بعد شهور من الحشد العسكري على حدود أوكرانيا، فإن الغزو الروسي لها، الذي بدأ يوم 24 فبراير/شباط، قد زعزع السلام الأوروبي، وأدى إلى هزات في أسواق المال والطاقة بالإضافة لهزات أخري في عواصم الدول حول العالم. إن كيفية تحديد ذلك لمعالم السلم والأمن الدوليين يعتمد على أهداف وغايات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يبدو مصممًا على إضعاف أو إسقاط حكومة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي لصالح حكومة دُمى، مع الإبقاء على أوكرانيا في حالة ضعف. وستكون هناك أيضًا مخاوف من التصعيد ومن أي تداعيات غير مباشرة فيما يتعلق بالنزاع مع دول الناتو المجاورة مثل بولندا.
تتجذر الحرب الروسية–الأوكرانية في المظالم المتصورة الناتجة عن تسوية ما بعد الحرب الباردة، وبشكل رئيسي معاهدة التسوية النهائية المتعلقة بألمانيا، والتي وقعها الرئيس الروسي ميخائيل جورباتشوف في سبتمبر/أيلول 1990. وبموجب المعاهدة، التي سهلت مهمة إعادة توحيد ألمانيا، تم حظر وجود قوات أجنبية في ألمانيا الشرقية السابقة، مع وجود تفاهم مع موسكو بأن قوات الناتو لن يتم نشرها في دول أخرى في الشرق. إن القانون التأسيسي للعلاقات المشتركة بين الناتو وروسيا، والذي وقع عليه الرئيس الروسي بوريس يلتسين في مايو/أيار 1997 مقابل مجموعة حوافز اقتصادية مختلفة، قد مهد الطريق أمام التحالف للتوسع في وسط أوروبا وشرقها، بالإضافة لدول البلطيق. لكن بوتين الذي أصبح في 2017 صاحب أطول فترة كرئيس لروسيا منذ عهد جوزيف ستالين، ويستعد لإعادة انتخابه في 2024، يهدف لإعادة النظر في نظام ما بعد الحرب الباردة.
لقد جاء هذا التدخل بعد تحركات مشابهة شكّل من خلالها بوتين مؤهلاته الأمنية، مثل حرب الشيشان الثانية 1999-2000. ومع ذلك، فإن ما شكل تجاوزًا للخط الأحمر للسياسة الأمنية والخارجية الروسية هو إعلان قمة بوخارست في 2007، والذي رحب بطموحات أوكرانيا وجورجيا للانضمام لعضوية حلف الناتو. لقد لعب الإعلان دورًا مهمًا في الحرب الروسية–الجورجية في أغسطس/آب 2008 التي يتردد صداها في أحداث أوكرانيا الحالية. كانت بوادر الحرب الحالية تتجلى في قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم في 2014، وفي الخطوة الأحدث في اعتراف بوتين بالإقليمين الانفصاليين دونيتسك ولوهانسك في إقليم دونباس شرق أوكرانيا. إن نشر القوات الروسية للقيام “بمهام حفظ السلام” هناك أبطل اتفاقية منسك الثانية الموقعة في فبراير/شباط 2015 والتي هدفت لإيقاف القتال في دونباس. وقد نصت الاتفاقية على سحب الأسلحة الثقيلة من خط المواجهة وعودة السيطرة على حدود الدولة لحكومة أوكرانيا.
رد دول الخليج
عكس الرد على الغزو الروسي، حتى الآن، علاقات دول الخليج مع الولايات المتحدة واستراتيجيات التحوط وخبرة النزاع والمصالح الاقتصادية:
من خلال إشارتها للحفاظ على اتفاقية الإنتاج بين مجموعة أوبك ومجموعة الدول غير الأعضاء في أوبك في اتفاق أوبك بلس، رفضت المملكة العربية السعودية دعوة الرئيس جوزيف بايدن لضخ مزيد من النفط حيث تجاوزت الأسعار حد المئة دولار للبرميل بعد الهجوم على أوكرانيا. ومن المحتمل أن يعتبر الرئيس الأمريكي ذلك، في واقع الأمر، تقويضًا للجهود الغربية لتوظيف العقوبات كأداة رئيسية ضد موسكو. وكجزء من سياسة التحوط التي تنتهجها، تبدو السعودية غير ميالة لإلغاء تعاونها العسكري المشترك مع روسيا.
