ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
عدم وجود سياسية أمريكية واضحة تجاه النزاعات في سوريا خلال عهد الرئيس السابق باراك أوباما، والمواقف المتناقضة التي تعتمدها حاليا إدارة الرئيس دونالد ترامب تجاه الأطراف المتقاتلة في سوريا، وتجاه النزاعات الأخرى في المنطقة، تفسر إلى حد كبير المعضلة التي تواجهها واشنطن في سوريا، لأن هذا النزاع هو الذي سيقرر كيفية تعامل إدارة الرئيس ترامب في السنوات المقبلة ليس فقط مع سوريا بل أيضا مع تركيا وإيران وروسيا والأكراد.
القرارات التي اتخذتها إدارة الرئيس أوباما مثل التسليح المحدود لفضائل المعارضة السورية، والقرارات التي لم تتخذها، مثل التراجع عن معاقبة نظام الأسد بعد استخدامه للأسلحة الكيماوية في آب/أغسطس 2013، أو الضغط أكثر على تركيا لوقف عبور الجهاديين إلى سوريا، كلها ساهمت في تعقيد وإطالة أمد الحرب. وبعد سبع سنوات من بدء النزاع تجد الولايات المتحدة نفسها في سوريا وهي تراقب حليفيها: الأكراد والأتراك في حالة اقتتال، وأحدهما، تركيا، وهي حليفة رسمية للولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ترفض قرار واشنطن إبقاء قوات برية لا يزيد عددها عن ألفي عنصر، معترضة بشدة على التدريب العسكري الأمريكي لأكراد سوريا الذين تنظر إليهم تركيا على أنهم امتداد “إرهابي” لحزب العمال الكردستاني في تركيا، المصنف في قوائم الإرهاب في أنقرة وواشنطن والاتحاد الأوروبي. كما أن التطورات الميدانية قد تتطور بشكل لم يكن ممكنا تصوره في السابق، أي حدوث اشتباكات بين عناصر من الجيش التركي وقوات أمريكية مرابطة في مدينة منبج التي تهدد تركيا باجتياحها بعد هجومها ضد مدينة عفرين الكردية.
المشهد الميداني السوري بات معقدا بصورة لم يتوقعها أي طرف عندما بدأت الإنتفاضة الشعبية ضد طغيان نظام الأسد في 2011. الأجواء السورية مثلا تملكها طائرات أجنبية تابعة لأسلحة طيران أمريكا وروسيا وتركيا وإسرائيل، وتتقاسمها وتحلق فيها. وتواصل واشنطن وحلفاؤها في قوات سوريا الديمقراطية مطاردة فلول عناصر “الدولة الإسلامية”، شرق نهر الفرات. فيما يواصل جيش النظام السوري قصفه لمواقع الثوار القريبة من دمشق، مدعوما من حلفائه، ومن بينهم إيران والميليشيات الشيعية، ويتحرك ضد محافظة إدلب التي لا تزال خارج سيطرته، بينما يواصل الجيش التركي اجتياحه للاراضي السورية، مدعوما من عناصر تابعة للجيش السوري الحر. حرب أهلية يشنها النظام ضد شعبه، وحروب بالوكالة وحرب بين فصائل المعارضة المسلحة. تردد أوباما في سوريا، شجع إيران على التدخل عسكريا مباشرة وعبر ميليشيات شيعية أسستها هي أو مولتها في صيف 2013 حين أنقذت نظام الأسد وأبقته على قيد الحياة. وعندما عجز نظام الأسد وحلفاؤه الإيرانيين في استعادة السيطرة على مدينة حلب، قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أيلول/سبتمبر 2015 إرسال قوات جوية وأسراب من القاذفات والطائرات المقاتلة المنتشرة في قاعدة حميميم التي تديرها روسيا. هذا إضافة لعناصر من القوات الخاصة لحراسة القاعدة.
