على مدار الشهر الماضي، نفذت الولايات المتحدة، ومعها في بعض الأحيان بريطانيا، سلسلة متواصلة من الضربات ضد أهداف الحوثيين في اليمن. هذه الضربات لها هدفان؛ أولاً، تريد الولايات المتحدة ردع الحوثيين عن تنفيذ هجمات مستقبلية على حركة الشحن التجارية في البحر الأحمر. ثانيًا، وفي سياقٍ متصل، تسعى الولايات المتحدة لإرغام الحوثيين على وقف هجماتهم من خلال إلحاق أضرار كبيرة بالجماعة – من أجل إضعاف القدرة العسكرية للحوثيين لدرجة تجعلهم غير راغبين في، أو غير قادرين على، تنفيذ المزيد من الهجمات في البحر الأحمر.
وكما قال مؤخرًا تيموثي ليندركينج (Timothy Lenderking)، المبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى اليمن، لدى الجماعة خيار بسيط: “إما أن يستمر الحوثيون في هذه الأفعال أو أن يتوقفوا ونعود إلى السلام.”
ولكن ليس من المستغرب أن الحوثيين لا ينظرون إلى الصراع بالطريقة ذاتها. وبدلاً من اعتباره مواجهة منفصلة مع الولايات المتحدة بدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2023، يرى الحوثيون الهجمات في البحر الأحمر باعتبارها جزءًا من مشروع سياسي أوسع يعود إلى عقود خلت. وهذا يعني استبعاد نجاح نهج الولايات المتحدة الحالي المتمثل في الردع وتقليص القدرات.
أولاً، لن يرتدع الحوثيون لأنهم يريدون هذه المواجهة مع الولايات المتحدة. الحرب مفيدة للحوثيين لأسباب إقليمية وداخلية. على الصعيد الإقليمي، فإن هذا الصراع يسمح للحوثيين بتلميع صورتهم كمؤيدين للفلسطينيين، وهذا بدوره يعزز شعبيتهم المحلية. وبالمثل، يعمل الحوثيون على إظهار أهميتهم لإيران عبر التصعيد ضد الولايات المتحدة بأسلوب يمنح إيران القدرة على إنكار قابل للتصديق فيما يخص علاقتها بهجمات الحوثيين، مما يحصنها ضد أي ضربات انتقامية.
وعلى الصعيد الداخلي، يمتلك الحوثيون سببًا سياسيًا واقتصاديًا لمواصلة هذه الحرب مع الولايات المتحدة؛ فمن الناحية السياسية، يمكن للحوثيين استخدام هذا الصراع لتعزيز قاعدة الدعم المحلي لهم بثلاث طرق؛ أولاً، كما ذكرنا أعلاه، تحظى القضية الفلسطينية بشعبية كبيرة في اليمن، ومن خلال ربط أنفسهم بما يحدث في غزة، يكتسب الحوثيون المزيد من المؤيدين. ثانيًا، يسمح الصراع مع الولايات المتحدة للحوثيين بإسكات الانتقادات الداخلية المتزايدة من جانب خصومهم السياسيين المحليين؛ لا تريد أي جماعة محلية أن تظهر وكأنها تعارض الحوثيين عندما يقاتلون، ظاهريًا، نيابة عن الفلسطينيين ضد الولايات المتحدة. ثالثًا، من خلال الانخراط في صراع عنيف مع الولايات المتحدة، يمكن للحوثيين الاستفادة من تأثير التوحد خلف الراية الوطنية، وتصوير أنفسهم كمدافعين عن اليمن، وهي خطوة استغلتها الجماعة لصالحها خلال السنوات الأولى من الحرب التي قادتها السعودية على اليمن.
ولعل الحسابات الأكثر أهمية لدى الحوثيين تتمثل في الزاوية الاقتصادية. يسيطر الحوثيون على جزء كبير من مرتفعات اليمن الشمالية التي تضم غالبية سكان اليمن. لكن الحوثيين يفتقرون لقاعدة اقتصادية تسمح لهم بالحكم لسنوات قادمة. يمتلك اليمن، بشكل أساسي، موردين طبيعيين رئيسيين للتصدير يتمثلان في النفط والغاز؛ وتتركز حقول النفط والغاز هذه في مأرب وشبوة وحضرموت – “مثلث الطاقة” اليمني – ولا يسيطر الحوثيون على أيٍ منها.
