في الوقت الذي تركزت فيه أنظار مئات الملايين في العالم على الدوحة، قطر، لمشاهدة أولى مباريات كأس العالم في دولة عربية، تعرضت دولتين عربيتين، ضعيفتين، لتهديدات من دولتين مجاورتين غير عربيتين في آخر مؤشر على التراجع المستمر للعرب الذين يعيشون منذ زمن في ظلال جيرانهم الأقوى منهم. النظام الإسلامي في إيران، الذي يقمع شعبه المطالب بحرياته بالحديد والنار، أوفد إسماعيل قاآنی قائد فيلق القدس في الحرس الثوري إلى بغداد، والذي هدد المسؤولين العراقيين من عرب وأكراد بأن إيران سوف تجتاح مناطق في كردستان العراق إذا لم توقف الحكومة العراقية عناصر كردية-إيرانية مناوئة للنظام في طهران تقوم بتشجيع التظاهرات الاحتجاجية في إيران على حد زعمه. ومهدت إيران لزيارة اسماعيل قاآني بهجمات صاروخية ضد أهداف في محيط أربيل عاصمة كردستان، وواصلت هذه الهجمات بعد مغادرة المبعوث الإيراني لبغداد.
وفي حال نفذت إيران تهديدها، وقامت باجتياح بري للعراق، فإن ذلك سيؤزم العلاقات الثنائية، ويحّول الحركة الاحتجاجية داخل إيران إلى قضية إقليمية، لأن إيران تدعي أن أكراد إيرانيين معارضين للنظام يتعاونون مع الولايات المتحدة وإسرائيل يشجعون التظاهرات ويهربّون الأسلحة إلى إيران من كردستان العراق. وحتى الآن لم تقدم الحكومة الإيرانية أي أدلة على هذه الاتهامات التي ينفيها المعارضون الأكراد. وهناك بعد قومي كردي للتظاهرات، لأن الشرارة الأولى التي أدت إلى الحريق الإيراني حدثت بعد مقتل مهسا أميني، وهي كردية-إيرانية، ما أدى إلى بدء التظاهرات في المناطق الكردية داخل إيران قبل انتشارها إلى أكثر من 150 مدينة إيرانية في الأسابيع الماضية.
هذه التهديدات الإيرانية العلنية وضعت الحكومة العراقية الجديدة التي شكلها قبل بضعة أسابيع محمد شياع السوداني في مأزق صعب، خاصة وأن إيران طالبت بغداد بنزع أسلحة العناصر الكردية-الإيرانية التي لجأت إلى كردستان العراق، إضافة إلى تسليمها لمواطنين إيرانيين في العراق مطلوبين من القضاء الإيراني. وحتى قبل الهجمات الصاروخية والتهديدات الإيرانية يواجه العراق تحديات اقتصادية صعبة على خلفية استقطابات سياسية عميقة وأنشطة التنظيمات المسلحة المرتبطة بشكل وثيق مع إيران.
وأي اجتياح إيراني للأراضي العراقية سوف تبرره طهران على أنه يؤكد اتهاماتها بأن الحركة الاحتجاجية الشعبية الإيرانية هي من صنع خارجي، وأن الأكراد-الإيرانيين الذين ينشطون في العراق يمثلون مع الولايات المتحدة واسرائيل رأس الحربة في الانتفاضة ضد النظام الإسلامي في طهران. حتى الآن اكتفت واشنطن بإصدار البيانات التي أدانت فيها بقوة الانتهاكات الإيرانية السافرة لحرمة الأراضي العراقية، وحض طهران على وقف تهديداتها للعراق.
