ما كاد يمر على الرئيس جوزيف بايدن شهران في منصبه حتى سمحت إدارته للذكرى السنوية العاشرة للصراع السوري بالمرور بشكل هادئ نسبيًا، فقط من خلال انضمام وزير الخارجية أنتوني بلينكن لبيان مع نظرائه البريطاني والفرنسي والألماني والإيطالي. ولم يتم تعيين مبعوث لسوريا ليحل محل السفير جيمس جيفري، وحتى وقت قريب تجنبت إدارة بايدن أي تصريحات علنية بشأن سوريا. في أواخر شهر مارس/آذار، أدلى بلينكن بتصريحات علنية في مجلس الأمن، لكنها ركزت على الوضع الإنساني، وضرورة أن يستعيد مجلس الأمن سلطته على المعابر الحدودية في شمال غرب وشمال شرق سوريا للحصول على مساعدة الأمم المتحدة. باستثناء انتقاد نظام الرئيس السوري بشار الأسد لاستهدافه المستشفيات والإمدادات الإنسانية، لم يقدم سوى القليل من الإشارات المحددة فيما يخص النوايا السياسية الأوسع تجاه سوريا. ومن المثير للاهتمام، أن بلينكن كان قد أشار خلال حملة بايدن الرئاسية للنفوذ الذي تتمتع به الولايات المتحدة في سوريا، مسلطًا الضوء على الوجود العسكري في شمال شرق سوريا، وقدرة الحكومة الأمريكية الفريدة على حشد الآخرين “في الوقت المناسب” لإعادة إعمار سوريا.
من الممكن تفهم ضبط النفس بشكل عام نظرًا لأن الإدارة يبدو أنها ما تزال تحاول أن تتحرى الطريق التي ينبغي على الولايات المتحدة أن تسلكه في سياستها المستقبلية تجاه سوريا. سيحتاج فريق بايدن أن يدرس بعناية أهداف السياسة التي اتبعتها الولايات المتحدة على مدار السنوات العديدة الماضية، وتقييم نقاط النفوذ الأمريكية، والبحث عن أفضل السبل التي يمكن أن تعمل بها مع حلفائها.
كانت السياسة الأمريكية تجاه سوريا خلال إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب تسعى لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)؛ والتوصل لحل سياسي للصراع السوري؛ ومنع نظام الأسد من استخدام الأسلحة الكيميائية؛ وإرغام القوات الإيرانية ووكلائها على مغادرة سوريا. وحقق التحالف، الذي تقوده الولايات المتحدة، تقدمًا كبيرًا في الحرب ضد داعش في سوريا، حيث كبد الجماعة سلسلة من الانتكاسات العسكرية الكارثية لمراكز القيادة والتحكم وقاداتها وقدرتها على شن أي هجوم عدا عن الهجمات المحلية العرضية إذا سنحت الفرصة. كان النجاح في منع استخدام الأسلحة الكيميائية بمثابة تشكيلة متفرقة، لكن يبدو أن التحذيرات الأمريكية والعمل العسكري كان لهما تأثير كبير على حسابات نظام الأسد في هذا الصدد. لم يتحقق النجاح، أو تحقق القليل منه، في السعي للتوصل إلى حل سياسي لسوريا، ما عدا بعض التطورات محدودة التأثير في عملية التطور التي يشرف عليها المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا جير بيدرسون، ولم يتم إحراز أي تقدم في إخراج القوات الإيرانية.
سعت الولايات المتحدة لتحقيق هذه الأهداف من خلال العديد من نقاط النفوذ: وجود عسكري أمريكي صغير في شمال شرق سوريا، يتركز على محاربة تنظيم داعش؛ وقيادة تحالف دولي مكون من 83 عضوًا ضد التنظيم، والذي خدم أهدافًا أخرى في سوريا؛ وممارسة عدة مستويات من العقوبات الاقتصادية، التي تستهدف شخصيات وهيئات النظام السوري؛ والدبلوماسية التي تنتهجها الولايات المتحدة في الأمم المتحدة مع الدول الرئيسية. كما استخدمت الولايات المتحدة بعضاً من نفوذها للعرقلة، حيث أوقفت، أو أبطأت، تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع نظام الأسد، ومن خلال عقوباتها الاقتصادية، منعت تدفق مساعدات إعادة الإعمار التي يحتاجها النظام السوري بشدة.
