في اجتماع استثماري عُقد في مدينة ميامي في فبراير/شباط، شدد محافظ صندوق الاستثمارات العامة السعودي، ياسر الرميان، على طموحات المملكة في أن تصبح قوة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي. وأشار الرميان إلى أن بلاده “في وضع جيد يسمح لها أن تصبح مركزًا للذكاء الاصطناعي خارج الولايات المتحدة”، مستشهدًا بموارد الطاقة الوفيرة والإرادة السياسية باعتبارها من أهم شروط تطوير الذكاء الاصطناعي. وإلى جانب هذه الشروط التمكينية، تلعب صناديق الثروة السيادية الخليجية نفسها مع الشركات التابعة لها دورًا حازمًا بشكل متزايد في تطوير الذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات المتقدمة ونشرها. ويشير مراسلو التكنولوجيا في صحيفة نيويورك تايمز إلى أن طموحات الحكومة السعودية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي لديها “من الإمكانات ما يؤهلها لإنشاء مركز قوة جديد في صناعة التكنولوجيا العالمية”. وفي غضون ذلك، قام الإماراتيون بتوسيع مجموعة جروب 42 (G42)، وهي شركة تكنولوجيا قابضة تتخذ من أبوظبي مقرًا لها ومدعومة من شركة مبادلة، منذ إنشائها في عام 2018.
لم تقتصر هذه الجهود على جذب الاهتمام العالمي فحسب، بل أصبحت تؤتي ثمارها في بعض الحالات. في 15 أبريل/نيسان، أعلنت مايكروسوفت عن استثمار استراتيجي بقيمة 1.5 مليار دولار في G42 للحصول على حصة أقلية، وانضمام رئيس مايكروسوفت براد سميث ونائبه إلى مجلس إدارة الشركة الإماراتية. في مؤتمر ليب (LEAP) السنوي الذي يتمحور حول التكنولوجيا في السعودية، أعلنت شركة خدمات أمازون ويب (Amazon Web Services) عن خطط لإنفاق 5.3 مليار دولار لإنشاء منطقة جديدة للبنية التحتية في المملكة. تتسابق الدول الخليجية على بناء مراكز بيانات بمساعدة شركات محلية وآسيوية وغربية. إن الرهان التكنولوجي الأخير الذي قام به سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة أوبن إيه آي (OpenAI)، لتعزيز قدرة بناء الرقائق في العالم، والذي قد يتطلب جمع تريليونات الدولارات، قد أدى به للذهاب إلى دولة الإمارات، حيث التقى بمسؤولين ومستثمرين بارزين؛ فمثل هذه الشراكات والمبادرات في مجال التكنولوجيا تتطلب ائتلافات مصرفية كبيرة من رأس المال الاستثماري وآفاقًا استثمارية بعيدة المدى.
ما بعد الرقمنة والأسهم
يعتمد التركيز التكنولوجي المكثف لصناديق الثروة السيادية الخليجية على أسس أعمق. لقد بذلت الحكومات الإقليمية على مدار سنوات عديدة جهودًا متقدمة في مجال الرقمنة، مع التركيز في الآونة الأخيرة على بناء اقتصادات رقمية قوية. لقد تسببت جائحة فيروس كورونا في تسريع الجهود الرامية لدمج التكنولوجيا في عمليات صنع السياسة لتحسين الكفاءة والمرونة. وعلى نحو مشابه، يتحقق المسار التكنولوجي من خلال تداخل الأدوار التي تلعبها صناديق الثروة السيادية في المنطقة لتحقق بذلك عوائد قوية، ودعمًا لجهود التنوع الاقتصادي، و(بالنسبة لبعض الصناديق) إعطاء الأولوية لمبادرات التنمية المحلية أو الاستثمار في أصول دولية لتحقيق فوائد محلية واضحة.