آنذاك أدّعت إدارة أوباما أن روسيا ستواجه في سوريا أفغانستان أخرى. وبينما كانت إدارة أوباما تقدم المساعدات العسكرية والمادية المحدودة للمعارضة بهدف إرغام نظام الأسد على التفاوض، ولكن قطعا ليس لتحقيق انتصار عسكري للإطاحة بالنظام، كان أصدقاء الأسد من روس وإيرانيين جديين في السعي لخيار عسكري. الحملة الجوية الدولية ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” والمدعومة بريا من قوات سوريا الديمقراطية، سهلت على النظام مواصلة حربه ضد فصائل المعارضة الأخرى التي كانت تدعمها واشنطن. من جهته، عزز التدخل العسكري الروسي ميدانيا من وضع نظام الأسد، وجعل روسيا الطرف الدولي الرئيسي هناك سياسيا وميدانيا. وبينما كانت المحاولات الدبلوماسية لحل الحرب في سوريا خلال عهد الرئيس أوباما تتركز على “عملية جنيف”، نجحت روسيا في جعل سوتشي وأستانة بديلا لجنيف. أهمية روسيا العسكرية في سوريا بدت واضحة بشكل صارخ حين أوفد الرئيس رجب طيب أردوغان مسؤولين أتراك إلى موسكو للحصول على مباركة روسيا أو قبولها الضمني بالإجتياح التركي لعفرين ومحيطها، خاصة وأن سلاح الجو الروسي يملك الأجواء فوق عفرين ومحيطها. إصرار إدارة الرئيس أوباما على تركيز اهتماماتها وجهودها في سوريا على محاربة تنظيم الدولة الإسلامية على حساب الاعتبارات الأخرى، وهي السياسة التي اعتمدتها إدارة الرئيس ترامب، أضر بمصالح الولايات المتحدة في سوريا وقلص من قدرتها في التأثير على مواقف الأطراف الأخرى.
قرار إدارة الرئيس ترامب، إبقاء قوات برية محدودة شرق الفرات دون تحديد فترة زمنية لهذا الوجود، فهمته تركيا وإيران وروسيا ونظام الأسد، على أنه تهديد لها. ولكن المعارضة التركية كانت الأقوى، لأن أنقرة ترى في أي محاولة أمريكية لمساعدة الأكراد على بسط سيطرتهم على الحدود الشمالية لسوريا هي خطر مباشر ضدها تعتبره أنقرة خطرا وجوديا. وترى أنقرة أن نجاح أكراد سوريا في إقامة منطقة حكم ذاتي تضم جميع المناطق الكردية في شمال سوريا، سوف يشجع أكراد تركيا على طرح مطالب مماثلة. وهناك خوف تركي عميق من أن الأكراد يريدون منفذا على المتوسط يربط الأمة الكردية للمرة الأولى مباشرة بالعالم الخارجي وينهي عزلة كردستان البرية حيث تحيط بها دول لا تريد قيام دولة كردية موحدة.
الرسائل الأمريكية المتناقضة
وعلى الرغم من الاستياء الأمريكي والأوروبي من انحسار الديمقراطية ومؤسساتها في تركيا وبروز أردوغان كحاكم متسلط يهدد الإنجازات الديمقراطية ويقوضها، تلك التي حققتها تركيا خلال ربع القرن الماضي، إلا أن “المجتمع الدولي” كما يبدو قد أبدى “تفهمه” للمخاوف الأمنية التركية في سوريا، وإن أعرب الأمريكيون والأوروبيون عن تحفظاتهم وتمنياتهم بأن يكون الاجتياح التركي محدودا جغرافيا وزمنيا، وكأنهم يقرأون “النوتة” الموسيقية ذاتها. الغضب التركي من تسليح واشنطن لأكراد سوريا كان معروفا، وازداد حين أعلنت وزارة الدفاع مؤخرا عن عزمها تدريب 30 ألف عنصر لنشرهم على الحدود التركية-السورية. اللافت هو أن قرار إدارة ترامب ابقاء قوات لها في سوريا إلى أجل مفتوح، وتدريب قوة عسكرية جديدة، بغض النظر عن جدوى هاتين الخطوتين، لم يحظيا بأي نقاش جدي في الكونغرس، وحتى بين الأجهزة الحكومية المختلفة. كما أن الولايات المتحدة، التي لا يوجد لديها الآن سفيرا معتمدا في أنقرة، لم تناقش مسبقا مع تركيا هذه الخطوات الهامة، الأمر الذي عمّق من مخاوف وهواجس الرئيس أردوغان وسهل عليه تبرير التدخل العسكري.
