخارجيين عاجزين عن تقدير احتياطي البلاد. وسوف يلزم الطرح العام الأولي الحكومة بتوفير المزيد من الشفافية على احتياطي النفط المبهم، ما يشكّ عددٌ كبيرٌ من المحللين السعودين المتمرّسين في حدوثه.
ويستخدم السوق الاحتياطيات المسجّلة كقياسٍ أساسي في تقدير قيمة شركات النفط العالمية على غرار “إيكسون موبيل” و”شيفرون”. ومن دون الحصول على بياناتٍ موثقة، سوف يواجه المجتمع المستثمِر صعوبةً كبيرة في تقدير قيمةٍ شاملة لأصول أرامكو. إلّا أنّ احتياطي النفط، في الواقع، ملكٌ للحكومة السعودية وليس لشركة أرامكو. ومن المرجّح أن يتضمّن أي طرحً عام أوّلي لأسهم أرامكو السعودية آليةً معيّنة لتسجيل احتياطي النفط والغاز من أجل إعداد التقارير المالية، لكنّ النفط الموجود في الأرض يبقى ملك الدولة السعودية.
إلّا أنّه ليس من المستحيل أن يعمد النظام الجديد، كجزءٍ من عملية تطوير الطرح العام الأولي، إلى رفع الستار عن احتياطي النفط السعودي وإنهاء عقودٍ من التخمين. ففي الواقع، سوف يشكّل أي مستوىً جديد من الشفافية شرطًا ماليًا لأي شكلٍ يتّخذه الطرح النهائي للأسهم، أقلّه لأنّ القوانين السعودية تفرض رقابةٍ مالية على الأسهم المدرجة في البورصة. وسيكون التحضير لطرحٍ عامٍّ أولي مهمّةً تبعث بالرهبة، خصوصًا في حالة شركةٍ كأرامكو التي لم تعدّ حتّى اليوم أي تقريرٍ عن عائداتها.
وقد يجعل بيع المملكة العربية السعودية لهذه الأسهم من أرامكو شركةً مدرجة في البورصة وتقدَّر قيمتها بتريليونات الدولارات، وتشير بعض التقديرات إلى أنّ قيمتها قد تصل إلى 10 تريليون دولار أمريكي. وتصبح أرامكو بذلك نظيرة إيكسون موبيل الأمريكية،وهي الشركة الأكبر للنفط المتداولة علنًا،بقيمةٍفي السوق تقدَّر بمعدّل 332 مليار دولار أمريكي في الربع الأول من العام 2016.
وفي حين كان البحث في احتمال طرح الأسهم جاريًا طوال العام المنصرم، من الضروري إجراء عدة دراسات جدية. وقد أصدرت الحكومة السعودية في أواخر شهر شباط/فبراير عروضًا لمستشارين يهتمون بدراسة سيناريوهاتٍ متعددة للطرح العام الأولي. ومن الخيارات المتاحة، على سبيل المثال لا الحصر، بيع أسهم الشركة الأمّ التي تضمّ إنتاج الأصول وإنشاء الشركات القابضة لمجموعاتٍ مختلفة من الأصول كمعامل التكرير، أو بيع أسهم في المشاريع المشتركة الراهنة. وفي حين تتصدر التقديرات بتريليونات الدولارات عناوين الصحف، من المتوقّع أن تقع مجموعةٌ من الأصول في الفئة الأصغر التي تتراوح قيمتها بين 100 و500 مليار دولار، ما يشكّل أيضًا طرحًا ذا مستوى عالمي. وقد قُدّرت قيمة طرح الأسهم القياسي لمجموعة علي بابا عام 2014 بـ170 مليار دولار أمريكي.
وسوف يتطلّب هذا الحجم الأول من نوعه للطرح العام الأولي مجهودًا هائلًا قد يدوم من 18 إلى 24 شهرًا على الأقل، وذلك نظرًا لضرورة ضمان مستوىً غير مسبوق للشفافية المالية وفي بيانات التشغيل. وفي الوقت عينه، سوف تتطلب الطبيعة الحساسة لوضع أسهم شركة العائلة برسم البيع، التسييس الذكي من خلف الكواليس من أجل كسب رضى العائلة المالكة بكاملها. وقد سببت تصريحات الأمير محمد بن سلمان آل سعود العلنية الأخيرة التي شدد فيها على ضرورة الشفافية والخروج من الفساد امتعاض بضع أفراد العائلة من دون شك، وأجّج المخاوف من سخاء مستقبل النظام الملكي. وتفيد المعلومات بأنّ أموال العائلة المالكة ترسَل اليوم من أرامكو إلى الديوان الملكي. وقد تتضمن الخيارات المتوافرة في أحد سيناريوهات الطرح العام الأولي تخصيص عددٍ من الأسهم للديوان الملكي أو حتى شراء جزءٍ من أسهم أرامكو المطروحة.
وقد تؤمّن إعادة هيكلة أرامكو، التي من المتوقّع أن يتمّ الإعلان عنها مع حلول منتصف العام، المزيد من الوضوح حيال العرض العام الأولي. وأفاد الأمير بن سلمان في مقابلته مع بلومبرغ أنّه: “سوف نعلن عن استراتيجية أرامكو الجديدة ونحوّلها من شركة نفطٍ وغاز إلى شركة طاقة/صناعية”. وفي العام 2015، باتت أرامكو تحت مظلة مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية السعودي، وفُصلت بذلك عن وزارة البترول والثروة المعدنية. وكجزءٍ من إعادة الهيكلة هذه، وُضعت الشركة تحت إشراف المجلس الأعلى لشركة أرامكو السعودية برئاسة الأمير محمد بن سلمان آل سعود. وتصنَّف عمليات أرامكو السعودية بالفئة الأفضل وتديرها نخبةٌ من التكنوقراطيين، ما سيدعم أي تغييرٍ استراتيجي.
مع ذلك فإن الوقت الطويل المطلوب لتطوير وتنفيذ ما قد يكون أضخم طرحٍ عام سيؤمّن للمسؤلين الإداريين الوقت الكافي للغوص في الآليات المالية المعقدة والمسائل العائلية الحساسة، ليعود بالفائدة على بلدٍ لطالما اتخذ مقاربةً محافظة ومتأنّية. وفي أي حال، مع هبوط أسعار النفط إلى أرقامٍ هي الأصغر منذ 12 عامًا، ما من داعٍ لتسريع العملية.