لقد ثبت أن التخفيف من القيود الاجتماعية في المملكة العربية السعودية مشجِّعٌ ومُشوّش على حد سواء. تتطلب المخططات الاقتصادية لفترة ما بعد النفط تغييرات اجتماعية واسعة لجذب المستثمرين الدوليين والسياح. وزد على ذلك، فإن القيادة الحالية تلبي احتياجات الشباب السعودي الذين يشكلون أغلبية السكان بإغراقهم بالخيارات الترفيهية. كان المقصود من كبح صلاحيات المؤسسة الدينية والشرطة الخاصة بها هو تسهيل عملية الانفتاح في البلاد. ومع ذلك، فإن إزالتها المفاجئة قد أوجدت فجوة امتلأت بالمناظرات في الصحف الوطنية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي حول ما ينبغي وما لا ينبغي أن يكون مقبولًا اجتماعيًا.
لقد فشل إصدار لائحة الذوق العام في القضاء على الالتباس. وينظر الكثير من السعوديين إلى هذه اللوائح كبديل علماني للشرطة الدينية (الهيئة) التي تهدف إلى المحافظة على النظام الاجتماعي. ومع ذلك، فقد لا يتحقق فهم القانون وتطبيقه بشكل أفضل من خلال النظر إليه ببساطة كقانون لتنظيم السلوك الاجتماعي، وإنما باعتباره امتدادًا للعملية المستمرة في بناء الهوية الوطنية.
تعيد اللائحة تعريف سلوك المواطن الصالح في محاولة لتشكيل مواطن سعودي “عصري” و”حسن الطلعة” يحتفظ مع ذلك بالمزايا “التقليدية” الضرورية. لقد قامت الدولة بحل التوتر المتأصل في هذا المفهوم الشرعي من خلال التطبيق غير المتكافئ: الترويج لصورة حديثة والتوقع من المواطنين أن يتمسكوا بالقيم التقليدية في ظروف معينة. ومن المفارقات، أن هذا يعني عمليًا تطبيق ذلك بصرامةً على النساء اللواتي يرتدين اللباس المحافظ.
لائحة السلوك العام
كان المجتمع السعودي دائمًا فائق التنظيم. في السنوات السابقة، كانت الشرطة الدينية تتحمل مسؤولية تعزيز نظامٍ اجتماعيٍ صارم والمحافظة عليه. وعلاوة على ذلك، فإن الهوية السعودية كانت منذ فترة طويلة تُستمد من الأعراف الإسلامية المحافِظة بسبب التحالف الذي دام عقودًا بين القيادة والمؤسسة الدينية الرسمية. كان مثل هذا التواصل مهمًا لإظهار واجب المملكة العربية السعودية في الحفاظ على الأماكن الإسلامية المقدسة والتعاليم الإسلامية. اليوم، تتنافس القيادة السعودية مع المعايير الدينية الراسخة. كما ينعكس ذلك في المنهاج السعودي الجديد، لا يزال الدين يلعب دورًا مهمًا، لكنه لا يشكل الآن سوى عنصر واحدًا فقط من عناصر الهوية السعودية الناشئة.
في أواخر شهر أيلول، تم إصدار لائحة الذوق العام بشكل رسمي. وهي الترجمة الحرفية لعبارة “public taste” في إشارة إلى الكياسة والسلوكيات التي يتم تشجيع الجمهور على اتباعها. ومع ذلك، فإن الترجمة المعتمدة في نهاية المطاف كانت “لائحة الذوق” لأنها من المفترض عمومًا أن تحل محل شرطة (الهيئة) الأخلاقية. وقد ساهم ذلك إجمالًا في الالتباس حول السبب في أن القيود التسعة عشر التي تضمنتها تشمل بعض الممارسات التي لا تعتبر انتهاكًا للذوق.
