في معترك حملتهما الانتخابية قبيل الانتخابات الرئاسية في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني، حددت المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس والمرشح الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب أجندات مختلفة تماماً في السياسة الاقتصادية. ونظراً للعلاقات الوثيقة بين السعودية الولايات المتحدة من خلال سوق النفط العالمي وارتباط سعر الصرف بالدولار منذ أمد بعيد، فإن اقتصاد السعودية سيتأثر بأي تحولات كبيرة تحدث بعد الانتخابات في الأفق الاقتصادي للولايات المتحدة نتيجة لهذه الاختلافات في السياسات.
الاختلافات الرئيسية في السياسات الاقتصادية الكلية
يبدو أن هناك أربع اختلافات رئيسية هامة في السياسات الاقتصادية الكلية بين هاريس وترامب، تلك الاختلافات من شأنها أن تؤثر على الاقتصاد الأمريكي بعد الانتخابات.
السياسة المالية
أعلن كلاً من المرشحين عن مبادرات مالية جديدة مكلفة، وفي الوقت نفسه، تجنبا مناقشة التحديات المالية طويلة الأمد التي تواجه الولايات المتحدة. تقترح هاريس مزيجاً من التخفيضات الضريبية وزيادة في الضرائب المفروضة على الأثرياء وزيادة الإنفاق. وتتمحور مقترحات ترامب بشكل أساسي على خفض الضرائب على الأفراد والشركات. وفقًا للجنة الميزانية الفيدرالية المسؤولة، من المرجح أن تؤدي مقترحات ترامب إلى زيادة ديون الحكومة الفيدرالية بنسبة أكبر مقارنة بالزيادة الناجمة عن مقترحات هاريس- 7.5 تريليون دولار (17٪ من الناتج المحلي الإجمالي) مقارنة بـ 3.5 تريليون دولار (8٪ من الناتج المحلي الإجمالي) على التوالي بحلول عام 2035. إن هذه الزيادات، بالإضافة إلى تقديرات مفادها أن ديون الحكومة الفيدرالية سوف ترتفع من 99٪ من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024 إلى 125٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035، في حال استمرار تطبيق السياسات الحالية.
خلاصة القول: ستبقى ديون الحكومة الفيدرالية في مسار تصاعدي بصرف النظر عمن سيفوز في الانتخابات، ولكن من المرجح أن ترتفع بوتيرة أسرع في ظل إدارة ترامب.
السياسة النقدية
قالت هاريس بأنها ستحترم استقلالية هيئة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. على العكس من موقف ترامب، الذي هو من أشد منتقدي سياسة الاحتياطي الفيدرالي. فقد ذهب ترامب إلى حد اقتراح أن يكون للرئيس دور في عملية اتخاذ القرارات التي تحدد أسعار الفائدة. وفي حين أنه لم يوضح كيف يمكن أن يحاول التأثير على الاحتياطي الفيدرالي بما يتجاوز خطاباته وسلطته في ترشيح رئيس هيئة الاحتياطي الفيدرالي وغيره ممن يتم تعيينهم في مجلس الإدارة (بشرط مصادقة مجلس الشيوخ)، إلا أن أي إضعاف ملموس لاستقلالية هيئة الاحتياطي الفيدرالي من شأنه أن يلحق ضرراً جسيماً بالاقتصاد الأمريكي ومكانته في النظام المالي العالمي.
خلاصة القول: إذا تم انتخاب ترامب، فإن استقلالية الاحتياطي الفيدرالي ومصداقية السياسة النقدية الأمريكية ستوضع تحت المجهر.