سوف تستمر صناديق الثروة السيادية الخليجية في الاستثمار في الشركات القائمة والشركات الناشئة الواعدة في مجال التكنولوجيا. ومع ذلك، يبدو أن الحكومات الإقليمية التي تشرف على بعض أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم لم تعد راضية ببساطة عن تحقيق عوائد مالية على هامش قطاع التكنولوجيا. تدعم أدوات الثروات المملوكة للدول بشكل متزايد الخطط الطموحة الهادفة لجعل دول الخليج مراكز تكنولوجية عالمية. أصبحت صناديق الثروة السيادية نفسها والشركات التابعة لها جهات فاعلة وحازمة في قطاع التكنولوجيا العالمي. يعد هذا التطور جزءًا من تحول أوسع في كيفية قيام صناديق الثروة السيادية الإقليمية، خاصة في السعودية والإمارات، ويمنح الأولويات للاستثمارات وأماكن استثمار رأس المال. لا يقتصر تأثير النطاق والحجم المتغيرين للمبادرات الاستثمارية التي تركز على التكنولوجيا لصناديق الثروة السيادية فقط على مسارات التنمية المحلية في الخليج، وإنما يمتد تأثيرهما أيضًا إلى الصعيد العالمي.
السعودية والإمارات تأخذان زمام المبادرة
لقد كان صندوق الاستثمارات العامة (PIF) بمثابة المحرك المالي الرئيسي وراء رؤية السعودية 2030، حيث يلعب دورًا حازمًا في التركيز على التكنولوجيا. ويذكر أن الصندوق قد شارك في محادثات مبكرة مع شركة رأس المال الاستثماري أندريسن هورويتز (Andreessen Horowitz) للدخول في شراكة في صندوق تكنولوجي جديد بقيمة 40 مليار دولار– وهي مبادرة تهدف لوضع السعودية في طليعة الاستثمارات في مجال الذكاء الاصطناعي. وفي فبراير/شباط، أطلق ولي العهد الأمير محمد بن سلمان شركة “آلات“، وهي مملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، من أجل تعزيز هدف جعل السعودية مركزًا عالميًا للإلكترونيات والصناعات المتقدمة. وسرعان ما أعلنت الشركة الجديدة عن صفقات مع مجموعة سوفت بانك (SoftBank Group) وشركة داهوا تكنولوجي (Dahua Technology) الصينية لتصنيع معدات المراقبة بغرض المساعدة في إنشاء صناعة تعتمد على الذكاء الاصطناعي في التصنيع. تعرض المشاريع العملاقة المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، مثل نيوم والمربع الجديد، أبعادًا تكنولوجية قوية، حيث ترغب شركة تونومس، وهي أولي الشركات التابع لـ نيوم في “بناء مستقبلٍ يعتمد على التكنولوجيا الإدراكية”.
يشارك صندوق الثروة السيادية السعودي بشكل متزايد في البنية التحتية وسلاسل التوريد اللازمة لدعم القطاعات والصناعات التي تركز على التكنولوجيا. في شهر أبريل/نيسان، وافق صندوق الاستثمارات العامة على شراء حصة بنسبة 51% في شركة أبراج الاتصالات المحدودة من مجموعة stc كجزء من صفقة لإنشاء هيئة اندماجية تعمل كواحدة من أكبر شركات الأبراج في العالم. وصف مسؤول في صندوق الاستثمارات العامة الاتفاقيات بأنها “خطوة كبيرة نحو مستقبل رقمي أكثر ترابطًا”. وفي عام 2023، أنشأ صندوق الاستثمارات العامة وشركة التعدين العربية السعودية شركة منارة للمعادن للاستثمار في الشركات العالمية “التي تقود إنتاج المعادن لمواجهة المستقبل”، مع التركيز على النحاس والليثيوم والنيكل وخام الحديد.
