إنها ليلة مقمرة في ضواحي الرياض. يضيء نور ساطع منبعث من شاشة بانورامية عملاقة منصةً في الهواء الطلق، وسط حشد يتألف من 5000 شخص من جيل الألفية، رجال ونساء يفصل بينهم حاجز منخفض شبه رمزي متموّج كموج البحر. دعت مؤسسة مسك، وهي مبادرة أطلقها ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، شخصيات شابة بارزة ومبدعة وناشطة في مجال التواصل الاجتماعي لتخاطب حشدًا من المتحمسين في ملتقى “شوف” الرابع لوسائل الإعلام الرقمية. وكان من بين المتحدثين أيمن طارق جمال وهو المخرج السعودي لفيلم “بلال”.
“بلال” هو أحد الأفلام السعودية القليلة التي تصدر عن بلد لا يزال يمنع عرض أفلام السينما في العلن. إن فيلم الرسوم المتحركة هذا يحكي قصة واحد من أوائل صحابة النبي محمد، وعن عبوديته وجلبه من إثيوبيا إلى الجزيرة العربية حيث لم يذق طعم الحرية إلا بعد ظهور الإسلام. إن هذا الحفل الذي ترعاه الحكومة لتكريم هذا العمل الترفيهي ذي الإخراج السعودي والإنتاج الإماراتي يسلّط الضوء على التحول الثقافي الذي ينجزه جيل سعودي جديد بارع في مجال التكنولوجيا ورعته، بحذر، دولة محافظة للغاية.
صنف جديد من الأفلام الإسلامية
وفي كلمة ملهمة لأيمن جمال عُرضت بأسلوب محادثات “تيد” في ملتقى “شوف”، تكلّم المخرج عما ألهمه ليخرج هذا الفيلم، وشرح معاناته في نيل الموافقة على مشروع كهذا، فهو الأول من نوعه من حيث الشكل والمضمون. إن مقاربته لهذه الحقبة المشرّفة من تاريخ الإسلام تعتبر أيضًا مثيرة للجدل لأنها تركّز على سيرة ذاتية أكثر من الدين، وفي تناولها غير المألوف للعبد غير العربي بلال في قلب القصة. وعلاوة على ذلك، ولأنه ما من استوديو للرسوم المتحركة في العالم العربي، أسس المخرج السعودي الشاب استوديو خاصًا به في دبي وسمّاه استوديو برجون.
وتكّلم جمال، الذي عرض صورًة لابنه الصغير على الشاشة وهو يرتدي زي سوبرمان، عن شعوره بالإحباط لغياب القدوات التي يمكن أن يحتذي بها الأطفال السعوديين والتي تحاكي شعبهم وثقافتهم. لماذا تخلو الأفلام من شخصيات أبطال مستوحاة من الإرثين العربي والإسلامي؟ ومع ذلك، ونظرًا إلى أن الفيلم مقتبس بشكل عام من التاريخ الإسلامي، ولا يركّز كثيرًا على الدين الإسلامي، فلقد أثار جدلًا في وسائل الإعلام التقليدية وفي وسائل التواصل الاجتماعي. تدور أحداث الفيلم بمعظمها حول عبد اسمه بلال وكيفية تحرره، وهي أحداث دارت طبعًا في سياق إسلامي. إلا أن فيلم “بلال” الذي يتطلع إلى جذب مشاهدين عالميين، لا يعتبر دينيًا في ظاهره، أو على الأقل ليس دينيًا بطريقة معتادة. فالموسيقى التصويرية التي تعرض أغنية لمغني الراب الأمريكي ايكون تعلن بوضوح أن هذا الفيلم لا يجسّد التاريخ الإسلامي بطريقة تقليدية.
