ظلت الهند وباكستان، وهما الطرفات الفاعلان المهيمنان على الطيف السياسي في جنوب آسيا، على خلاف منذ أغسطس/آب من عام 2019، عندما قامت الحكومة الهندية، بزعامة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، بإلغاء الوضع الخاص لجامو وكشمير، اللتين تديرهما الهند على النحو المنصوص عليه في الدستور الهندي. كان وضع جامو وكشمير بؤرة توتر سياسي بين الهند وباكستان منذ حصول الدولتين على استقلالهما عن بريطانيا. وكانت العلاقات الثنائية قد تدهورت بعد تنفيذ هجوم على القوات الهندية شبه العسكرية في كشمير، الأمر الذي أثار غارات جوية متبادلة شنتها القوات الجوية الهندية والباكستانية عبر الخطوط الأمامية المتنازع عليها في كشمير في أوائل عام 2019.
ومع ذلك، وفي تحول مفاجئ للأحداث، تراجعت حدة الصراع السياسي، الملتهبة، بين القوتين النوويتين بسرعة عندما توصل الجانبان إلى اتفاقية في فبراير/شباط للالتزام باتفاقية وقف إطلاق النار لعام 2003 عبر خط السيطرة – وهو الحدود الفعلية التي تفصل بين مناطق كشمير، التي تديرها باكستان، وتلك التي تديرها الهند. ومع ذلك، وعلى عكس الأحداث السابقة التي كانت تلعب فيها القوى العظمى، ولا سيما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، دوراً حاسماً في نزع فتيل التوترات الثنائية، جاء وسيط السلام هذه المرة لاعباً خليجياً أصغر نسبياً، ولكنه مؤثر، ألا وهو الإمارات العربية المتحدة. لقد سبق أن واجهت الإمارات مقاومة عندما طرحت فكرة الحوار الثنائي نفسها، وأصبح الخطاب العام داخل باكستان على وجه الخصوص معادياً تماماً للإمارات. وبالرغم من ذلك، فقد حدث مزيج من التطورات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، إلى جانت التحديات السياسية والاقتصادية المتصاعدة على الجبهة الداخلية لكل من الحكومتين الهندية والباكستانية، كان من شأنها خلق التوقيت الصحيح لتحقيق هذه المبادرة الإماراتية.
لقد كانت باكستان تقليدياً الشريك والحليف الأهم للإمارات. حيث كان لضباط من القوات المسلحة الباكستانية دور حاسم في تطوير البنية التحتية الدفاعية للإمارات، وسلاحها الجوي على وجه الخصوص. من جانبها، دأبت الإمارات على دعم باكستان بشكل منتظم في أجندتها للسياسة الخارجية، بما في ذلك الاعتراف بحكومة طالبان في أفغانستان، قبل عام 2001، إلى جانب باكستان، ودعمت قرارات مجلس الأمن بشأن كشمير.
بدأ هذا النهج الإماراتي تجاه جنوب آسيا بالتغيّر تدريجياً مع ظهور الهند كقوة اقتصادية. كان لرفض باكستان الانضمام إلى التدخل العسكري السعودي والإماراتي في اليمن عام 2015 تأثير سلبي إضافي على العلاقات الثنائية. في الوقت نفسه، تعززت العلاقات الاقتصادية بين الإمارات والهند، وكان ولي عهد أبوظبي والحاكم الفعلي لدولة الإمارات، محمد بن زايد آل نهيان، الضيف الرئيسي في العرض العسكري الذي أقيم بمناسبة الاحتفال باليوم الجمهوري في الهند عام 2017.
وفي الآونة الأخيرة، أصبح من الممكن العودة إلى التقارب الجزئي بين الإمارات وباكستان بفضل الجهود الشخصية التي يبذلها قائد الجيش الباكستاني الجنرال قمر جاويد باجوا، والتي أدت إلى قيام محمد بن زايد بزيارة رسمية إلى باكستان في يناير/كانون الثاني 2019 وهي الأولى من نوعها منذ 12 عامًا. وقد تُرجمت هذه النوايا الحسنة السياسية الجديدة إلى حزمة مالية لباكستان، حيث أودعت الإمارات ملياري دولار في بنك الدولة الباكستاني كاحتياطي من العملات الأجنبية بسبب الضغط على إسلام أباد لتسديد مدفوعات الديون الدولية. كان هذا بمثابة دعمٍ كبير لباكستان والحكومة الجديدة بقيادة رئيس الوزراء عمران خان، التي واجهت أزمة اقتصادية متزايدة. ومع ذلك، لم تتعافَ أبدًا العلاقة الباكستانية-الإماراتية بشكل كامل، ووضعتها التطورات الجيوسياسية مجدداً في بحار عاتية.