قام وزير الخارجية الإماراتي بالاتصال تلفونيًا بوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في 23 فبراير/شباط لمناقشة التطورات الإقليمية والدولية. وقد أكد الطرفان على “حرصهما على تعزيز آفاق التعاون الإماراتي-الروسي”. وفي اجتماع مجلس الأمن الدولي في 24 فبراير/شباط أعادت الإمارات العربية المتحدة التأكيد على أهمية الحوار، وتكثيف الجهود الدبلوماسية على أساس القانون الدولي، واستخدام اتفاقيات مينسك كأساس جيد لحل سلمي للنزاع. إضافة لذلك، عبرت الإمارات عن القلق حول وصول المساعدات الإنسانية، لا سيما قرب خط التماس في شرق أوكرانيا. وعلى الرغم من أن الإمارات حليف مقرب من الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، فقد عايشت مؤخرًا صعوبات في مفاوضاتها مع الولايات المتحدة حول شراء طائرات مقاتلة من طراز إف-35، بالإضافة لمزاعم الولايات المتحدة عن إقامة منشأة عسكرية صينية في البلاد. ولدى شركة روستيك، وهي شركة روسية تخضع الآن للعقوبات، علاقات استراتيجية مع وزارة الدفا الإماراتية، وستكون الاستثمارات من دول الخليج، مثل الإمارات، مرحبًا بها، وتحديدًا قبل أية عقوبات ممكنة أخرى يتم تنسيقها بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
يعي بوتين الدور الذي يمكن أن تلعبه قطر في نهاية الأمر في تنويع واردات أوروبا من الغاز بعيدًا عن روسيا، في الوقت الذي علقت فيه ألمانيا مشروع غاز نورد ستريم 2 وغاز بروم، التابعين لورسيا، واللذين تأثرا بالعقوبات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا. وقد أرسل بوتين رسالة لأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني مبينًا سبل دعم وتعزيز العلاقات الثنائية بين الدولتين. وقد حمل الرسالة وزير الطاقة الروسي، نيكولاي شولجينوف، الذي كان في الدوحة لحضور المنتدى السنوي للدول المصدرة للغاز. وأجرى وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني مكالمتين هاتفيتين منفصلتين مع لافروف ونظيره الأوكراني ديمترو كوليبا معبرًا عن قلقه. وفي الوقت نفسه، دعا تميم الطرفين إلى ضبط النفس وحل الأزمة من خلال الوسائل الدبلوماسية. ستكون المسألة الرئيسية لقطر هي في موازنة صادراتها من الغاز مع التزاماتها في آسيا، وخصوصًا إذا زاد الطلب عليه في مناطق مختلفة في وقت واحد.
أما الكويت فذهبت بعيدًا عن جاراتها، وكانت واضحة في التأكيد على أهمية احترام استقلال وسيادة أوكرانيا. يبدو أن موقف الكويت ينبع أساسًا من تجربتها الأخيرة في النزاع والاحتلال. وفي حقيقة الأمر، قام العراق بدفع التعويضات النهائية للكويت بعد 31 سنة، وفاتورة إجمالية بحوالي 52.4 مليار دولار تعويضًا عن غزوها في عام 1990.
من جهتها، وجهت إيران لومها في الأزمة الأوكرانية نحو استفزازات حلف الناتو، على الرغم من أن وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان تحدث على تويتر عن الحاجة لتحقيق وقف لإطلاق النار وإيجاد حل سياسي وديمقراطي. يمكن للتدخل الروسي والعقوبات الغربية أن يعرّضا للخطر محادثات فيينا التي تهدف لاستعادة الاتفاق النووي. أولا، التدخل الروسي يمكن أن يصرف الانتباه الأمريكي عن فيينا، ويطيل وقت التوصل لاتفاق ممكن، والسماح بإمكانية أن يجعل حدوث مزيد من التغييرات في البرنامج النووي الإيراني الوصول لاتفاق أمرًا مستحيلاً. ثانيًا، بانتظار حجم الضغط الذي يقوم به الحلفاء الغربيون على موسكو، يمكن تصور تغيير في الموقف الروسي، ما يقوض دبلوماسية التعاون الضمنية التي توجد بينهما حتى الآن.
