جلبت رؤية 2030 تغييرات سريعة وجوهرية في المملكة العربية السعودية، وشمل ذلك زيادة الانفتاح الاجتماعي وأشكال الترفيه المعاصرة المطروحة، مثل الحفلات الموسيقية ودور السينما. مع التحول لجيل يهتم بشكل متزايد بكسب رزقه من قطاعات حديثة، ويسود تصور لدى البعض بأن الفولكلور التقليدي من سبل العيش الغير مستدامة، وثمة خطر يهدد الحفاظ على هذا الموروث.
ويشعر بعض السعوديين – مثل تارا الدغيثر البالغة من العمر 31 عامًا وهي فنانة وقيّمة فنية – بالمسؤولية تجاه الحفاظ على تراث البلاد الموسيقي والفولكلوري خشية اختفائه.
تارا هي مؤسِّسة أرشيف “صوت الصورة“، وهي منصة جماهيرية المصادر تعمل على توثيق الصوت والتراث الغنائي للمرأة في السعودية. وتهدف هذه المبادرة أيضًا البحث في كيفية اندماج الممارسات الموسيقية في حياة النساء في مختلف مناطق السعودية.
تقاليد أصوات النساء
يعد الغناء الفولكلوري والتقاليد الموسيقية جزءًا متأصلاً من الثقافة العربية الخليجية. كانت بعض هذه التقاليد الاجتماعية موجودة في السعودية قبل الإسلام. على سبيل المثال، كانت النساء على مر التاريخ يغنين التهويدات لأطفالهن، أو كن يغنين أثناء القيام بأشغالهن اليومية المتمثلة في طحن القمح وصنع الخبز. وأثناء حفلات الزفاف أو الاحتفالات بالأعياد، كان الغناء مصحوبًا بالتصفيق أو إيقاع الطنبورة.
في كتاب “الموسيقى في الجزيرة العربية: تصورات حول التراث والترحال والأمة،” أشارت المؤلفة والباحثة المستقلة كاي هاردي كامبل (Kay Hardy Campbell) إلى أنه “على مر القرون، كانت النساء يغنين في حفلات الزفاف والاحتفالات الأخرى، حيث كانت النساء يؤدين ألوان من الفولكلور الشعبية وأغاني العشق”. وتابعت، “كانت النساء يغنين إحياءً للاحتفالات العائلية والاجتماعية”.
في أواسط القرن العشرين، دخلت المطربات إلى الحلبة العامة من خلال الأداء في فرق احترافية. كانت المغنية الرئيسية تعزف على العود، وتنضم إليها جوقة تعزف على آلات إيقاعية يدوية مختلفة.
على مدار القرن العشرين، مع حدوث العديد من التطورات السياسية والدينية والاجتماعية في السعودية، تطور كذلك المشهد الموسيقي. لاحظت كاي أنه اعتبارًا من عام 1975 كانت هناك فترة محافظة دينيًا أثرت على الموقف العام من الموسيقى. وكان لها تأثير سلبي على ظهور الموسيقيين، خاصة المغنيات. ومع ذلك، وابتداءً من عام 1995، فإن الانفتاح الثقافي الذي أيقظه المهرجان الوطني للتراث والثقافة (مهرجان الجنادرية)، برعاية رسمية، قد سمح بإدراج العروض الشعبية للفنانات. كما أدى ظهور القنوات الفضائية في التسعينيات والإنترنت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى جعل الموسيقى متوفرة على نطاق واسع. كتبت كاي، “حتى خلال الفترات الأكثر تحفظًا في القرن العشرين، كان ثمة ثقافة موسيقية نابضة بالحياة في المدن والبلدات، وإن كانت بوتيرة منخفضة في بعض الأحيان”.
توثيق وحفظ التراث الصوتي على اختلاف أنواعه
انبثقت مبادرة أرشيف صوت الصورة من شغف تارا بالموسيقى ورغبتها في انتاج المعرفة للفنانين. كان نقص الموارد المحلية المتاحة للفنانين وخلفيتها كقيّمة فنية السبب الذي شجعها على التفكير في جعل إنتاج المعرفة يتم بصورة تشاركية بشكل أكبر.
وفي حين كانت هناك جهود مستقلة للحفاظ على التراث الموسيقي للسعودية (قناة يوتيوب مجهولة المصدر والتي اختفت ولم تعد متوفرة، والصحف العربية التي تبرز المغنين الاكثر شهرة وكتاب الأغاني المشهورين، ومجموعات أشرطة الكاسيت الشخصية)، إلا أن هذه الجهود كانت مخصصة لغايات محددة أو متقطعة أو كان يتعذر على الجمهور العام الوصول إليها.
تقول تارا، “نشأت في المنطقة الشرقية خلال التسعينيات، تلاشت ثقافة أشرطة الكاسيت والعروض النسائية الحية. كانت طريقتي الوحيدة للوصول إلى العروض النسائية هي حفلات الزفاف العائلية. كان تصوري منحصرًا آنذك بأن هذا هو المكان الوحيد الذي تؤدي فيه النساء عروضهن. وهذا لم يكن صحيحًا”.