هذا الموقف الفاتر نسبيًا لاحظه النائبين الجمهوريين غاي ريشينثالر (Guy Reschenthaler) ومايك والتز (Mike Waltz) اللذين حضا وزيري الدفاع لويد أوستن (Lloyd Austin) والخارجية أنتوني بلينكين (Antony Blinken) في رسالة على الرد بقوة على الهجمات الصاروخية الإيرانية ضد الأراضي العراقية، لأن السكوت عن هذه الانتهاكات “سوف يشجع الحرس الثوري الإيراني على مواصلة حملته الإرهابية في المنطقة”. ومن المتوقع بعد سيطرة الحزب الجمهوري على مجلس النواب الجديد في مطلع السنة المقبلة، أن تزداد ضغوط الجمهوريين على إدارة الرئيس بايدن لاتخاذ اجراءات عقابية أقسى ضد إيران إذا واصلت هجماتها الصاروخية. وقبل يومين فرضت وزارة الخزانة عقوبات على مسؤولين في الحرس الثوري بسبب دورهم المباشر في الإشراف على قمع المتظاهرين في المناطق الكردية داخل إيران.
وهناك تعاطف كبير في المجتمع المدني الأميركي مع الانتفاضة الإيرانية، والتي وصل عدد ضحاياها إلى 419 قتيلا، من بينهم 60 مراهقًا، وبعد اعتقال أكثر من 17 ألف متظاهر من بينهم مئات الطلاب، وبعد وصول الاحتجاجات إلى 155 مدينة على الأقل وإلى 142 جامعة.
وسوف يكون من الصعب على إدارة الرئيس بايدن عدم الرد على أي اجتياح إيراني لكردستان العراق، وخاصة في أعقاب التوترات الجديدة التي طرأت على العلاقات الثنائية بعد وصول المفاوضات النووية في فيينا إلى طريق مسدود، وبعد القمع الدموي للانتفاضة الشعبية السلمية المستمرة في إيران. وهناك استياء أميركي عميق، وعلى مختلف المستويات – داخل الحكومة والكونغرس وفي وسائل الاعلام – من الدور العسكري الخطير الذي تلعبه طهران في الحرب الأوكرانية من خلال تسليح القوات الروسية بالمسيرات والصواريخ، وتدريب عناصر روسية على هذه الأسلحة الإيرانية التي تطلقها روسيا بشكل عشوائي ضد المراكز المدنية الأوكرانية أو ضد البنى التحتية في أوكرانيا. المسؤولون الأميركيون يقولون إن إحياء الاتفاق النووي الدولي مع إيران لم يعد من بين أولوياتهم بعد الانتفاضة الشعبية في إيران، ودور طهران العسكري الذي وصل الآن إلى قلب القارة الأوروبية، ومن بين أهدافه تقويض الجهود العسكرية الأميركية لمساعدة أوكرانيا.
قبل أيام هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن بلاده سوف تقوم “قريبًا” باجتياح بري لشمال سوريا لضرب المقاتلين الأكراد، بعد أن قام سلاح الجو التركي بقصفهم في عطلة نهاية الأسبوع الماضي. وأضاف أردوغان “نحن نهاجم الإرهابيين منذ أيام، وقريبًا سوف نقوم باستئصالهم بدباباتنا ومدفعيتنا وجنودنا، إن شاء الله”. الغارات التي شنها سلاح الجو التركي، في سياق عملية “مخلب السيف” الأسبوع الماضي، شملت أهداف كردية في سوريا والعراق، واعتبرتها أنقرة ردًا على التفجير الارهابي في اسطنبول في الثالث عشر من الشهر الجاري، والذي اتهمت تركيا حزب العمال الكردستاني المحظور بالقيام به. وأضاف أردوغان أن حكومته تدرك هوية “من يحمي ويسلّح ويشجع هؤلاء الإرهابيين” في إشارة ضمنية إلى واشنطن، التي تنسق عملياتها العسكرية ضد “داعش” مع “قوات سوريا الديموقراطية” المؤلفة بمعظمها من عناصر كردية سورية.