سياسة الطاقة
لقد ارتبطت عبارتا: “احفر يا عزيزي احفر” و”أنا أكره الرياح” بنهج ترامب في سياسة الطاقة. ومن المتوقع من إدارة ثانية لترامب أن تعمل على تخفيف القيود المفروضة على الترخيص لتطوير الوقود الأحفوري، وتقليص القيود البيئية، وتقليص أو إلغاء الدعم الفيدرالي للطاقة النظيفة. وبعد أن تراجعت عن دعواتها السابقة لحظر عملية التكسير الهيدروليكي لاستخراج النفط والغاز من الصخر الزيتي، وتحميل شركات النفط مسؤولية تكلفة التغير المناخي، من المرجح أن تستمر هاريس في سياسة إدارة الرئيس جوزيف بايدن المتمثلة في تشجيع تطوير الطاقة النظيفة، واستخدام المركبات الكهربائية، مع الإقرار بأن الوقود الأحفوري يبقى جزءاً أساسياً في مزيج الطاقة الأمريكي. وعلى الرغم من أجندة إدارة بايدن الطموحة بشأن المناخ، إلا أنها قد أشرفت على زيادة إنتاج النفط الأمريكي إلى أعلى مستوى له على الإطلاق، وأصبحت الولايات المتحدة هي أكبر دولة منتجة للنفط في العالم اليوم.
خلاصة القول: سوف يزداد إنتاج الولايات المتحدة من النفط بشكل أسرع، وسوف يتباطأ أكثر تنامي الطاقة النظيفة في ظل إدارة ترامب.
سياسات التجارة والاستثمار الأجنبي
من المرجح أن تستمر هاريس في نهج إدارة بايدن الخاص بالتجارة والاستثمار الأجنبي. لقد حافظت إدارة بايدن على معظم التعريفات الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب السابقة، وأضافت تعريفات انتقائية جديدة، واستخدمت الإعانات لتشجيع الإنتاج المحلي في القطاعات الصناعية الرئيسية، ومنعت الاستثمار الأجنبي في القطاعات التي تعتبر أساسية للأمن القومي. وقال ترامب إنه سيقوم بتطبيق زيادة شاملة للتعريفات الجمركية، واختص الواردات الصينية على وجه التحديد بنسبة عالية من هذه التعريفات الجمركية.
من المرجح أن تصبح صادرات التكنولوجيا المتقدمة مصدراً للقلق المتزايد في ظل أياً من الإدارتين. وسوف يتعين على شركاء الولايات المتحدة في مجال التجارة توخي الحذر في إدارة علاقاتهم مع أطراف ثالثة، وخاصة الصين، للحصول على هذه الصادرات.
خلاصة القول: لن يشهد التحول نحو تطبيق المزيد من سياسات الحمائية التجارية أي تراجع في ظل أي من المرشحين، ولكن من المرجح أن تتبنى هاريس نهجاً أقل تصعيداً في التجارة مقارنة بترامب.
التأثير على النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة
من الصعب أن نحكم على كيفية تأثر الاقتصاد الأمريكي بالسياسات التي حددها كلاً من المرشحين. أولاً، على الأغلب لا تتحول الوعود التي تم التعهد بها أثناء الحملة الانتخابية لسياسات يتم تطبيقها، وذلك إما لأن المرشح الفائز يتراجع عنها بمجرد انتخابه، أو لأنه يتم تعديل أجندته السياسية أو حجبها من قبل الكونغرس، أو يتم تأجيل هذه السياسة أو حجبها بنجاح بسبب الطعون في المحاكم. ثانياً، من الصعب أن نعرف كيف سيؤثر أي تغيير في السياسات على النمو عندما تكون هناك الكثير من التيارات المتقاطعة الأخرى التي تؤثر على الاقتصاد في الوقت ذاته. ثالثًا، بعض المقترحات السياسية تدفع نحو اتجاهات مختلفة. على سبيل المثال، قد تعزز سياسة مالية توسعية النمو على الأمد القريب، ولكن فرض التعريفات الجمركية المرتفعة من شأنه أن يرفع التكاليف، ما قد يؤدي إلى تباطؤ النمو، في حين أنه من المرجح أن يتسبب التضخم المالي المرتفع في تقييد قدرة الاحتياطي الفيدرالي على تخفيف السياسة النقدية.
أشارت توقعات عدة جهات، من بينها جولدمان ساكس وموديز، أن إدارة هاريس ستكون خيار أفضل لنمو اقتصاد الولايات المتحدة على المدى القريب، على الرغم من أن الاقتصاديين المقربين من ترامب يعارضون هذا التنبؤ. ولعل أكثر ما يثير القلق من منظور النمو، هو الخطر المتمثل في أن تؤدي الزيادة الكبيرة في التعريفات الجمركية، التي يعتزم ترامب فرضها، لإشعال حرب تجارية عالمية إذا رد شركاء أمريكا التجاريون بالمثل. من شأن سيناريو من هذا القبيل أن يتسبب في تأثيرات سلبية كبيرة على النمو في الولايات المتحدة والعالم.
