ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
التحولات والتغييرات التي طرأت على مواقف إدارة الرئيس دونالد ترامب، وخاصة في مجالي السياسة الخارجية والأمن القومي في الأسبوعين الماضيين، مدوّية ويصعب استيعابها لأنها حفلت بالمفاجآت المذهلة، ومن بينها استخدام القوة العسكرية ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وإيصال العلاقات الأمريكية-الروسية إلى أدنى مستوياتها منذ نهاية الحرب الباردة. وشملت هذه التحولات المتناقضة الموقف من الحرب في سوريا ومستقبل الرئيس الأسد، وانتقادات ترامب المفاجئة لروسيا، والموقف الإيجابي من حلف شمال الأطلسي (الناتو) والموقف تجاه الصين، وتحديدا النقاط الخلافية القديمة معها، مثل التجارة وإجراءات الحماية للمنتجات الأمريكية، والموقف من كوريا الشمالية وتجاربها الصاروخية، وبضمنها النووية أيضا. ترامب تمسك خلال حملته الانتخابية بشعار “أمريكا أولا” لشرح سياساته الخارجية بأبعادها الأمنية والاقتصادية، بما في ذلك تفادي التورط في نزاعات عسكرية مثل تلك التي زجت الولايات المتحدة في أطول حربين في تاريخها: أفغانستان والعراق. لماذا غّير ترامب مواقفه؟ هناك أسباب عديدة من بينها عدم إلمامه أو اهتمامه في السابق بمعرفة خبايا وتعقيدات هذه التحديات والمشاكل، أو لأنه واجه الواقع بطريقة موجعة، وفقا للتعبير الذي جاء به الكاتب الأمريكي الراحل إيرفينغ كريستول Mugged by reality “المصدوم بالواقع”.
خلال حملته الانتخابية الطويلة، تحدث ترامب بإيجابية واضحة وأحيانا غريبة عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، واصفا لمزاياه القيادية (القوية) حين قارنه بالرئيس السابق باراك أوباما (الذي ادعى ترامب أنه ضعيف)، ومؤكدا اهتمامه بتحسين العلاقات مع موسكو في حال انتخابه. ولتعزيز هذا الموقف، كان ترامب يعرب عن شكوكه بجدوى حلف الناتو، الذي وصفه أكثر من مرة بالحلف الذي عفى عنه الزمن، وهو موقف كان يلقى صدى مريحا في العاصمة الروسية. وكان ترامب يخص الصين بأقسى الانتقادات بما فيها اتهاماته للممارسات الصينية التجارية بأنها ترقى إلى مستوى “اغتصاب” الاقتصاد الأمريكي، وكان يتعهد في مهرجاناته الانتخابية بأن أول قراراته الرئاسية ستشمل تسمية الصين رسميا كدولة تتلاعب بالعملة الصعبة لضرب الدولار الأمريكي. لا بل أن ترامب أوحى بعد انتخابه وقبل تسلمه لصلاحياته الدستورية بامكانية التخلي عن سياسة “الصين الواحدة” والقاضية بأن الولايات المتحدة تعترف وتتعامل مع الصين الشيوعية وليس تايوان التي كانت تعتبرها واشنطن الصين، قبل زيارة الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون التاريخية إلى بكين في 1972، والتي كان لها الأثر المباشر في عملية تطبيع العلاقات مع الصين الشيوعية على حساب تايوان. أما في ما يتعلق بالحرب في سوريا فقد انتقد ترامب نظام الأسد وفصائل المعارضة المسلحة معا، ولكنه أبدى تعاطفا أكثر مع محور روسيا –الأسد لأنه اعتقد – خطأ- أن روسيا والأسد يحاربان تنظيم الدولة الاسلامية، واعرب عن رغبته واستعداده في حال انتخابه بالمشاركة في هذه الحرب المفترضة ضد داعش.