وبالتالي، وعلى الرغم من إهتمام الفيلم بالحضارة والإرث المحليين، اعترضته مشاكل أعاقت توزيعه في دول الخليج العربية. المملكة العربية السعودية تخلو من أي صالات سينما عامة، ومنعت الكويت عرض الفيلم نظرًا إلى القوانين التي تحرّم تجسيد شكل الصحابة. وفيما عرضت قطر الفيلم، أثار جدلًا محتدمًا في صفوف شعبها المحافظ بأغلبيته، الذي يتبع العقيدة الوهابية. وما هذه الجدالات إلا صدًى لتلك التي سبقتها والتي باتت أكثر تواترًا على خلفيّة ارتفاع شعبية السينما الإسلامية في كلا الجانبين في الخليج.
إنتاج إماراتي وسعودي مشترك
استُقبل الفيلم بالتأهيل والترحاب في الإمارات العربية المتحدة، حيث تم إنتاجه وبات يلقى نجاحًا. وبالفعل، فإن قصة عبد أفريقي تبدو مثالية لتجسيد الجهود التي تقوم بها الدولة الإماراتية لإظهار صورة الإسلام الأكثر تعدديًة وانفتاحا. ونالت هذه الرسالة استحسان بعض الأفراد في ديوان الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز وابنه المحبّ للتكنولوجيا.
يعتبر الرابط بين الترفيه والدين أساسي لتنفيذ الخطط التي تضعها المملكة والتي تهدف إلى تحويل الاقتصاد السعودي، وفي الوقت عينه تعتبر هذه الغاية التحدي الأصعب الذي تواجهه. وسيتطلّب التنويع الاقتصادي من اقتصاد يولي الأولوية للدولة إلى آخر يعتمد أكثر على ريادة الأعمال، والابتكار والمبادرة الفردية اللذين أشاد بهما ملتقى “شوف”. أما دولة الإمارات، فقد حققت تقدمًا ملحوظًا في التنويع الاقتصادي ونشر هذه القيم، وهي تعتبر نموذجًا يحتذى به ومرشدًة في الوقت عينه. وبرزت في الحفل الذي أقامته مؤسسة “مسك” شخصيتان إماراتيتان وهما ولي عهد دبي ورئيس المجلس التنفيذي الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم، ووزيرة الدولة لشؤون الشباب شما بنت سهيل المزروعي التي تبلغ من العمر 22 عامًا وهي خرّيجة جامعة أوكسفورد.
إلا أن المملكة العربية السعودية ليست الإمارات العربية المتحدة. فإن هذا النوع من التحوّل الاقتصادي الرائد في الإمارات العربية المتحدة والذي بات محمد بن سلمان يدافع عنه في خطة رؤية السعودية 2030 يسلّم بإعادة التفاوض حول القيم الثقافية وإعادة هيكلة المؤسسات الدينية التي عززت لعقود من الزمن نفوذ آل سعود. لكن ثمة متنفّس ضئيل، وإن كان محفوفًا بالتناقضات، يتجلّى في مراكز الابتكار التي أُقيمت في المدن السعودية، وفي القصص التي يختار الشبان الخلّاقين أن يقصّوها في الفيديوهات على موقع يوتيوب وموخرًا في الأفلام.
انفتاح ثقافي مدروس
ويتطرّق فيلم سعودي آخر بشكل مباشر إلى التناقضات التي تشهدها المملكة العربية السعودية في هذه الألفيّة الجديدة. ولقد طرح فيلم “بركة يقابل بركة” تطوّرًا غير متوقع بلمسة سعودية للقصة الخالدة التي تروي أحداث لقاء شاب بفتاة في بلاد لا سبيل فيها للتقارب العلني. يروي هذا الفيلم قصة نجمة جديدة ثرية من نجوم وسائل التواصل الإجتماعي وموظف في البلدية من الطبقة الوسطى مكلّف بتطبيق قوانين البلاد البيروقراطية المستمدّة من الدين، التقيا بالصدفة فحاولا أن يعيشا قصة حب. وصف المخرج، محمود صبّاغ، الفيلم بأنه “قصة حب، وفي خلفية الفيلم قصة تتناول المدينة والأماكن العامة.”