وسوف تفضي أحدث استثمارات ومبادرات صندوق الاستثمارات العامة التي تركز على التكنولوجيا في نهاية المطاف إلى زيادة التزامات التمويل لصندوق سريع التوسع. إن رأس المال المستثمر لصندوق الثروة السيادية السعودي قد تجاوز 30 مليار دولار في عام 2023، وهو ما جعله صندوق الثروة السيادية الأعلى إنفاقًا في العالم في ذلك العام، على الرغم من انخفاض مستويات المبالغ النقدية. من المرجح أن تتم العملية النهائية لتحديد أولويات وتسلسل مبادرات الاستثمار في مجال التكنولوجيا تحت المظلة الموسعة للصندوق– ما يشبه إلى حد كبير الطريقة التي يبدو أن المخططين في نيوم قد اتبعوها في إعادة تقييم الأهداف والمواعيد النهائية لمشروع ذا لاين (The Line).
تمتلك الإمارات شبكة معقدة من صناديق الثروة السيادية والهيئات المرتبطة بالحكومة، والتي تعمل على الارتقاء بالمبادرات الكبرى التي تركز على التكنولوجيا. ويجري الكثير من هذا النشاط في أبوظبي وضمن اختصاصات مستشار الأمن الوطني طحنون بن زايد آل نهيان. وتعد مجموعة G42 لاعبًا رئيسيًا في الميدان التكنولوجي في الإمارات، ويشغل طحنون منصب رئيس مجلس إدارة الشركة. في عام 2022، أطلقت مجموعة G42 صندوقًا للتكنولوجيا بقيمة 10 مليارات دولار بالشراكة مع صندوق أبوظبي للتنمية – أحد فروع شركة ADQ القابضة، وهي صندوق ثروة سيادية إماراتي آخر يتزعمه طحنون.
أنشأ مجلس الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة، الذي أسسه رئيس الإمارات محمد بن زايد آل نهيان في يناير/كانون الثاني، شركة إم جي إكس (MGX) للاستثمار التكنولوجي في مارس/آذار. تهدف إم جي إكس ” لتمكين وتطوير وتوظيف التكنولوجيا الرائدة”، وتعمل كل من مبادلة ومجموعة G42 كشريكين أساسيين للشركة الجديدة. خلال القمة العالمية للحكومات 2024 في دبي، أشار الرئيس التنفيذي والمدير الإداري لشركة مبادلة إلى أن صندوق الثروة السيادية الذي يترأسه سوف يستثمر المزيد من رأس المال في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الفضاء في عام 2024. ومع وجود العديد من صناديق الثروة السيادية، وما يقارب 1.5 تريليون دولار من الأصول الخاضعة للإدارة، والتي تحتفظ بها ثلاثة صناديق فقط في أبوظبي، فإن الإمارات في وضع قوي يسمح لها بتشكيل مسار العلاقة بين صناديق الثروة السيادية الخليجية والتكنولوجيا العالمية.
دول خليجية أخرى تعمل على الهامش
تشرف عُمان والبحرين على أصول أصغر من الثروات السيادية، ما من شأنه أن يحد في نهاية المطاف من قدرتهما على العمل كطرفين مؤثرين في قطاع التكنولوجيا العالمي. ومع ذلك، فإن صناديق الثروة السيادية في هذين البلدين تسعى لتسخير إمكانات الاستثمار المحلية في القطاعات الاستراتيجية مثل التكنولوجيا، وغالبًا ما يتحقق ذلك بالشراكة مع صناديق الثروة السيادية الأكبر المجاورة. وفي أعقاب الزيارة الرسمية التي قام بها سلطان عُمان هيثم بن طارق إلى الإمارات في أبريل/نيسان، أطلق جهاز الاستثمار العُماني وشركة ADQ صندوقًا للتكنولوجيا بقيمة 180 مليون دولار. تمتلك عُمان صندوقًا قديمًا بحجم مماثل، وهو الصندوق العماني للتكنولوجيا الذي يهدف “لجعل عُمان الوجهة المفضلة للشركات التقنية الناشئة على المستوى الإقليمي”. وفي الوقت ذاته، تقدم شركة ممتلكات البحرينية الدعم للشركات المحلية الناشئة، وينطوي تحت لوائها شركة بيون – الشركة الأم لشركة بتلكو– التي تخطط للتحول من “شركة تركز على الاتصالات إلى قوة تكنولوجية” وفقًا للتقرير السنوي لصندوق الثروة السيادية لعام 2022. وفي مارس/آذار، وقعت ممتلكات وصندوق الاستثمارات العامة اتفاقية للتعاون الاستثماري في القطاعات الاستراتيجية.