“مرونة” ترامب
ولكن الرئيس ترامب، الذي لم يكن ملما بتعقيدات هذه النزاعات والتحديات الخارجية، سرعان ما أدرك أن الواقع السياسي يدحض افتراضاته المسبقة، واللافت أنه يعترف – على الأقل في بعض المجالات – بأنه يتعرف على هذه التحديات ويتدرب على كيفية معالجتها. وعلى سبيل المثال اعترف ترامب في مقابلة مع صحيفة وول ستريت جورنال أنه لم يكن يدرك محدودية النفوذ الصيني على صنع القرار في كوريا الشمالية قبل لقائه الأخير بالرئيس الصيني شي جين بينغ، حين قال ” بعد ان استمعت اليه لعشرة دقائق، ادركت ان الامر ليس بهذه السهولة” وذلك في اشارة الى محاولته إقناع الرئيس الصيني بالضغط على كوريا الشمالية لوقف تجاربها الصاروخية ووقف نشاطاتها النووية. وتابع ” كنت أشعر بقوة أن لديهم نفوذ ضخم” على كوريا الشمالية ” ولكن الأمر ليس كما تعتقدون”. ولإخفاء جهله بهذه التحديات الاستراتيجية المعقدة وكونه لم يفكر بها بجدية في السابق، يحلو للرئيس الأمريكي الجديد الذي يحاول أن يحقق خلال أول مئة يوم له في الحكم، بعض الإنجازات الهامة، أن يقول إنه يتمتع “بمرونة” تسمح له بتطوير أو تعديل مواقفه .
ولكن ترامب لا يتردد أيضا، في تفسير مواقفه الجديدة من خلال تحوير مواقف الآخرين والادعاء بأنهم هم الذين غيروا مواقفهم وليس هو . وأفضل مثال على ذلك موقفه السابق من حلف الناتو. وخلال مؤتمره الصحفي يوم الأربعاء مع الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ ، قال ترامب ” لقد قلت في السابق أن الحلف قد عفى عنه الزمن، ولكن هذا الوضع تغير” وادعى أن هذا يعود لأن الحلف قد غيّر موقفه من مكافحة الإرهاب كما طالب ترامب خلال الحملة الانتخابية. ولكن الواقع هو أن حلف الناتو يقوم بمساعدة الولايات المتحدة على مكافحة الإرهاب منذ عقود، بما في ذلك مكافحة إرهاب تنظيم القاعدة، ومن هنا مشاركة دول الناتو في الحرب في أفغانستان، ومشاركة دول أعضاء في الناتو في الحملة الجوية التي تقودها الولايات المتحدة ضد داعش في سوريا والعراق.
وبعد لقائه بالرئيس الصيني، غّير ترامب جذريا من موقفه تجاه الصين كمنافس تجاري يجب التصدي له بقوة، وفجأة لم تعد الصين تتلاعب بعملتها لإلحاق الضرر بالدولار الأمريكي الذي قال إنه أقوى الآن، مؤكدا في مقابلته مع صحيفة وول ستريت جورنال إن الصين “لا تتلاعب الان بعملتها” بشكل سلبي. وبعد أن كان ترامب يكيل المديح السخي للرئيس الروسي بوتين، بدأ بكيل المديح للرئيس الصيني شي جين بينغ، قائلا “لقد اعجبت بالرئيس شي، لقد بنينا روابط جيدة، وكانت هناك كيميائية جيدة بيننا”. الموقف الإيجابي من الصين، وخاصة الموقف المتعلق بتقلبات العملات يعود لرغبة الشركات الأمريكية التي تتعامل مع الصين لتفادي أي “حرب تجارية” معها ، كما كان يهدد ترامب، لأن مضاعفات مثل هذه الحرب بين أكبر اقتصادين في العالم ستكون سلبية على الجميع. كما أدرك ترامب، من خلال مستشاريه للشؤون الأمنية والعسكرية، أن أي فرص للتوصل إلى حل سلمي للتحديات الاستراتيجية التي تمثلها كوريا الشمالية تتطلب تدخل الصين، الدولة الوحيدة التي تعتمد عليها كوريا الشمالية اقتصاديا. وهذا بدوره يتطلب علاقة عمل جدية وجيدة بين الولايات المتحدة والصين.
ترامب بين روسيا وسوريا
وخلال أقل من أسبوعين “تطور” موقف إدارة ترامب من القول إن واشنطن لم تعد تركز على ضرورة تنحي الرئيس الأسد، وعلى ضرورة أن يحتفظ الشعب السوري بحق تقرر مصيره، إلى توجيه ضربة عسكرية -وإن كانت محدودة- لمعاقبة نظام الأسد بعد استخدامه للأسلحة الكيماوية ضد المدنيين في بلدة خان شيخون، فضلا عن وصفه لبشار الأسد “بالحيوان” و “الجزار”، أو القول على لسان وزير خارجيته ريكس تيليرسون “من الواضح لنا جميعا أن حكم عائلة الأسد يقترب من نهايته”. وهنا يمكن الإشارة إلى تأثير وزير الدفاع جيمس ماتيس ومستشار الأمن القومي الجنرال إتش آر ماكماستر على تفكير الرئيس ترامب، ورغبته في أن يعاقب الأسد على تخطيه الخط الأحمر الكيماوي الذي رسمه له الرئيس السابق باراك أوباما ولكن دون أن يعاقبه عندما اخترقه بشكل صارخ في أغسطس 2013 حين قتل 1400 مدني سوري في الغوطة الشرقية.
