أصدر مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية تقريراً استخباراتياً حول اغتيال جمال خاشقجي، وهو كاتب عمود في صحيفة الواشنطن بوست ومعارض سعودي بارز، وكان قد قُتل بوحشية في القنصلية السعودية في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018. وفي ملخص، تم كشفه، للنتائج التي توصلت إليها الدوائر الاستخباراتية، يقر التقرير بضلوع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الموافقة على عملية القبض على خاشقجي أو قتله.
وكما هو الحال في كل ما يحيط بهذه القضية، أثار إصدار التقرير الذي طال انتظاره الكثير من الجدل؛ من منظمات حقوق الإنسان والمعارضة السعودية الحريصة على إنهاء حالة الإفلات من العقاب، التي حرضت عليها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، إلى محللي السياسة الخارجية الذين يفكرون في التداعيات بالنسبة للعلاقات الأمريكية-السعودية. ومع ذلك، ولفهم الدافع وراء الإفصاح عن التقرير من قبل إدارة الرئيس جوزيف بايدن الابن وتأثيره المحتمل على السياسة، لابد في البداية من فهم السجلات العديدة التي انعكس عليها صدى عملية القتل هذه: في السياسة الخارجية وفي السياسة الحزبية ومع الجمهور الأمريكي.
سياسة ترامب الخارجية
جاءت عملية قتل خاشقجي في سياق أمير شاب ينفر، بشكل غريب، من أي انتقاد علني، ويختبر قوته وحدودها في الداخل والخارج. يبدو أن هذه الحدود توسعت على يد إدارة ترامب، التي جعلت المملكة العربية السعودية وقيادتها محور سياستها الشرق الأوسطية. وتم السعي لتحقيق أهداف إدارة ترامب في المنطقة -المتمثلة في الضغط على إيران وتسهيل التقارب بين إسرائيل والدول العربية – من خلال علاقات وثيقة مع دول الخليج العربية. وكانت هذه العلاقات، بدورها، تُدار من خلال علاقات شخصية – وحتى عائلية، تمت إدارة الاتصال مع محمد بن سلمان شخصياً من قبل صهر ترامب ومستشاره جاريد كوشنر.
ولتعزيز هذه الاستراتيجية، لم تتورع إدارة ترامب عن استخدام كل الوسائل الممكنة مع الكونجرس، حيث استخدمت حق النقض الفيتو ضد تشريعات الحزبين لوقف الدعم الأمريكي للتدخل الذي تقوده السعودية في الحرب في اليمن، وتغلبت على معارضة الكونجرس لمبيعات الأسلحة من خلال الدفع بحالة طوارئ تتعلق بالأمن القومي. في أعقاب مقتل خاشقجي، أثارت هذه الأفعال استنكار كلا الحزبين، خاصة أن الأخير يعتبر انتهاك للسلطة التشريعية. لكن الغضب كان سائداً بشكل خاص في التجمع الديمقراطي. وقد تم استدراج الطبيعة الحزبية للمعارضة من قِبل طبيعة علاقة ترامب الشخصية مع محمد بن سلمان، والإجراءات التي اتخذها ترامب لحماية ولي العهد حتى في مواجهة الغضب الهائل الذي أحدثه مقتل خاشقجي.
ولكي نفهم تماماً عملية صنع القرار في إدارة بايدن الجديدة، يجب الأخذ بعين الاعتبار مدى صدى قضية خاشقجي لدى الجمهور الأمريكي. حظيت الأحداث المحيطة بمقتل خاشقجي بتغطية إعلامية هائلة، ويعزى ذلك جزئياً إلى علاقته بوسائل الإعلام ككاتب رأي لصحيفة الواشنطن بوست، ويُعزى ذلك أيضًا إلى الطبيعة المروعة للجريمة. كون الجريمة قد ارتُكبت في قنصلية – موقع رسمي وملجأ آمن – عزز من طبيعتها غير المسبوقة. من المستحيل فصل الغضب الذي تسببت به هذه الحادثة عن الاستياء الأوسع الذي يشعر به العديد من الأمريكيين، لأن إدارة ترامب اتبعت أجندة سياسية تفسد العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين، وتتحدى الأعراف السياسية القائمة منذ زمن بعيد في الداخل والخارج. لهذا السبب، تواجه إدارة بايدن جمهوراً أمريكياً، وبالأخص التجمع الديمقراطي، يتوقع تغييراً ملموسًا في السياسة تجاه السعودية.
سياسة بايدن الخارجية
في أعقاب إصدار هذا التقييم الاستخباراتي، ستتم عن كثب مراقبة تصرفات إدارة بايدن تجاه السعودية. من المتوقع أن يكون هنالك توافق مع الأجندة السياسية الخارجية الأوسع نطاقًا والتي تعطي الأولوية العليا لإعادة بناء العلاقات مع الحلفاء الديمقراطيين، وتعزيز الالتزامات العالمية بحقوق الإنسان وسيادة القانون.
وإذ يُنظر إلى ذلك على أنه منسجم مع هذا التوجه السياسي، فإن القرار بالكشف عن تقرير الاستخبارات يأتي وفقاً لمتطلبات أحد القوانين التي أقرها الكونجرس، وتتم متابعته بموجب قانون حرية المعلومات، وهو بالتالي إجراء تصحيحي ضروري. لقد ولى زمن احتضان الرئاسة العلني لمحمد بن سلمان، وتجرى إعادة توجيه الاتصالات الرسمية من خلال النظراء المناسبين: أجرى بايدن أول مكالمة هاتفية له مع الملك سلمان بن عبد العزيز، في حين أن الاتصال الأولي مع ولي العهد، وهو أيضاً وزير دفاع المملكة، جاء من خلال نظيره وزير الدفاع لويد جي. أوستن.