يبدو أن السياسة الأمريكية الحالية ستستمر، على الأقل على المدى القصير والمتوسط، وهو ما يمنح فريق بايدن الوقت الكافي لدراسة مقاربته في سوريا وتنفيذه. إن الوجود العسكري الأمريكي صغير جدًا -حيث يتراوح ما بين 500 إلى 1000 جندي، وفقًا للإحصائيات العامة- الأمر الذي من شأنه أن يسهل نسبيًا الدعم اللوجستي وتبريره على الصعيد السياسي. وتستمر هذه القوة في المشاركة بشكل فعال مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المحلية، ذات الإمكانيات العالية، حتى تحافظ على قوة الضغوط لمكافحة إرهاب خلايا تنظيم داعش النائمة. يعمل الوجود الأمريكي على ردع الأطراف، التي يمكن أن تتدخل، ويمنح قوات قسد ساحة العمليات، التي تحتاجها للسيطرة على ثلث الأراضي السورية، والتي تشمل مناطق النفط الاستراتيجي والموارد الكهرومائية، بالإضافة لمنطقة زراعية غنية، وهي الأصول الرئيسية التي يستميت نظام الأسد من أجل استعادتها.
اتخذت قوات قسد خطوات إضافية لتحقيق استقرار الوضع في مناطق الشمال الشرقي، الأمر الذي ساعد في منح فريق بايدن متسعًا من الوقت لاتخاذ القرار بشأن سياسته. اعتقلت قوات قسد حوالي 10 آلاف من مقاتلي تنظيم داعش الذين استسلموا في ساحة المعركة، وعملت هذه القوات مع منظمات غير حكومية دولية ومحلية لتأمين الغذاء والخدمات الطبية لما يقارب الـ 60 ألف شخص من أفراد أُسر هؤلاء المقاتلين المعتقلين أو غيرهم ممن قُتلوا في المعركة. أنشأت قوات قسد، بالتعاون مع المنظمات المدنية التابعة لها، عشرات المجالس المدنية في شمال شرق سوريا لضمان الإدارة المحلية وتوفير الخدمات الأساسية، والعمل بجدية مع المنظمات غير الحكومية التي تمولها الولايات المتحدة وغيرها من دول التحالف، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. هنالك شكاوى بشأن بعض الإجراءات الأمنية لقوات قسد، ولكن على الرغم من هذه العيوب، فقد حافظت إجراءات الأمن والحوكمة المحلية، التي وفرتها قوات قسد على استقرار المنطقة الشمالية الشرقية منذ سقوط تنظيم داعش.
تواصل الولايات المتحدة، في هذه الأثناء، دعم جهود المبعوث الخاص للأمم المتحدة لسوريا. فقد دعا بيدرسون اللجنة الدستورية للانعقاد خمس مرات في جنيف على مدار العامين الماضيين، كما التقى مرارًا وتكرارًا مع مسؤولين من الدول الرئيسية، والنظام السوري، سعيًا للتوصل لحل سياسي في سوريا- دون نجاح يذكر. وفي آخر تصريحاته المعلنة، أشار بيدرسون لوجود فرصة سانحة لحل الأزمة السورية، لكنه حذر من أنها تستدعي تحقيق مطالب حقيقية ودقيقة من قبل أصحاب المصلحة الرئيسيين لتعزيز ما وصفه بالهدوء الهش في سوريا، منذ وقف إطلاق النار عام 2020 في الشمال الغربي.
أثناء قيام فريق بايدن بإعادة تقييم سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا، التي ورثها من سلفه، عليه أن يقرر ما إذا كانت الولايات المتحدة لديها النفوذ اللازم لتحقيق الأهداف التي حددها صناع السياسة في السابق أم لا. يصر المشككون في السياسة على أن الولايات المتحدة تفتقر إلى مثل هذا النفوذ، وتحتاج إلى نهج جديد، ويحتج هؤلاء بأن العقوبات الاقتصادية لم تحقق سوى مكاسب وهمية في طريق التوصل لحل سياسي، ولكنها تسببت في معاناة حقيقية واسعة النطاق للشعب السوري. ويصر المؤيدون، بمن فيهم كبار المسؤولين الأمريكيين السابقين، على أن العقوبات والعزلة تعمل بشكل فعال، ولكنها في حاجة لمزيد من الوقت لإحداث تأثير حاسم.
