يعتبر العمل الخيري والشعور بالانتماء المجتمعي ركيزتان أساسيتان لشهر رمضان المبارك. حيث كانت أفعال الكرم تتركز تقليديًا حول مساعدة الفقراء خلال شهر العطاء هذا. ومع ذلك، فإن جهود العطاء في رمضان هذا العام لم تقتصر على التركيز على العطاء للفقراء فحسب، بل تجلت في دعوة للمشاركة المدنية والتبرع للمبادرات التي تقودها الدولة. وقد تم التركيز على هذه الجهود من خلال البرنامج التلفزيوني “سين”، ومن خلال الإعلانات للمنصات الخيرية خلال البرامج التلفزيونية الرمضانية. تم الترويج بشكل خاص للمنصة الوطنية الجديدة للعمل الخيري على وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها الأحدث بين عدد من المبادرات الخيرية التي تقودها الدولة.
نظرًا لأن الحكومة السعودية تسعى إلى تحول اجتماعي واقتصادي، أصبح رمضان فرصة هامة لصياغة السرديات حول القضايا الاجتماعية والأحداث التاريخية. في عامي 2018 و2019، أثار “العاصوف” وهو مسلسل يدور حول حصار مكة عام 1979، وما تلاه من ظهورٍ للصحوة الإسلامية الكثير من الجدل داخل المملكة وخارجها. مرت عقود وموضوع الحصار يعد من المحظورات في المملكة العربية السعودية. ومع ذلك، فإن الصورة التي رسمتها الحكومة مؤخرًا لحادثة الحرم وضعت اللوم على الحصار وما أعقبه من أحداث في تنامي الفكر المحافظ في المملكة وأثره في تقييد الحياة الاجتماعية والثقافية.
في رمضان هذا العام، تتجاوز المسلسلات تشكيل التصورات والترويج للسردية الرسمية: فهي تشجع المواطنين بشكل فعال على المساهمة في التنمية الاقتصادية للبلاد. ويتجلى ذلك في سلسلة حلقات برنامج سين – الحرف الأول من كلمة سؤال. يحظى مقدم البرنامج أحمد الشقيري بشعبية كبيرة في العالم العربي بسبب برنامج “خواطر” الذي كان يقدمه، وتم بثه خلال شهر رمضان ما بين عامي (2005-2015). كان برنامج “خواطر” يركز، في الغالب، على عرض مبادرات التنمية الاجتماعية والاقتصادية الدولية من خلال رحلات الشقيري حول العالم. أثار أسلوب الشقيري، الذي رسم صورة حديثة للإسلام واستكشاف الثقافات الأخرى، الكثير من الاهتمام والثناء في جميع أنحاء العالم العربي.
يشبه برنامج سين برنامج “خواطر” من حيث الأسلوب، إلا أن البرنامج الجديد يركز على السعودية وحدها. يجوب الشقيري أرجاء المملكة لاستكشاف مشاريع ومبادرات التنمية المتنوعة. ويسلط الضوء، في جزء من هذه الزيارات، على المبادرات الحكومية، التي تهدف إلى تحسين جودة الحياة لمواطني المملكة. ويتضح من مقابلات الشقيري مع المواطنين السعوديين أن الكثير من هذه المبادرات لا تزال غير معروفة إلى حد كبير. لذلك، يبدو أن هناك بُعدًا إضافيًا للعرض يتمثل في خلق الوعي بالإنجازات الحكومية، ويعمل، في الوقت نفسه، على تشجيع السكان على القيام بدور فعال في عمليات التغيير من حولهم.
قام البرنامج حتى الآن باستكشاف مشاريع متنوعة إلى حد كبير. في إحدى الحلقات، تنقل الشقيري في عدة مواقع تاريخية لاستكشاف مواقع التنقيب والفنون الصخرية، مؤكدًا على أهميتها في تطوير قطاع السياحة. وفي حلقة أخرى تناول الجهود المبذولة لتعزيز قطاع الطاقة المتجددة، وتناول بالتحديد مشروع دومة الجندل، الذي يهدف لأن يكون أكبر مزرعة رياح في الشرق الأوسط. في إحدى الحلقات حول التصنيع، أجرى الشقيري مقابلات مع عائلات سعودية نقلوا مشاريعهم الصغيرة من منازلهم إلى المدن الصناعية. يستعين البرنامج برسوم بيانية ليسلط الضوء على ترتيب المملكة مقارنة بالدول الأخرى، حيث أعلن الشقيري في الحلقة الأولى أن هدف المملكة هو الوصول لأحد المراكز العشرة الأولى في التصنيف العالمي تماشيًا مع رؤية 2030.