وفي زيارة أخيرة للمملكة العربية السعودية، التقيت ببطلة الفيلم الشابة، فاطمة البنوي، في مقهى في مدينة جدة يقدّم بحد ذاته رؤية مذهلة عن المملكة العربية السعودية في طور التغيير. “قهوة ومحمصة مدّ” تقدم قهوة عضويّة وتحرص على اتباع مبادئ التجارة العادلة من مرحلة الزراعة حتى تقديم كوب القهوة، ويتقاسم مالكو المقهى والعاملون فيه، جميعهم شبان سعوديون، الأرباح التي يجنونها من عملهم في المقهى. يجد الشبان والشابات راحة في الاختلاط، ولا ترتدي شابات كثيرات الحجاب. وأخذت البنوي وهي تنظر حولها تتأمّل في التغيرات التي حلّت بالمملكة في الأعوام التي تلت إنتاج الفيلم الذي تناول المحظورات الدينية والاجتماعية. وفي وقت مبكر من هذا العام، جرّدت السلطات السعودية الشرطة الدينية من صلاحية الاعتقال، فتراجعت نسبة تواجدها في الشوارع بشكل ملحوظ. وأشارت البنوي إلى أنه “في حقيقة الأمر…هذا الفيلم لم يعد يحاكي الواقع السعودي لأن التغيير الحاصل قد سبقه.”
ولقد نال الفيلم المستقل موافقة المملكة الرسمية، فأصبح ثاني فيلم فقط يمثّل المملكة العربية السعودية عن فئة الأفلام باللغات الأجنبية في جوائز الأوسكار. ومع ذلك، أخبرتني البنوي أن أيًا من الشبان تقريبًا لم يشاهد الفيلم الذي يصوّر واقعهم بشكل لاذع والذي تم تصويره في جدّة. إن البنوي، خريجة جامعة هارفارد التي طوّرت اهتمامها بالتمثيل عبر المسرح التجريبي السري، حذرة من قدرة وسائل التواصل الاجتماعي وهذه الانفتاحات الثقافية الأولية على التأثير على عملية التغيير. وقالت “إن التغيير عملية معقّدة. ماذا نريد؟ ما نحتاجه هو مزيد من المحادثات والإصغاء، وليس الاستهلاك السلبي أو التلقين.”
لا يعتبر اهتمام المملكة العربية السعودية بجوائز الأوسكار غريبًا. فإن الدولة التي بدأت بأخذ خطوات بطيئة نحو الانفتاح الثقافي في الداخل قد لجأت إلى توظيف قوة الفنون لتحسين صورتها في الخارج. أحضر محمد بن سلمان معه، في زيارته الأخيرة إلى الصين ممثلًا بلاده، الفنان السعودي أحمد ماطر ليقدّم أحد أعماله إلى رئيس مجلس الدولة الصيني. وفي أوائل شهر تشرين الثاني/نوفمبر، استضاف مركز عبد العزيز الثقافي العالمي، وهو مبادرة من شركة أرامكو، أيام الفيلم السعودي، وهو برنامج يمتد على يومين تعرض فيها أفلام سعودية قصيرة على شاشة بحضور جمهور ومجموعة منتقاة من العاملين في هوليوود. وتضمّنت هذه الأفلام القصيرة أحد أول الأفلام التي أنتجتها قناة “تلفاز 11” السعودية، التي تعرض برامجها على موقع اليوتيوب، الرائدة في تعميم ونشر أكثر الفيديوهات المضحكة ذات الإنتاج والطابع السعوديين. وفي الوقت عينه، يستمر ملتقى “شوف” الذي أطلقته مؤسسة “مسك” الخيرية في العمل على تطوير المواهب السعودية أكثر فأكثر عبر إرسال مجموعة من الطلاب ليتابعوا دراستهم في أكاديمية نيويورك للأفلام. كما نظّم مركز الملك سلمان للشباب مسابقة لتسليط الضوء على الأفلام القصيرة التي قام بها طلاب سعوديون يدرسون في الخارج. ولا يزال العمل جاريًا على إذا ما كان طلاب السعوديون سيتمكنون، عند عودتهم إلى المملكة، من عرض أفلامهم هناك.