في هذه الأثناء، وكما قال بيدرسون، فإن الشعب السوري “من بين أكبر ضحايا” هذا القرن، ويشعر أنه عالق في صراع لا نهاية له. حتى ومع احتمال أن تكون إدارة بايدن، بالنظر لمقاربتها في العلاقات الخارجية حتى الآن، متحمسة لاتباع سياسة تتجنب فيها الإشارة للتنازل عن مسألة تحميل نظام الأسد مسئولية جرائم الحرب الجسيمة التي ارتكبها، ستشعر الإدارة أيضًا بضرورة مزيد من الاهتمام الجاد للكارثة الإنسانية في سوريا. سوريا في عام 2019، وقبل الانهيار الاقتصادي لعام 2020، الذي أدى لتدهور الأوضاع بشكل كبير، كان ما يقدر بنحو 40٪ من السوريين يعيشون في فقر مدقع، وفقًا لإحصائيات اللجنة الاقتصادية لغربي آسيا (الإسكوا) التابعة للأمم المتحدة، وإحصائيات جامعة سانت أندروز (مقابل أقل من 1٪ في عام 2010)، ويقدر برنامج الغذاء العالمي أن 12.4 مليون شخص يعانون حاليًا من انعدام الأمن الغذائي (مقابل 6.5 مليون في عام 2020)، وذلك على الرغم من مليارات الدولارات، التي يتم التعهد بها كمساعدات إنسانية سنوية لسوريا. إن الأمر الأساسي في هذا الصدد ليس توفير المساعدة الإنسانية، بل هو، وعلى القدر نفسه من الأهمية، إجراء تقييم حقيقي حول التكاليف الإنسانية وآفاق النجاح في ظل سياسة تعتمد بشكل كبير على تطبيق العقوبات الاقتصادية على المدى البعيد.
في الوقت الذي تعمل فيه الإدارة الأمريكية على دراسة خياراتها، فإنها ستحتاج كذلك إلى التفكير مليًا في حجم الدعم الذي يمكنها بنائه في المنطقة. يشير الحلفاء الرئيسيون في المنطقة أحيانًا إلى الحاجة لنهج جديد تجاه سوريا، في حين يتقدمون بحذر شديد، لتفادي التعارض مع التصريحات المتشددة المناهضة للأسد، والصادرة عن كبار المسؤولين الأمريكيين في الإدارة السابقة أو مع القيود التي يفرضها قانون قيصر، الذي أقره الكونجرس لحماية المدنيين في سوريا، والذي دخل حيز التنفيذ في عام 2020. وتعد سلسلة المقاربات، التي اعتمدها حلفاء الولايات المتحدة من الخليج العربي، أحد المقاييس الجيدة لتقييم دعم سياسة الولايات المتحدة في سوريا.
شعرت دول الخليج العربية، بدجات متفاوتة، بالقلق من تدخل إيران ونفوذها في سوريا، وكانت بعض هذه الدول، مثل الإمارات، قلقة أيضًا من التدخل التركي. في السنوات الأولى من الصراع، كانت دول الخليج تدين عنف الأسد، وتحث على تغيير النظام ودعم مختلف الجماعات المتمردة. ولكن مع استعادة الأسد للسيطرة على أجزاء كبيرة من البلاد، بمساعدة روسية وإيرانية، وتوجيه ضربات حاسمة للمعارضة المسلحة، أخذت السياسات بالتطور.
كانت بعض الدول الخليجية تتجه نحو تطبيع العلاقات مع النظام السوري. ففي أواخر عام 2018، أعادت الإمارات فتح سفارتها في دمشق، وبعد بضعة أيام أصدرت البحرين بيانًا أوضحت فيه أن سفارتها مفتوحة وتقوم بأعمالها كالمعتاد، وتدار السفارتان على مستوى القائم بالأعمال. في آذار/ مارس 2020، ناقش ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان والأسد جائحة فيروس كورونا عبر الهاتف، وهو أول اتصال مباشر لزعيم عربي بالرئيس السوري. وانضمت مؤخرًا الإمارات إلى مصر في آذار/ مارس في الدعوة إلى عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، بعد عشر سنوات من تعليق عضويتها.
