ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
حصدت المملكة العربية السعودية 17.5 مليار دولار في شهر تشرين الأول/أكتوبر جراء بيعها لسندات بشكل غير مسبوق إلى مستثمرين دوليين. وكان التوقيت مثاليًا. فنظرًا إلى فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، قد تتحضّر الأسواق لأشهر عدة، أو أكثر، من التقلب والرّيبة. فيما تتمثل ردة الفعل التلقائية على إصدارات الدين الأمريكية بتوقع زيادة العائد على سندات الخزينة الأمريكية نتيجة وعود ترامب بالإنفاق على البنية التحتية، ضربت تعليقاته المبهمة خلال حملته الانتخابية باحتمالية تخلّف الولايات المتحدة عن تسديد مدفوعات الدين عرض الحائط الأمر الذي أدى إلى حصول حالة من انعدام اليقين في الأسواق. فتعتمد الحكومات على مستثمري السندات الدوليين في في وضع خطط مالية طويلة الأمد وتغطية العجز المالي على المدى القريب. إن قدرة الحكومة على إظهار الثقة التي تتمتع بها، بالإضافة إلى أصولها الاحتياطية وقدرة بيئتها التجارية، والإصلاحات والسياسات الهيكلية التي تبرهن التزام الحكومة برؤية اقتصادية ما، عوامل أساسية في تسعير الدين. إلا أن هذا الأمر لا يرتكز مطلقًا على معادلة حسابية دقيقة بل يعتبر تمرينًا في تحليل المخاطر. تمكّنت المملكة العربية السعودية من دخول أسواق المال منذ أسابيع عدّة، في وقت بات يعتبر اليوم هانئًا بالمقارنة مع الجلبة التي خلّفتها الانتخابات الرئاسية.
يعتبر الإصدار الأخير للسندات السعودية المقوّمة بالدولار الأمريكي الأضخم من نوعه الذي أطلق في أعلى طرح للسندات السيادية التي تمتد على ثلاثين عامًا والتي صنفّها المستثمرون بديون “الأسواق الناشئة”. وبالفعل، تعتبر عملية بيع الديون هذه ضخمة جدًا بالنسبة إلى اقتصاد نام، ولاسيما بالنسبة إلى ديون الأسواق الناشئة، إلا أنه لا يجوز حصر المملكة العربية السعودية بأي من هاتين الفئتين. فالاقتصاد السعودي أضخم من معظم حالات ديون الأسواق الناشئة ويفوقها من حيث التقدم الصناعي، فلطالما كانت عملته مستقرة جدًا، ويتمتع بمعدل دين منخفض جدًا بالنسبة إلى معدل الناتج المحلي الإجمالي وقطاع مصرفي داخلي متطور جدًا. فقليلون هم من يتوقعون بوقوع أزمة دين في المملكة العربية السعودية كما حصل في الأرجنتين بين العامين 2001 و2002، أو إلى الحاجة إلى وضع مخطط شامل للتخفيف من حدة المديونية مثل تطبيق مخطط سندات برادي في أمريكا اللاتينية بعد أزمة الديون التي وقعت عام 1980.
إن المملكة العربية السعودية تحتلّ الصدارة إلا أن قطر والإمارات العربية المتحدة المجاورة لها تسير على خطاها لتتمكّن من الوصول إلى مستثمرين دوليين متلهّفين في مجال السندات. ولقد باتت ديون المملكة العربية السعودية، بالمقارنة مع الأنداد كمصر على سبيل المثال، محط استقطاب كبير. فقد يعتبر اشتراك المملكة العربية السعودية في حالات الدين في الأسواق الناشئة استراتيجيًة جيدة للبيع إذ تجني المصارف رسومًا مربحًة لقاء تنظيم صفقات بيع الديون، إلا أنه قد يتسبب أيضًا في تشويه عملية تحليل المخاطر. سيبنى الاستثمار في المملكة العربية السعودية في السنوات الثلاثين القادمة على الإيمان إلى حد بعيد بقدرة الحكومة على إصلاح أسواق العمل (ولاسيما بتوجيه المواطنين إلى خارج القطاع العام) وزيادة الإنتاجية وتقليص اعتماد الحكومة على صادرات النفط كمصدر رئيسي للإنفاق المالي.