في بيانها قبل وقوع الأزمة الحالية، دعمت البحرين قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المتعلق بوحدة الأراضي الأوكرانية في 2014. ففي 2021، أعاد عبد الله بن أحمد آل خليفة، وكيل وزارة الخارجية البحرينية للشؤون الدولية، التأكيد على دعم البحرين لوحدة الأراضي الأوكرانية، وأشار إلى أنه لن يسمح للشركات البحرينية بالقيام بأعمال في شبه جزيرة القرم المحتلة. ومع تسليط الضوء الدولي بقوة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، يبقى أن نرى هل ستستمر البحرين في تبني موقف جريء بخصوص أوكرانيا.
ومع أن عُمان لم تصدر ردًا بعد على الأزمة، فإن موقفها سيكون مشروطًا بتوجهات سياستها الخارجية العامة، مفضلة التركيز على الحلول الدبلوماسية والوساطة (مع التركيز الواضح على الحياد واحترام السيادة). وتدرك مسقط الدور المحدود الذي يمكن أن تقوم به دولة صغيرة في منظومة علاقات الدول العظمى بين الولايات المتحدة/الناتو وروسيا.
العديد من الدول، بما فيها الإمارات والبحرين والكويت والعراق، حثت مواطنيها على مغادرة أوكرانيا، كما علقت العديد من شركات الطيران الخليجية رحلاتها إلى أوكرانيا، منوهة بوجود مخاوف تتعلق بالسلامة.
التأثيرات المتوقعة على المدى الطويل
إن أي رد أمريكي باهت أو ضعيف نحو النزاع في أوكرانيا، بعد وقت قصير من انسحاب أمريكا من أفغانستان، سوف يثير المخاوف حول تراجع قوة الولايات المتحدة في العالم. في الشرق الأوسط، انخرطت بعض الدول في القيام باستراتيجيات التحوط، وعلى ما يبدو فإن الدول التي تربطها علاقة متينة مع روسيا غير راغبة في تغيير أو مراجعة سياساتها.
يكمن أحد الاعتبارات الرئيسية في الموقف الذي تتبناه قطر كمصدر رئيسي للغاز والفائدة الاقتصادية التي يمكنها اكتسابها من زيادة الصادرات لأوروبا. ويمكن أن يترجم ذلك بعلاقات أوثق، والمزيد من المصادر، والقدرة على تحمل المزيد من الضغوط الشبيهة بتلك المرتبطة بالأزمة القطرية عندما فرضت السعودية والإمارات والبحرين ومصر مقاطعة على قطر في عام 2017. وعملت معظم هذه الدول على تحسين العلاقات مع الدوحة منذ قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية في العلا في 2021 والتي أنهت المقاطعة. ومع ذلك، فهم لم يحلوا الخلافات الرئيسية بعد. كما أن لموسكو وضعًا جيدًا لتقويض خط غاز قطري بري لأوروبا من خلال وجودها في سوريا، على الرغم من أن قوى الجهاديين يمكنها أن تلعب أيضًا دورًا في هذا الإطار.
لا يعتمد مجلس التعاون لدول الخليج العربية على صادرات الحبوب الروسية أو الأوكرانية مثل الحلفاء في المغرب ومصر، ولكن أي انقطاع كبير يمكن أن يُترجم في ارتفاع أسعار المواد الغذائية ومزيدٍ من عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. وسيكون ذلك تطورًا غير مرحب به بالنسبة للسعودية والإمارات والكويت، التي عملت بقوة لتعزيز اقتصادات الشرق الأوسط.
أخيرًا، يمكن للأزمة أن تطيح، بشكل مباشر أو غير مباشر، بإجراءات التهدئة التي تقوم بها الأطراف الإقليمية. فمثلاً، في حال فشل خطة العمل الشاملة المشتركة، قد تتوقف المحادثات السعودية-الإيرانية وسط مخاوف من تقليص إيران فترة قدرتها على تحقيق إنجاز. وفي حال سقوط الحكومة الأوكرانية، فقد تتعرض تركيا لنفوذ روسي متزايد عبر البحر الأسود. وقد ينتهي الأمر بتركيا، التي تحاول موازنة علاقاتها مع أوكرانيا وروسيا، إلى أن تتعرض لمزيد من الضغط على حدودها مع سوريا حيث تقول أنقرة إن روسيا تفشل في نزع سلاح المقاتلين الأكراد. ويمكن لهذا أن يصرف انتباه أنقرة بعيدًا عن انطلاقة دبلوماسية جديدة مع الإمارات.