وكشفت القيادة المركزية يوم الأربعاء ان الغارات التركية هددت أرواح الجنود الأميركيين المنتشرين في المنطقة دون أن توفر معلومات مفصلة أكثر. وتنشط القوات الأميركية في شمال شرق سوريا من قاعدة في منطقة الحسكة. وفي مؤشر حول قلق واشنطن من هذه الغارات، أجرى رئيس هيئة الأركان العسكرية المشتركة مارك كيلي (Mark Kelly) اتصالًا هاتفيًا بنظيره التركي يسار غولير (Yasar Guler) لمناقشة الوضع العسكري على الحدود التركية-السورية وقضايا استراتيجية أخرى. الناطق باسم وزارة الدفاع كان مباشرًا أكثر حين قال إن الغارات التركية “هددت وبشكل مباشر أمن العسكريين الأميركيين” الذين يواصلون مهامهم ضد عناصر تنظيم “داعش” الإرهابي، ودعا إلى “تخفيض فوري” للعنف على الحدود، مضيفًا أن وزارة الدفاع “قلقة” من التقارير التي تتحدث “عن الاستهداف المقصود للبنية التحتية المدنية” في المنطقة.
أن يتحدث المسؤولون الأميركيون علنًا عن أن القصف التركي لمناطق في شمال شرق سوريا يهدد العسكريين الأميركيين (من قبل دولة عضو في حلف الناتو) فهذا أمر لافت، ويعكس ازدياد قلق المسؤولين في واشنطن من تدهور جديد في العلاقات المتوترة أصلًا مع أنقرة. تهديدات تركيا باجتياح الأراضي السورية ليست جديدة، والقوات التركية قامت بأكثر من اجتياح في العقد الماضي، كان آخرها في 2019 حين تعرضت القوات الأميركية لقصف مدفعي تركي، في الوقت الذي كانت فيه القوات التركية تشن هجومًا ضد الأكراد السوريين المتحالفين مع واشنطن في حربها ضد داعش.
ما يجعل التهديد الجديد أخطر من سابقاته، وما يزيد من صعوبة الضغوط الأميركية لوقفه، هو نمو العلاقات التركية-الروسية ما عزز من نفوذ أنقرة لدى موسكو، حيث تلعب تركيا دورًا هاما في ضمان تصدير القمح الروسي (والأوكراني) إلى العالم عبر البحر الاسود، كما أن تركيا تساهم في مساعدة روسيا في مجال تصدير الطاقة. هذه العوامل تساعد تركيا على تحقيق أحد اهدافها بعيدة المدى في سوريا، أي تخفيض الدور الأميركي العسكري في سوريا، إن لم يكن إلغائه كليًا. وهذا الهدف تلتقي حوله تركيا وكل من إيران وروسيا وسوريا.
ما تريده تركيا من قصفها لوحدات حماية الشعب الكردية في سوريا هو استدراج هذه القوات للرد على الهجمات التركية، لكي تقوم أنقرة بعد ذلك باجتياح الأراضي السورية لضرب قوات سوريا الديموقراطية المتحالفة مع واشنطن، لإضعاف الوجود العسكري الأميركي، الذي لا يتعدى 900 عسكري منتشرون في منتصف وادي نهر الفرات، لمنع إيران من تزويد سوريا بالعتاد والرجال عبر العراق، ولمواصلة القتال ضد عناصر تنظيم داعش.
ما يحدث الآن هو أن إيران وتركيا تقومان بشن الغارات الجوية والصاروخية ضد الأكراد في العراق وسوريا. هذا الوضع سيضع القوات الأميركية في سوريا في موقع عسكري صعب، حيث تتعرض للضغوط والهجمات أحيانا من القوات الإيرانية المرابطة في سوريا (في البوكمال ودير الزور). هذا المشهد العسكري يطرح سؤالًا يفترض أن يكون قد خطر على بال المخططين العسكريين الأميركيين، هل هناك تخطيط عملي بين إيران وتركيا في سوريا لإرغام القوات الأميركية على الانسحاب؟ ما هو واضح ومؤكد هو أن مصلحة إيران وتركيا تقضي بإنهاء الوجود العسكري الأميركي في سوريا. وهذا بدوره يطرح سؤالًا أخر، هل الولايات المتحدة قادرة – بقواتها العسكرية المحدودة في سوريا، ومستشاريها العسكريين في العراق – على منع إيران من اجتياح كردستان العراق، وفي الوقت ذاته منع تركيا من اجتياح المناطق الكردية في شمال سوريا؟