وتدهورت العلاقات الأمريكية-الروسية بشكل نوعي في أعقاب رفض روسيا الاتهامات الموجهة للأسد في ضلوعه بالهجوم الكيماوي في بلدة خان شيخون. ومن الصعب مقارنة مشاعر الفرح والارتياح التي عمت الأوساط السياسية الروسية في أعقاب انتخاب ترامب، على خلفية التدخل الروسي الواسع في الانتخابات الرئاسية، والآمال الواسعة آنذاك في موسكو باحتمال قيام الرئيس الجديد بإلغاء العقوبات التي فرضتها واشنطن ضد روسيا في أعقاب احتلالها وضمها لشبه جزيرة القرم، ومشاعر الاستياء والاستغراب الراهنة تجاه ادارة ترامب والشكوك بامكانية تحسين العلاقات، ولو جزئيا، وخاصة بعد إقالة مستشار الأمن القومي الأول للرئيس ترامب، الجنرال المتقاعد مايكل فلين، والتحقيقات التي تقوم بها لجان الكونغرس ومكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) بالتدخل الروسي في الانتخابات. وكان الفيتو الروسي يوم الأربعاء ضد مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يدين النظام الروسي قد تسبب بانتقادات قاسية وجهتها المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة نيكي هايلي ضد موسكو معتبرة أن الفيتو الروسي هو بمثابة رفض لمفهوم “المحاسبة… وهذا يعني أن روسيا مرة أخرى اختارت الوقوف مع الأسد، حتى عندما تضافر العالم كله، بما في ذلك العالم العربي لإدانة هذا النظام القاتل”.
هذا الموقف الروسي السافر، أرغم ترامب الذي امتنع في الأسابيع الماضية عن الانضمام إلى كبار المسؤولين في حكومته في انتقاد أو إدانة سلوك روسيا، إلى القول علنا للمرة الأولى يوم الأربعاء إن الرئيس بوتين يدعم ما يقوم به “الجزار” الأسد، والقول بأن العلاقات الأمريكية-الروسية قد وصلت إلى أدنى مستوياتها. ولكن الرئيس ترامب، عاد وغرّد صباح الخميس”الأمور سوف تتحسن بين الولايات المتحدة وروسيا. وفي الوقت المناسب سوف يعود الجميع إلى صوابهم، وسوف يتحقق السلام الدائم”. رغبة ترامب بتحسن العلاقات مع روسيا، لا تلغي حقيقة أن هذه العلاقات قد تعرضت إلى أضرار كبيرة، وأن لقاء القمة بين ترامب وبوتين، الذي توقعه المسؤولون الروس في بداية ولاية ترامب لن يحدث في أي وقت قريب، وأن الصين وليس روسيا هي الدولة التي يتطلع إليها ترامب الآن خارج إطار حلف الناتو لزيادة التعاون الاقتصادي والسياسي معها.
لا تعني التغييرات والتحولات التي طرأت على مواقف وسياسات الرئيس ترامب خلال الأسبوعين الماضيين بالضرورة أنها ستبقى ثابتة، أو أن ترامب لن يغير أو يعدل ولو جزئيا من مواقفه الجديدة، ولكن يمكن القول ببعض الثقة، إنه يدرك الآن أن عليه أن يتعلم ويتدرب أكثر على معالجة التحديات الصعبة التي سلبته بعضا من سذاجته الأولية، وأن عليه أن لا يتبع مشورة مستشاريه من منظري “اليمين القومي” مثل ستيفن بانون وغيره من الذين شجعوه على تحدي الصين تجاريا وعدم ضرب نظام الأسد، وأن يستمع أكثر إلى نصائح مستشاريه “الراشدين” مثل وزير الدفاع ماتيس ومستشار الأمن القومي ماكماستر.