التأثيرات المحتملة على السعودية
نظراً لدور الولايات المتحدة المركزي في الاقتصاد العالمي، فإن ما يحدث فيها له أهمية كبرى بالنسبة لبقية العالم. ولا تعتبر السعودية استثناءاً من ذلك نظراً لعلاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة، ودورها المركزي في سوق النفط العالمي، وربط سعر الصرف فيها (إلى جانب دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى باستثناء الكويت) بالدولار الأمريكي منذ أمد بعيد، ما يسمح لها بالاستفادة من مصداقية السياسة النقدية الأمريكية. ولقد أكدت الدراسات الاقتصادية أن صحة الاقتصاد الأمريكي تعد من أهم العوامل الحاسمة للنمو الاقتصادي السعودي.
يتمثل المسار الرئيسي الذي يمكن من خلاله للانتخابات الأمريكية أن يؤثر على الاقتصاد السعودي في عام 2025 هو الطلب على النفط. إن التغيرات في النمو الاقتصادي الأمريكي بعد الانتخابات ستؤثر على الطلب على النفط في البلاد، وسينعكس ذلك على أسعار النفط، وربما على إنتاج النفط السعودي إذا واصلت المملكة سعيها لتحقيق التوازن بين العرض والطلب في سوق النفط العالمي. كما سيكون لمسار السياسة النقدية والمالية الأمريكية أهمية خاصة. فأسعار الفائدة في السعودية تتبع الولايات المتحدة بشكل وثيق بسبب الترابط في سعر الصرف. إن السياسة المالية المفرطة في التوسع أو الزيادة الحادة في أسعار التعريفات الجمركية عقب الانتخابات قد تضع ضغوطًا تصاعدية متجددة على التضخم المالي، وتقلل من قدرة الاحتياطي الفيدرالي على الاستمرار في تخفيض أسعار الفائدة. وسيؤثر هذا على السياسة النقدية في السعودية مع ما يصحبه من انعكاسات على نمو الائتمان والاقتصاد. ومع ذلك، فمن غير المرجح أن يكون تأثير الانتخابات على الاقتصاد السعودي في عام 2025 كبيراً، ما لم تشتعل حرب تجارية عالمية نتيجة لفرض الولايات المتحدة لتعريفات جمركية مرتفعة. وفي مثل هذا السيناريو، فإنه من شأن التباطؤ الكبير في النمو العالمي أن يؤثر بشكل ملموس على الطلب على النفط.
أما بعد عام 2025، فإن السعودية قد تتأثر بالاختلافات في سياسة الطاقة الأمريكية. في حين أن استراتيجية ترامب المؤيدة للوقود الأحفوري، والتي من شأنها أن تسمح بزيادة كبيرة في التنقيب والتكسير الهيدروليكي قد تؤدي إلى زيادة في إنتاج النفط الأمريكي مقارنة بإدارة هاريس، إلا أنه من المرجح أن تشهد سياسات الولايات المتحدة كذلك تباطؤاً في تطوير الطاقة النظيفة. ولن تكون هذه التأثيرات فورية لأن قرارات الاستثمار الجديدة التي تدفعها تغييرات السياسة بعد الانتخابات سوف تستغرق وقتاً طويلاً حتى تؤثر على حجم إنتاج النفط والطاقة النظيفة. ومع ذلك، فإنه لن يتضح على الفور ما إذا كانت هذه الاختلافات في سياسات الطاقة ستكون إيجابية أو سلبية بالنسبة للسعودية. إذا تزامن ارتفاع إمدادات النفط الأمريكية في ظل إدارة ترامب مع ارتفاع في الطلب الأمريكي على النفط (لأن إمدادات الطاقة النظيفة أقل، على سبيل المثال) فلن يتأثر سوق النفط العالمي بشكل واضح (لأنه في هذه الحالة سيكون العرض والطلب في ازدياد)، وسيتم تحديد ذلك التأثير من خلال القوة النسبية للتأثيرين. ولا تزال طريقة تقييم السعوديين أنفسهم لإمكانية زيادة إنتاج النفط الأمريكي وتصديره في ظل إدارة ترامب غير واضحة. كانت الزيادة في إنتاج النفط الأمريكي في السنوات الأخيرة أحد العوامل وراء التخفيضات الكبيرة في الإنتاج التي قامت بها السعودية بموجب اتفاق تحالف أوبك بلس في محاولة لضمان بقاء سوق النفط العالمية في حالة توازن.