ونظرًا لأن هذا التراث الغنائي مستقر في الوسط النسائي أو التاريخ العائلي (الذي غالبًا لا يستطيع الغرباء الوصول إليه)، فقد أوضحت تارا أن عملية الأرشفة في منصة صوت الصورة تتصف بالمشاركة، وهو ما يسمح بالتنوع في التأليف والتوثيق وإمكانية الوصول. تقول تارا، “بدلاً من الاعتماد كليًا على الهيئات المسؤولة عن الموسيقى والتراث، أعتمد على القصص التي يتم جمعها أو تسجيلها من قبل مجتمع الفولكلور نفسه”. يتم تجميع الأرشيف الجماهيري من خلال تكوين علاقات شخصية مع المجتمع، والاعتماد على مشاركة الفنانات والموسيقيات والمؤرخات الشفويات والباحثات والمتحمسات للفكرة. وتضيف، “لدى التقاليد والطقوس الفولكلورية عناصر متجذرة عميقًا في السرد القصصي، فتوجهاتها اجتماعية وتترعرع في الطقوس الطبيعية”.
ولشعبية المصادر الجماهيرية عبر وسائل التواصل الاجتماعي – وخاصة إنستجرام – جذب أرشيف صوت الصورة الانتباه والاهتمام. منذ إنشائه في عام 2020، تمكن الأرشيف من تجميع ما يزيد على 200 مرجع صوتي ومرئي ومكتوب حول التاريخ الموسيقي للمرأة في السعودية. كما استخدمت تارا كذلك مواد أرشيفية لتنظيم معرضين، ولديها خطط لتنظيم معرض لإعادة تمثيل التقاليد الموسيقية.
أوضحت تارا “تواصل أشخاص من خلفيات مختلفة مع المبادرة للبحث عن القصة الخاصة بهم ضمن قصص أصوات النساء، وهذا ما منحني العزيمة للانتقال بها إلى المستوى التالي”. كما لاحظت توجهًا في زيادة مشاريع الأرشفة في المنطقة. “أعتقد أن هذا تجاوبًا مع سرعة وتيرة التغيرات الجارية، ورغبة من الناس في إحياء ذاكرتهم الثقافية، لكي نحتفي بأصولنا المتجذرة، ونحافظ عليها في مواجهة بنية عالمية اقتصادية واجتماعية دائمة التوسع أو التصادم”، على حد قولها.
التمعن في التراث الثقافي السعودي وحيوات النساء
في حين يهدف الأرشيف للحفاظ على التراث السماعي من الاختفاء، إلا أنه يوفر أيضًا للأجيال القادمة فهمًا أعمق للنسيج المجتمعي السعودي. فهو يقدم لمحة سريعة عن ثقافة البلاد المتنوعة – مثل التأثير الجاوي واليمني في الأغاني الحجازية، وتقاليد السامر (من السمر) الشعرية في منطقة نجد، والتأثير العراقي في الملاحة البحرية، وأغاني الغوص بحثًا عن اللؤلؤ في الشرقية.
ربما تكون المغامرة في مجال الموسيقى والوصول إلى هذه الأوساط أمرًا غير يسير. إلا أن تشير تارا إلى أنه بعد فترة المحافظة الدينية المتشددة التي مرت على البلاد، تقبل الناس فكرة أن صوت المرأة عورة. قالت تارا “تأصل مع البعض فكرة أن صوت المرأة جزءًا من احتشامها، والموسيقى لديهم أصبح من المحرمات. وتم شراء أشرطة الكاسيت من السوق السوداء، وغالبًا ما كانت وسائل الترفيه تخضع للرقابة”، “لقد نسينا هذه الأشياء لأن التغييرات في السنوات القليلة الماضية كانت هائلة، لكن لا يزال لها أثر داخلنا. لا بد من الاعتراف بهذا التاريخ”. وأضافت، “لقد كان العمل مع هذه الحساسيات أمرًا يدعو للتواضع والتروي ومفيدًا بشكل لا يصدق من الناحية المعرفية، وكان لي الشرف الكبير في محاكة هذا التحدي بالذات”.
من ناحية أخرى، قالت تارا، إن أمر أكسبني الرضا في هذا الجهد لإطلاق أرشيف صوت الصورة هو فرصة الالتقاء بنساء من الجيل السابق. “لقد ملك قلبي كرمهن ولطف ملقاهن. حتى عندما كنَّ حذرات، أو غير متأكدات، أو غير واثقات، تستطيع أن ترى من الدفء في عيونهن أنهن يريدن أن يتم الاستماع لهن”. وتقول تارا إنه من دواعي اعتزازها أن تسمع جيل الشباب يهتفون متعجبين بأنهم لم يعرفوا هذا الجزء من قصة عماتهم أو جداتهم “يتم سرد هذه القصص بعد أن اختفت أو لم تتم إعارتها أي اهتمام لوقت طويل. إنه لشيء مشجع وجميل للغاية أن نشهد هذا الأمر”.