يحاول الحوثيون الاستيلاء على مأرب منذ سنوات، ويتم صدهم في كل مرة بتعاون بين القوة الجوية السعودية والمقاومة القبلية المحلية. أحد أسباب إصرار الحوثيين على الاستيلاء على مأرب هو أن الجماعة تدرك أنها إذا فشلت في الاستيلاء على واحدة من هذه المحافظات على الأقل، أو اثنتين على الأرجح، فإنها لن تتمكن من الاستمرار كقوة مسيطرة في اليمن. لا يستطيع الحوثيون أن يحكموا دون قاعدة اقتصادية داعمة. وبما أن الحرب السعودية-الحوثية قد أوشكت أن تضع أوزارها مع عدم سيطرة الحوثيين على مأرب حتى الآن، فإن الجماعة بحاجة إلى صراع آخر لتحقيق أهدافها الاقتصادية. ويراهن الحوثيون على أنه من خلال توسيع الصراع في اليمن، وهذه المرة ضد الولايات المتحدة، يمكنهم في نهاية المطاف الاستيلاء على مأرب أو شبوة، أو كليهما.
لا يمكن ردع الحوثيين عن الصراع مع الولايات المتحدة لأنهم يرون الصراع مع الولايات المتحدة يصب في مصلحتهم. كما يشكل الحوثيون جماعة يصعب تركيعها لدرجة تجعلها عاجزة عن مهاجمة السفن التجارية في البحر الأحمر على أقل تقدير. يُعزى جزء من هذا الأمر إلى تاريخ الجماعة، ويتمثل الجزء الآخر في الدعم الذي تقدمه إيران التي استفادت إلى حد ما من استثمار بسيط في الحوثيين لزيادة نفوذها في الشرق الأوسط.
لقد أمضى الحوثيون فترة طويلة من العقدين الماضيين في حالة حرب. ومن نواحٍ عِدة، تعتبر الجماعة القتال مع الولايات المتحدة مجرد نسخة حديثة من صراع دائم التطور. في الفترة ما بين عامي 2004 و2010، خاض الحوثيون سلسلة من ست حروب متتالية ضد الحكومة اليمنية. وفي عدة مناسبات، ظهر وكأن القضاء على الحوثيين أصبح أمرًا وشيكًا، لكنهم ينهضون في كل مرة ويعودون أقوى من ذي قبل. منذ عام 2014، انخرط الحوثيون في حرب دموية وضروس ضد السعودية والإمارات. وكما هو الحال مع الولايات المتحدة، تتمتع السعودية والإمارات بالتفوق الجوي، حيث كان يُعتقد أن هذا التفوق سيرغم الحوثيين على التقهقر مرة أخرى والعودة إلى الجبال. لكن الحوثيين صمدوا أمام حملة قصف استمرت سنوات، وتعلموا العديد من الدروس في هذه العملية. أولاً، تعلموا ضرورة أن يكونوا متنقلين ومتفرقين، وأن ينشروا العتاد العسكري في جميع المناطق الشمالية، وأن يضعوا الكثير منها في المناطق المدنية. ثانيًا، تعلم الحوثيون كيفية الارتجال، والتصرف بما هو متوفر في متناول أيديهم، وما يمكنهم استخدامه من المخزون، وما يمكن أن تقدمه إيران، لإيجاد مزيج معقد من الأسلحة التي يمكن أن تشكل تحديًا للجيوش الأكثر تقدمًا. واستمرت إيران في إمداد الحوثيين بالأسلحة في السنوات الأخيرة، ما مكنهم من الوصول إلى التكنولوجيا التي ما كانوا ليحصلوا عليها بأي وسيلة أخرى. إذا عجزت الولايات المتحدة عن وقف تدفق الأسلحة الإيرانية إلى اليمن – وهو ما حاول المجتمع الدولي القيام به طوال العقد الماضي وفشل – فلن تتمكن من إركاع الحوثيين لدرجة تمنعهم من تهديد حركة الشحن في البحر الأحمر.
من وجهة نظر الحوثيين، فإن الجماعة لم تُهزم تاريخيًا. فقد هزمت الحكومة اليمنية في عام 2010، واستولت على صنعاء في عام 2014، وانتصرت في الحرب الداخلية. ثم صمدت أمام السعودية والإمارات في حرب إقليمية استمرت عقدًا من الزمن. وتنخرط الآن في صراع دولي مفتوح مع الولايات المتحدة.
وعلى غرار حربهم مع السعودية والإمارات، لا يتعين على الحوثيين أن يهزموا الولايات المتحدة لكي يعلنوا انتصارهم. وبدلاً من ذلك، فإن كل ما يحتاج الحوثيون للقيام به هو مواصلة إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة على السفن التجارية في البحر الأحمر، وقد أثبتوا أنهم أقدر على القيام بذلك في المستقبل المنظور.