وهذا بحد ذاته يعتبر تصفية لقائمة الخمسة وأربعين انتهاكًا التي اقترحها مبدئيًا عضو مجلس الشورى فايز الشهري في كانون الثاني 2018. في نيسان 2019، وافق مجلس الوزراء على 19 انتهاكًا، وأُعلنت للجمهور في أيار وتم تنفيذها لاحقًا في أيلول. تعبر القائمة عن التوقعات المتعلقة بسلوكيات المواطنين كما تعالج قضايا مثل قانون الملابس، والتخريب، والسلوك العام (مثل تشغيل الموسيقى الصاخبة، أو عدم الوقوف في الطابور، أو تصوير شخص دون موافقته/ها).
بناء الهوية السعودية الجديدة بشكل عملي
في الماضي، لم يقتصر التركيز على ضمان أن الناس يتصرفون بشكل صحيح فقط، وإنما أيضًا على أنهم يتبعون الممارسات والمبادئ الإسلامية. الآن، هناك موقف متراخٍ بشكل عام تجاه الممارسة الدينية وعلى ما يبدو نهج أكثر صرامة تجاه ضبط السلوك العام من جديد. أحد الدوافع المحتملة وراء هذا المسار هو الأهمية المتزايدة لصوْن صورة “عالمية” و”متجانسة”. في مقابلة مع MBC، قالت الأخصائية القانونية غادة العيدي: “هذه القائمة تعكس صورتنا بشكل إيجابي في البلدان الأخرى … فمع الرؤية 2030، كل الأنظار متجهة إلينا”. اللائحة الجديدة هي مدونة لقواعد السلوك الاجتماعي تعكس التوقعات بمواطن سعودي حسن الخلق وحسن الطلعة.
تتضمن لائحة الذوق العام الانتهاكات التي تم تحديدها بالفعل في القوانين السارية الأخرى. على سبيل المثال، كانت الكتابات على الجدران -ولا تزال– يعاقب عليها القانون بموجب المادة 5/19 من قائمة الانتهاكات البلدية، التي نشرتها وزارة الشؤون البلدية والقروية. ولكن الجديد هو تحديث وتجميع جميع الانتهاكات في قائمة واحدة والأخذ بها من جديد لضبط ما هو متوقع من الجمهور. إعادة وضع القوانين في رزمة واحدة هنا لها مغزاها لأنها تشير إلى نهج متجدد في تحديد المظهر العام للمواطن السعودي وسلوكه.
تم تطبيق لائحة الذوق العام في الوقت نفسه الذي تم فيه الإعلان عن تأشيرات سياحية جديدة، حيث تم إبلاغ الزوار الدوليين بارتداء اللباس المناسب في الأماكن العامة. ومع ذلك، هنالك مستويات مختلفة من الاحتشام المتوقع من الرجال والنساء المحليين أو الأجانب. لا يُتوقع من النساء الأجنبيات ارتداء الثوب الأسود (العباية)، في حين تُشجّع النساء السعوديات الآن على الذهاب إلى بعض الأماكن العامة من دون “العباية” ما دام لباسهن محتشمًا. يمكن للرجال الأجانب ارتداء السراويل القصيرة (الشورت) في الأماكن العامة بينما يعاقب الرجال السعوديون على القيام بذلك.
لقد تم التأكد من الجدل الدائر حول ما إذا كان سيتم التدقيق على ملابس الرجال بموجب لائحة الذوق العام في تشرين الأول عندما تم ايقاف رجل وتغريمه لارتدائه السروال القصير (الشورت)، على الأرجح لانتهاكه المادة 8، التي تحظر “ارتداء ملابس غير لائقة في الأماكن العامة”. وأشار بدر الزياني، المدير العام لجمعية الذوق العام، إلى أنه بموجب المادة 8، فإن السماح بالسروال القصير (الشورت) يعتمد على المكان، وقد يتم قبوله في الصالات الرياضية أو على الشاطئ، على الرغم من أن المادة 8 لا تتناول التفاصيل المتعلقة بهذه الشروط. اعتادت الشرطة الدينية بشكل روتيني إيقاف الرجال الذين كانوا يرتدون السراويل القصيرة في الماضي بسبب الالتزام الإسلامي بتغطية عورة الرجل (الأجزاء الحساسة بين السرة والركبتين). كما تعتبر لائحة الذوق العام ارتداء “ثياب النوم” (وهي لباس طويل شائع داخل المنزل يرتديه بعض الرجال السعوديين) انتهاكًا للائحة الذوق العام، على الرغم من أن بعض الرجال يختارون ارتداءه في الخارج عند أدائهم لبعض المهمات أو حضور صلاة الفجر. يُطالَب الرجال بارتداء الزي الوطني عند زيارة مديرية الشؤون المدنية، أو عند الذهاب لاستلام جواز سفر. يُعد منع ثياب النوم إضافةً جديدةً للقوانين التي تنظم قواعد اللباس بالنسبة للرجال، والتي تبين أن اللائحة لا تعالج الذوق العام فقط وإنما تغطي مجموعة أوسع من التوقعات التي تهدف إلى “تصحيح” “الصورة العامة” للمواطن السعودي.