تم التأكيد على تهيئة الأفراد للتغيير في أغنية البرنامج، والتي تدعو المشاهدين بشكل مباشر للقيام بدورهم للمساهمة في هذا التحول. كما يتم التأكيد أيضًا على التغيير الإيجابي على المستوى الشخصي، بما في ذلك الحلقات التي تم تكريسها لقضايا الصحة وتحسين نمط الحياة. في إحدى الحلقات، ركز الشقيري على حملة بقيادة الحكومة للتبرع بالأعضاء. أثار هذا الموضوع اهتمامًا كبيرًا لدرجة أن موقع الحملة الإلكتروني تعطل بسبب زيادة الإقبال بعد بث الحلقة بوقت قصير. وركزت حلقة أخرى على ممارسة الرياضة من خلال تناول جهود الحكومة للترويج للرياضة، ويشمل ذلك رياضة الهوكي على الجليد والكريكيت، بالإضافة لمبادرات أخرى تشجع السكان ليكونوا أكثر فاعلية في مدنهم وأحيائهم.
على الرغم من أن برنامج سين يركز على السعودية، إلا أن البرنامج ما يزال يجذب المشاهدين ويثير الجدل خارج المملكة. وتعد هذه فعلًا ميزة أخرى من مزايا تصوير التحول السعودي وصورة المملكة خارج حدودها. على سبيل المثال، أثارت إحدى الحلقات حول التحول الرقمي في المملكة اهتمامًا خاصًا بين المشاهدين في بعض دول الخليج المجاورة، التي لا تزال عملية الرقمنة فيها متأخرة. يجادل بعض السعوديين بأن البرنامج هو “أنجح ما أُنتج لتسويق” المملكة حتى الآن، وأنه ينبغي ترجمته والترويج له على منصات البث الأخرى، خاصة للجمهور الغربي.
إن تأكيد رمضان هذا العام على المشاركة المدنية في المساهمة في التنمية الاقتصادية في دول الخليج هو إشارة أخرى على التحول في العقد الاجتماعي، حيث يُتَوقع، بشكل متزايد، من المواطنين والشركات القيام برد الجميل الآن بعد استفادتهم من النظام الريعي للدولة. وعلى نحو مماثل، تم تشجيع مجتمع الأعمال في الخليج في عام 2020 على مساعدة الحكومات في التخفيف من الآثار الاقتصادية لجائحة فيروس كورونا. وقد أصبح هدف إعادة تحديد مسؤوليات الشركات والمواطنين على حدٍ سواء في علاقتهم بالحكومة موضوعًا مشتركًا بين دول الخليج، التي تعمل في اتجاه اقتصاد ما بعد النفط.
في مقابل هذه الخلفية، وكمحاولة للاستفادة من التبرعات الرمضانية، تم مؤخرًا تقديم مبادرات حكومية جديدة للتخفيف من الصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها الأسر الفقيرة. في مارس/آذار، أطلقت السعودية المنصة الوطنية للعمل الخيري (إحسان)، حيث تم الترويج لها بشكل كبير منذ بداية شهر رمضان. إن التركيز في موقع إحسان الإلكتروني على العطاء يرتبط برؤية 2030، حيث إن الإقدام على فعل الخير دليل على وجود “المواطن المسئول” في المجتمع.
تقريبًا في الوقت نفسه الذي شهد إطلاق منصة إحسان، أقر مجلس الشورى السعودي إجراءات جديدة لمكافحة التسول. لا تقتصر هذه الإجراءات على معاقبة التسول في الشوارع فحسب، وإنما تستهدف أيضًا أولئك الذين يطلبون المساعدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التوجه المتزايد خلال السنوات الأخيرة. نتيجة لذلك، يمكن اعتبار إحسان محاولة لتركيز التبرعات في منصة واحدة مع التقليل من علامات الفقر المرئية على شكل تسول في الشوارع أو وسائل التواصل الاجتماعي. تم الإعلان عن التبرعات المبكرة التي قدمها الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ومحافظ صندوق الاستثمارات العامة ياسر الرميان لتشجيع الأفراد على المساهمة. يتم توزيع مبالغ التبرعات الكلية بشكل منتظم على وسائل التواصل الاجتماعي للحث على المساهمة.
تُظهر المبادرات الرمضانية هذا العام، والتي تركز على الإحساس بالانتماء المجتمعي والمساهمة في التنمية، كيفية اعتماد الحكومة السعودية المتزايد على المواطنين للقيام بدورهم في التحول المتواصل. ومع ذلك، من الواضح أن الدولة تريد أيضًا التأكد من مركزية هذه الجهود، وكونها تدار من خلال مبادرات حكومية، مثل منصات التبرعات التي تقودها الدولة. لقد أصبحت زيادة وعي المواطنين السعوديين بدورهم في المجتمع وجعلهم جزءًا من مشروع التحول الوطني موضوعًا مركزيًا، وخصوصًا على النحو الذي يتم عرضه في برنامج سين. ومع ذلك، فإن متابعة هذا الأمر والتوقع بأن المواطنين سيواكبون هذه المساهمات والالتزامات بعد شهر رمضان ستبقى تمثل تحديًا حاسمًا لخطط التحول المقبلة، إلى ما بعد هذا الشهر الفضيل.