الاستثمار الأجنبي المباشر في المملكة العربية السعودية
في أوائل العام 2016، تمكّنت المملكة العربية السعودية من زيادة الدين في أسواقها الداخلية، إذ اعتمدت بشدّة على المصارف الداخلية في شراء السندات الحكومية. ولا يزال القطاع المصرفي السعودي الداخلي وشركات القطاع الخاص، ولاسيما في مجال البناء، يعتبرون أكثر الشركات التجارية هشاشًة في المرحلة الانتقالية الاقتصادية الجارية. فمعرفة من سيقوم بشراء السندات الجديدة، ولاسيما السندات العالمية التي تمتد على ثلاثين عامًا، هو أمر بالغ الأهمية إذ يراهن هؤلاء المستثمرون على نجاح المملكة العربية السعودية واستقرارها على المدى البعيد. وكان مصرف “جي بي مورغان” أبرز منسّقي عملية بيع السندات العالمية الأخيرة، وقد أبلغ عملاءه أن ما يصل إلى ربع مشتري الديون الطويلة الأمد هم آسيويون. ولقد أبدى المستثمرون المقيمون في الولايات المتحدة اهتمامهم الدائم بالديون القصيرة الأجل المتمثلة بالسندات التي تمتد على خمس سنوات وبشريحة السندات الصادرة لأجل ثلاثين عامًا، على حد سواء، إذ شكّلوا نسبة 40 بالمئة من مشتري كل من الفئتين. ويكشف اهتمام المستثمرين عن بعض التغيرات الجذرية في نظرة الشرق الاستراتيجية والاقتصادية للمملكة العربية السعودية. في الوقت الذي لا يزال فيه المستثمرون السعوديون، وبخاصة مدراء الصناديق، يفضلّون الاستثمار في الدين السعودي، يشير نسج الروابط مع آسيا إلى الالتزامات الطويلة الأمد والاستثمارات التي تعود بالفائدة على الطرفين ولاسيما في البنية التحتية والصناعة السعودية. إن المستثمرين المقيمين في الولايات المتحدة هم من أصحاب الصناديق التحوّطية إلى حد كبير ويسعون على الأرجح إلى بيع الدين أو المقايضة به على المدى القصير. وسيشكل مقدار قلق هؤلاء المستثمرين، الناجم عن تفاعلهم مع التغيرات في العلاقات الأمريكية والسعودية على مدى الشهور القادمة، مؤشرًا مهمًا على فعالية جدول الأعمال الاقتصادي الإصلاحي السعودي وقوة الارتباط الأمريكي مع الخليج.
ليس من المستغرب أن يستقطب الكثير من الاستثمارات الجديدة في البنية التحتية والطاقة المخطط لها في مبادرة رؤية السعودية 2030 شركاء معنيين في آسيا، بما في ذلك شركات ومؤسسات مالية من كوريا الجنوبية واليابان والصين، في وضع وتشغيل عدد من المشاريع الصناعية المهمة التي تتراوح بين محطات الطاقة والسكك الحديدية، والأعمال المصرفية وصناديق الاستثمارات المشتركة المتعلقة بالتقنيات الجديدة. ومن الممكن أن تكون هناك عملية استعاضة حاصلة، إذ قد تميل الشركات الأجنبية الجديدة التي تمتلك مصادرها الخاصة من رؤوس الأموال أكثر إلى المزايدة على عقود الحكومة السعودية وسيصعب على المؤسسات والشركات المحلية أن تربح المناقصة. وللمستثمر الجديد الأجنبي المباشر حصص على المدى القريب والبعيد في التحوّل الاقتصادي السعودي، وهو على استعداد لتكريس وقته لبناء العلاقات. كذلك، تضع المملكة العربية السعودية نصب عينيها تعزيز علاقاتها التجارية مع أكبر مستهلكي صادراتها النفطية.
تمتعت المملكة العربية السعودية بنظرة استباقية أو حالفها الحظ لتدخل الأسواق العالمية قبل الانتخابات الأمريكية، إذ سيستمر الغموض الذي يلتحف إدارة ترامب الاقتصادية وسياستها الخارجية في زعزعة المستثمرين في الأسابيع القادمة. وفي أي عملية أخرى ستجرى هذا العام أو في العام المقبل لجمع رؤوس الأموال تقوم بها المملكة العربية السعودية أو دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى أو حكومات أخرى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإنه من المرجح أن يرخي تحليل المخاطر السياسية بظلاله على تلك العملية، وهذه تداعية أخرى من تداعيات الانتخابات الرئاسية.