في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، قال الرئيس ترامب لنظيره التركي خلال مكالمة هاتفية إن الولايات المتحدة تنوي التوقف عن تزويد قوات الحماية الكردية السورية بالأسلحة. ولكن وزارة الدفاع الأمريكية التي فوجئت بإعلان ترامب، سارعت إلى “توضيح” الأمر والقول إنها تراجع “تعديل” هذه السياسة ولكنها لم تقل إنها ستوقف تسليح الأكراد. وفي مطلع الشهر الجاري، فاجأت وزارة الدفاع الأمريكية المسؤولين في البيت الأبيض بأنها تعتزم تشكيل قوة جديدة من 30 ألف عنصر، معظمهم من الأكراد، للقيام بمهام أمنية على الحدود مع تركيا والعراق. (المسؤولون الأمريكيون يقولون إن انسحاب القوات الأمريكية من سوريا يعني أن أمريكا قد خسرت كل شيء في سوريا، وأن روسيا وإيران وتركيا سوف يقررون مستقبل سوريا). وعندما هدد الرئيس أردوغان بأنه “سيخنق” هذه القوة حتى قبل ولادتها، سارع وزير الخارجية ريكس تيلرسون لاحتواء الأزمة الجديدة مع تركيا، مدعيا أنه حدث خطأ في صيغة الإعلان عن الخبر، وأن واشنطن لا تسعى لإنشاء قوة لحراسة الحدود. هذا التخبط دعا بعض المراقبين للتساؤل حول أسباب إخفاق واشنطن في شرح خططها في سوريا لتركيا، لضمان عدم حدوث توتر إضافي في العلاقات الثنائية. وأعلن وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس فور الإجتياح التركي لمدينة عفرين، أن أنقرة أبلغت الولايات المتحدة أنها ستقوم بالإجتياح. ولكن إعلان الولايات المتحدة تفهمها للمخاوف التركية المشروعة في سوريا، ليس كافيا لرأب الصدع الجديد الذي تعرضت له العلاقات الثنائية، خاصة وأن واشنطن ستواصل تسليح وتدريب الأكراد، واعلان واشنطن أن الهدف من تدريب هذه القوات هو ضمان عدم عودة عناصر “الدولة الإسلامية” إلى المنطقة التي طردوا منها، لن يُقنع أحدا في تركيا.
الرسائل الأمريكية المتناقضة ليست منحصرة بالنزاع في سوريا فقط، بل تشمل نزاعات وخلافات إقليمية أخرى من أبرزها الخلاف بين قطر من جهة والسعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر من جهة أخرى. في بداية النزاع في الصيف الماضي، وقف الرئيس ترامب وبقوة إلى جانب السعودية والإمارات، ووجه انتقادا قويا لقطر متهما إياها “وعلى أعلى المستويات” بتمويل الإرهابيين. ولكن مواقف وزيري الخارجية تيلرسون والدفاع ماتيس كانت مختلفة، حيث عكس تيلرسون موقفا متعاطفا أكثر مع قطر، بينما اعتمد ماتيس موقفا حياديا أكثر، وكان يقول لمن يسأله عن النزاع بين دول الخليج، إن اهتمامه الأساسي هو عدم المساس بعمليات قاعدة العديد الجوية الضخمة في قطر والتي ينتشر فيها أكثر من 10 الآف عسكري أمريكي وتقوم بالدور الرئيسي في الحرب الجوية التي تشنها الولايات المتحدة ضد التنظيمات الإرهابية الناشطة في الشرق الأوسط.
وتبين أزمة قطر، والنزاع في سوريا، وأزمة الصيف الماضي في العراق، أن عدم وجود ديبلوماسية أمريكية واضحة ووقائية، هو من بين الأسباب التي أدت إلى تفاقم هذه الأزمات. ولو كان هناك سياسة أمريكية ثابتة وواضحة في سوريا منذ بداية الأزمة لما كان الوضع قد وصل إلى ما وصل إليه. ولو لعبت واشنطن دورا دبلوماسيا أقوى لربما كان بالإمكان تفادي الأزمة بين أكراد العراق والحكومة المركزية في بغداد. ولو قامت الولايات المتحدة بدور الوسيط المحايد لحل أزمة قطر وجيرانها لما كانت العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي قد وصلت إلى مرحلة القطيعة الشاملة. وعلى الرغم من أخطاء السياسة الأمريكية في المنطقة خلال ربع القرن الماضي، وخاصة غزو العراق، والتخبط في سوريا، وعدم وجود سياسة أمريكية ثابتة ومنصفة تجاه النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، فضلا عن غياب الدبلوماسية الأمريكية الفعالة، يؤدي عادة إلى قيام أطراف محلية أو خارجية إلى محاولة ملء الفراغ الأمريكي، ما يؤدي عادة إلى تأزيم الأوضاع أكثر وإطالة معاناة شعوب المنطقة.