ستكون سياسات التجارة والاستثمار الأجنبي الأمريكية بعد الانتخابات مهمة أيضًا بالنسبة للسعودية. فتطوير التكنولوجيا والصناعات العسكرية السعودية يعد عنصراً رئيسياً من عناصر إصلاحات رؤية 2030. ولدعم هذا التطور، تحرص المملكة على الحصول على رقائق الكمبيوتر المتطورة وغيرها من التقنيات المتقدمة من الشركات الأمريكية. كما أنها تستثمر في الشركات الأمريكية لتشجيع التحويلات التكنولوجية إلى المملكة. ومع ذلك، فإنه من المرجح أن تتعمق مخاوف الولايات المتحدة بشأن المخاطر الأمنية القادمة من الصين وغيرها في عهد الرئيس المقبل، وقد يتسبب ذلك في فرض المزيد من القيود على صادرات التكنولوجيا فائقة التطور عندما تكون هناك مخاوف بشأن المكان الذي يمكن أن تصل إليه هذه التكنولوجيا. بالنسبة للسعودية، حيث العلاقات مع كلٍ من الولايات المتحدة والصين مهمة اقتصادياً، فإن هذا قد يتسبب في اتخاذ بعض القرارات الصعبة. وفي ظل اقتصاد عالمي متزايد التفكك، فإن التعامل بطريقة محايدة بين القوتين الاقتصاديتين المهيمنتين قد يصبح أصعب. ويمكن لأي خطوات خاطئة أن تنعكس سلباً على عملية التنويع الاقتصادي.
وأخيرًا، ربما يكمن التأثير المحتمل الأكبر على السعودية على المدى الطويل في عدم تركيز أي من المرشحين الرئاسيين على التحديات المالية التي تواجه الولايات المتحدة. لقد ارتفعت ديون الحكومة الفيدرالية بشكل حاد على مدى السنوات الخمس الماضية ومن المتوقع أن ترتفع أيضاً بشكل كبير خلال العقد المقبل بصرف النظر عمن سيفوز في الانتخابات. مع اقتراح كلا المرشحين سياسات من شأنها أن تزيد حجم الديون، يبدو أنه لا توجد رغبة سياسية في ضبط المالية العامة. ربما لا يشكل ذلك مخاوف فورية نظراً لمكانة الولايات المتحدة القوية في النظام المالي العالمي، ولكن سوف تزداد مخاوف المستثمرين في نهاية المطاف بشأن استدامة ديون الحكومة الأمريكية إذا لم يتم اتخاذ إجراء لمعالجة الأسباب الجذرية لزيادتها. وستتفاقم هذه المخاوف المالية نتيجة لأي ضعف يمكن أن يحدث لاستقلالية هيئة الاحتياطي الفيدرالي.
بالنسبة لدولة مثل السعودية التي ترتبط عملتها بالدولار الأمريكي، فإن مصداقية السياسة النقدية والمالية للولايات المتحدة تعد أمراً ضرورياً لكي تفوق فوائد هذا الربط تكاليفه. كما أن زيادة التقلبات الاقتصادية والمالية، التي من المرجح أن تحدث إذا ثارت مخاوف في الأسواق المالية بسبب استدامة ديون الحكومة الأمريكية، من شأنها أن تجعل عملية ربط العملة المحلية بالدولار خياراً سياسياً أقل جاذبية مما كان عليه في الماضي. إلى جانب الجهود المبذولة حالياً في إطار رؤية 2030 لتنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط، يمكن لهذا الأمر أن يؤدي إلى تسريع وتيرة الابتعاد عن الارتباط بالدولار نحو سياسة أكثر مرونة لسعر الصرف في المملكة.