تشكلت وجهة النظر العُمانية بشأن سوريا بناءًا على السياسة التي تنتهجها منذ أمد بعيد، والمتمثلة في عدم التدخل في الشؤون الإقليمية. لم تغلق سفارتها في دمشق مطلقًا، وكانت أول دولة خليجية عربية تعيد سفيرها إلى دمشق في أواخر عام 2020. وأبقت على العلاقات الدبلوماسية رفيعة المستوى نشطة طوال الصراع، حيث أرسلت وزير خارجيتها إلى دمشق لمقابلة الأسد مرتين، واستضافت زيارتين مماثلتين، كانت آخرها في شهر مارس/آذار.
كانت قطر أول دولة عربية خليجية تغلق سفارتها في دمشق عام 2011، واحتضنت بعد ذلك مجموعات مختلفة من قوى المعارضة، مقدمةً لها الدعم العسكري والمالي. وقدمت قطر، في الآونة الأخيرة، الدعم للجهود التركية في سوريا، وقلصت من دعمها العسكري للمتمردين، وترى أن المحادثات القطرية التركية الروسية هى الطريق إلى الأمام. وتواصل قطر، مثلها في ذلك مثل تركيا والسعودية، دعم مختلف شرائح المعارضة السياسية السورية.
تبنت الكويت وجهة النظر التي تقوم على الانتظار والترقب بشأن إعادة التواصل مع الأسد، وأشار مسؤولون كبار إلى أنها ستنتظر الضوء الأخضر من جامعة الدول العربية لإعادة فتح سفارتها في دمشق.
سوف يكون لحلفاء الولايات المتحدة من دول الخليج العربية دور حاسم، في الوقت المناسب، في المساعدة في تمويل عملية إعادة إعمار سوريا، التي من المحتمل أن تكون تكاليفها مرتفعة للغاية.
في الوقت الذي يتطلع فيه فريق بايدن إلى إعادة تنظيم السياسة التي ورثها تجاه سوريا، فإنه سيحتاج إلى تقييم نفوذه أثناء محاولته صياغة أهداف قابلة للتحقيق. إذا كان الفريق يفكر في شكل ما من الإبقاء على المسار نفسه – وعلى فرض أن لديه النفوذ اللازم – فسوف تحتاج الإدارة كذلك لأن تأخذ في حسبانها الدعم الذي لا ريب أنه أصبح فاترًا من دول الخليج العربية (وعواصم عربية أخرى) لهذا النهج. يبدو أن قادة الخليج قد أُرهقوا من عشر سنوات من التعامل مع الصراع، ومن المرجح في تقديرهم أن الأسد سيحافظ على بقائه لسنوات قادمة. إنهم يرون في سوريا خطرًا محتملًا إذا لم يتمكن الأسد من إعادة فرض سيطرته على الدولة الفاشلة، كما ينظرون إلى الأسد كتهديد إذا تمكن من إعادة تشكيل سلطته دون دعمهم. سيكون قادة الخليج، في أحسن الأحوال، داعمين مترددين لسياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا، التي ستضاعف من نهج الإدارة السابقة. وهذا لا يعني أنه لا يمكن اتباع مثل هذا النهج: فمن خلال اتباع الدبلوماسية القوية، المدعومة بتأثير العقوبات الأمريكية القسرية، والمقترنة بوجود الدول الأوروبية الرئيسية، التي دعمت سياسات إدارة ترامب بشأن سوريا، يمكن للفريق الجديد المضي قدمًا من خلال الاسترشاد بالسياسة السابقة كدليل. لكن نهج السياسة الواقعية لقادة الخليج (وغيرهم من القادة العرب) يسلط الضوء على صعوبة أخرى في صياغة سياسة قابلة للتطبيق بشأن سوريا يكون من شأنها أن تعكس التوازن الصحيح لمصالح الولايات المتحدة وقيمها.