أما الدولتان الخليجيتان الأكثر ثراءً، قطر والكويت، فتمتلكان حزمة متنوعة من السياسات فيما يتعلق بانخراطهما في العلاقة بين صناديق الثروة السيادية الناشئة والتكنولوجيا العالمية. يعمل جهاز قطر للاستثمار على إطلاق برنامج الصندوق القابض بقيمة مليار دولار مع “الأولوية للتركيز على قطاع التكنولوجيا”. تتمتع الكويت بأصول هائلة من الثروات السيادية، وتشير التقارير إلى أن المسؤولين يدرسون إطلاق صناديق فرعية مع مزيد من التركيز على التنمية المحلية، التي يمكن أن تنطوي على دور أكثر فاعليةً في مجال التكنولوجيا. ومع ذلك، فإن دور أكثر فاعليةً يدعمه صندوق الثروة السيادية الكويتي في قطاع التكنولوجيا العالمي لا يزال احتمالاً بعيد المنال. ومن المرجح أن تعمل القيود السياسية المفروضة على صناع القرار على منع حدوث تغييرات كبيرة في الاستراتيجية الاستثمارية لهيئة الاستثمار الكويتية على المدى القصير. ومع ذلك، فإن صناديق الثروة السيادية القطرية والكويتية تتمتع بالثقل المالي الذي يسمح لها – من الناحية النظرية – بتحقيق انطلاقة أكبر في قطاع التكنولوجيا، وذلك تمشيًا مع الخطوات الأخيرة للسعوديين والإماراتيين.
تحرص الشركات الدولية والمستثمرون على الاستفادة من المخططات الطموحة لقطاع التكنولوجيا الجاري تنفيذها في منطقة الخليج. وفي غضون ذلك، ينتاب المسؤولين الحكوميين الأمريكيين نوع من القلق بشأن تداعيات الأمن القومي المترتبة على التعاون في مجال التكنولوجيا بين دول الخليج والمنافسين الاستراتيجيين. إذا كان للتاريخ أن يعمل بمثابة دليل إرشادي دقيق، فإن معظم استثمارات صناديق الثروة السيادية ستستمر في التدفق إلى الأصول والشراكات الأمريكية والأوروبية والشرق أوسطية ومن خلالها. في الواقع، استغل سفير الإمارات لدى الولايات المتحدة مناسبة الصفقة بين مايكروسوفت ومجموعة G42 ليجادل بأن “الولايات المتحدة والإمارات ستكونان شريكتين في طليعة تقنيات الحوسبة المتقدمة”.
ومع ذلك، فإن بعض التدفقات الاستثمارية سوف تتجه نحو المنافسين الاستراتيجيين للولايات المتحدة – وتحديدًا الصين. وسوف تتطلب أي مجموعة فرعية ضيقة من هذه الاستثمارات رصدًا وتحليلاً بشكل مستمر بسبب الحساسيات التي تنطوي عليها. ومع ذلك، وكما يتضح من العلاقة بين صناديق الثروة السيادية الخليجية والتكنولوجيا العالمية، فإن المنافسة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين ليست الزاوية الوحيدة التي يمكن من خلالها فهم توجهات التكنولوجيا في منطقة الخليج.
يقوم روبرت موجيلنيكي بتحرير كتاب حول الاقتصاد السياسي لصناديق الثروة السيادية في الشرق الأوسط وآسيا لصالح دار نشر بالجريف ماكميلان (Palgrave Macmillan) إلى جانب العديد من المساهمين الأخرين.