كما تنسجم سياسة بايدن الخارجية في الشرق الأوسط مع “إعادة ضبط” العلاقات مع السعودية. فتنطوي استراتيجية بايدن في الخليج على التراجع عن حملة إدارة ترامب “الضغوط القصوى” ضد إيران، وامتدت كذلك إلى سياسة اليمن. وهي تستكشف خيار العودة للاتفاق النووي مع إيران، وإن كان ذلك مع تعديلات وتوقعات جديدة لدمج الاعتبارات الإقليمية. لقد انتهى الدعم لتدخل السعودية في اليمن، وتم تعيين مبعوث جديد، الدبلوماسي المتمرس تيم ليندركينج، لتنشيط الجهود للتقدم في حل النزاع اليمني.
لغز محمد بن سلمان
يتألف فريق بايدن للسياسة الخارجية من خبراء محنكين، وليسوا من السذاجة للاعتقاد بأنهم قادرون على تحقيق أهدافهم في الشرق الأوسط دون التعامل مع دولة سعودية لا تزال مركزاً لكلٍ من النفط والأمن في الخليج، وإن كان بطريقة أقل شمولية. وقد استبعدوا معاقبة محمد بن سلمان لهذا السبب، محتفظين بالمساحة التي تمكنهم من التعامل مع الدولة السعودية وقيادتها على أعلى المستويات. ومع ذلك، يبقى اللغز الأكبر وهو كيفية التعامل مع ولي العهد – الذي عزز من سلطته داخل الأسرة الحاكمة ومؤسسات الدولة ومن المؤكد، تقريباً، أنه سيخلف والده.
إن تبني وزارة الخارجية سياسة “حظر خاشقجي” [Khashoggi Ban] الجديدة، التي تضع قيودًا على تأشيرات الدخول لـ 76 شخصاً سعودياً متورطين في نشاطات ضد المعارضة خارج الحدود الإقليمية، هو رد على ما وصفته الوزارة بجهود الدولة السعودية في “مضايقة ومراقبة وتهديد أو إلحاق الأذى بالصحفيين أو النشطاء” أو غيرهم من المعارضين في الخارج. إذا تم تطبيق الإجراءات الجديدة بشكل مستمر وخلاق، فقد توفر درجة من الردع باستخدامها لمواجهة عمليات المضايقة والمراقبة التي يتعرض لها النشطاء. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى طريقة هذه السياسة في التركيز على الإجراءات المتخذة ضد المعارضين في الخارج، وعدم تقديمها لأي تدابير تهدف إلى ردع عمليات قمع النشاط السياسي في الداخل.
من المرجح أن يتم استقبال هذا التوازن في السياسة الواقعية مع موقف مشبع بمعايير حماية المعارضين بدرجة لا بأس بها من التشكيك وحتى السخرية. لكنه يمثل اعترافًا بأن الولايات المتحدة لا تنتهج مثل هذه السياسات بالجسارة، التي كانت معهودة في الأيام الماضية، وإنما بالتشكيك المتجدد في قدرتها على إعادة تشكيل البلدان الأخرى، وبنقطة ضعف جديدة تتعلق بحالة سياساتها الداخلية وممارساتها الديمقراطية. إن الترويج لهذه القيم في الخارج يرتبط الآن بالدفاع السياسي في الداخل، الأمر الذي يزيد من ضرورتها الملحة.
قد يكون للكشف عن تقرير الاستخبارات نتائج غير متوقعة. وقد يفتح الباب أمام إمكانية إعادة النظر في تجريم ومعاقبة السعوديين، الذين فُرضت عليهم عقوبات من قِبل وزارة الخزانة الأمريكية، والذين من ضمنهم مستشارون كبار مثل سعود القحطاني وأحمد العسيري، الذي أُضيف حديثًا، وهو النائب السابق لرئيس جهاز المخابرات السعودية. ولم تتم محاكمة القحطاني ولا العسيري في السعودية. هناك احتمال بأن فرض عقوبات على الأشخاص المتورطين في أنشطة ضد المعارضين في الخارج سوف تعرض المؤسسات السعودية التي توظفهم لخطر قانوني أو المجازفة بتشويه سمعتها على أقل تقدير.
كما أن التقرير سيضاعف من وزن الحملات العامة الداعية لتحاشي الاستثمار في المملكة، ويضيف زخماً للمعارضة الوليدة لحكم ولي العهد، التي أصبحت تأخذ طابعاً أكثر رسمية في الجماعات الحقوقية في الخارج. وسيكون للخلط بين صندوق الاستثمارات العامة مع إدارة محمد بن سلمان للحكومة، وضلوعه في قضية خاشقجي، دور في زيادة هذه المخاطر.
على الرغم من أن هذه الإجراءات بعيدة كل البعد عن إعاقة حكم محمد بن سلمان، إلا أنها ستؤثر على الأجندة الرئيسية لولي العهد: المتمثلة في تحويل الاقتصاد والمجتمع السعودي من خلال تعميق الاستثمارات والمشاركة الدوليين. والحقيقة أن عملية القتل – التي نفذت على نحو مثير للسخرية في محاولة غير موفقة للاستئثار بتقديم السعودية الجديدة في الخارج وإسكات المنتقدين- قد تمت بالفعل.