من الجهة الأولى، ظهرت مقاطع فيديو لنساء سعوديات وأجنبيات يستمتعن بمناسبات ترفيهية متنوعة، تنتهك في بعض الأحيان قواعد اللباس أو المعايير المحافِظة من دون أي عقاب. ومن الجهة الأخرى، يتوقع من النساء المحافظات أن يبقين يعتمدن إلى حد كبير على الهوية الدينية التي كانت موجودة من قبل. على سبيل المثال، أصبح الرقص مقبولًا عمومًا في أماكن مختلفة ولا يُعاقب عليه بموجب لائحة الذوق العام. ومع ذلك، أصدر المدعي العام مؤخرًا أمرًا، بموجب لائحة الذوق العام، بالقبض على امرأة تم تصويرها وهي ترقص بينما كان لباسها يغطيها بالكامل. يبدو أن هذا يتعارض مع القانون الذي ينص على وجه التحديد على أنه “لا يجوز فرض عقوبات على أي سلوك غير منصوص عليه في جدول الانتهاكات”. وعلاوة على ذلك، يحدد القانون الجديد غرامة تصل إلى 2.000 ريَال سعودي (حوالي 533 دولارا) على أولئك الذين يلتقطون صورًا أو مقاطع فيديو للآخرين دون موافقتهم. ومع ذلك، تمت معاقبة المرأة التي ظهرت في الفيديو، وليس الشخص الذي صورها، على انتهاك القانون بعد أن أثار سلوكها جدلاً على وسائل التواصل الاجتماعي.
العمل جارٍ على قدمٍ وساق
من المرجح أن العمل باللائحة جارٍ على قدم وساق. في صورتها الراهنة، يتم تطبيق اللائحة الجديدة بشكل مختلف على الحالات المختلفة. يُتوقع من النساء اللواتي يخترن تغطية وجوههن الامتثال للقيم المحافِظة ويمكن أن يخضعن للمزيد من القوانين غير المكتوبة والتدقيق الأكثر صرامة من الجمهور. أما أولئك اللواتي اخترن التخلي عن العباية، فقد شوهدن يرقصن ويغنين بحرية دون إثارة ردود فعل سلبية على وسائل التواصل الاجتماعي أو مواجهة عواقب مماثلة. ومع ذلك، تبقى العباية رمزًا مهمًا للعديد من السعوديات اللواتي يخترن ارتداءها. في الآونة الأخيرة، أصدر المدعي العام أوامر اعتقال ضد زوجين قاما بتصوير مقطع فيديو قصير انتشر سريعًا على وسائل التواصل الاجتماعي واعتبر إهانة لقواعد اللباس التقليدية. توضح العواقب المتفاوتة توجه الدولة لإبقاء السعوديين الذين يظهرون “كعصريين” وأولئك الذين يتمسكون بالصورة “المحافِظة” أوفياء لمعايير مختلفة. تعكس هذه الازدواجية التوترات الوطنية في بناء الهوية حيث تسعى القيادة السعودية إلى إظهار التحول الاجتماعي السريع الخطى والاحتفال به مع الحفاظ على المزايا التقليدية التي تحتفظ بها الفئة المحافظة من السكان.