عندما ألغت الهند الوضع الخاص بكشمير، ردت باكستان بقوة، وطلبت الدعم من حلفائها وشركائها التقليديين في العالم الإسلامي. أرسلت الإمارات وزير خارجيتها إلى إسلام أباد تعبيراً عن تضامنها، ولكنها أكدت للقيادة الباكستانية أن كشمير تبقى قضية ثنائية بين الهند وباكستان، ولا ينبغي أن تصبح قضية الأمة الإسلامية أو المجتمع المسلم. كان هذا ازدراءً كبيراً لباكستان، التي توقعت، ربما بشكل غير واقعي نظراً لما في ذلك من مخاطر، من كتلة الدول الإسلامية أن تقف معها في مواجهتها المحتملة مع الهند. جاءت الكلمات الوحيدة التي تعبر عن الدعم السياسي المطلوب لموقف باكستان بشأن كشمير من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في حين قامت حكومة الإمارات بتكريم مودي بـ “وسام زايد“، في أغسطس/آب 2019، وهو أعلى وسام مدني فيها.
أكدت هذه التطورات على قوة الروابط الإماراتية-الهندية وطبيعتها الاستراتيجية، ولكنها أكدت كذلك على العزوف المشترك عن السياسات والحركات الإسلامية. في هذه الأثناء، عززت باكستان روابطها السياسية والأمنية مع تركيا، مبتعدةً عن تحالفاتها التقليدية المتمركزة في الخليج. ومع ذلك، لم تؤدِّ هذه التباينات في السياسة الخارجية أبداً إلى تعطيل قنوات الاتصال الثنائية بين باكستان والإمارات بشكل كامل. وعلى العكس من المملكة العربية السعودية، قامت الإمارات في الأسابيع الأخيرة بتوسيع ترتيبات الدعم المالي مع باكستان. كما أن العلاقات الإماراتية مع المؤسسة الأمنية الباكستانية لم تتأثر.
هذه العلاقات الراسخة بين الإمارات وكل من باكستان والهند وضعت أبوظبي في موقع يسمح لها بتسهيل التعاون الثنائي بين جيرانها في جنوب آسيا إذا توفرت الإرادة السياسية لدى كلا الطرفين.
ومع ذلك، فقد بقيت الإرادة السياسية هزيلة، حيث اتخذت الهند وباكستان مواقف متشددة وتشبثت كل منهما بموقفها. رفضت حكومة مودي القومية الهندوسية اليمينية بشكل مستمر إمكانية إجراء محادثات مع دولة باكستانية متهمة بالتحريض على الهجمات الإرهابية في الهند. وأوضحت الحكومة الباكستانية أنه لن يكون هنالك أي تعاون مع الهند ما لم تتم استعادة الوضع الخاص لكشمير. ومع ذلك فقد بدأ كلا الجانبين بالتخفيف من هذه المواقف المتطرفة بحلول أوائل عام 2021 نظراً لعدة أسباب.
من وجهة النظر الهندية، كان من الممكن أن يستمر الوضع السياسي الراهن مع باكستان إلى أجل غير مسمى، ولكن فتح جبهة لاداخ (Ladakh) الشرقية مع الصين في مايو/أيار 2020 وما ترتب على ذلك من زحف للقوات الصينية على المناطق التي تطالب بها الهند جاء بمثابة صدمة سياسية واستراتيجية. حيث استولت الصين على عدة مئات من الأميال من المناطق التي تطالب بها الهند، واستولت أيضًا على موقع مفيدٍ استراتيجيًا من شأنه أن يعرض المواقع العسكرية الهندية في شمال شرق لاداخ للخطر. لقد أعادت هذه الحادثة الصين بشكل فعال إلى “الثلاثي الاستراتيجي” مقابل كشمير. كانت هذه هي المرة الأولى منذ عام 1962، التي يضطر فيها الجيش الهندي إلى إجراء تقييم جاد للكابوس الاستراتيجي لحرب على جبهتين مع جارتيه النوويتين. ولمواجهة هذا التحدي، اضطرت الهند إلى مراجعة سياستها تجاه باكستان.
من وجهة النظر الباكستانية، كانت التحديات المستمرة على الجبهة الاقتصادية، وندرة الخيارات المتعلقة بكشمير، وحالة الارتياب السياسي التي تكتنف عملية السلام الأفغانية بسبب الإدارة الجديدة في واشنطن، جميعها من العوامل الرئيسية التي تدعم تحول السياسة في الهند. ولعلها المرة الأولى في تاريخ البلاد، التي يؤكد فيها أصحاب المصلحة في الأمن القومي، ولأسباب لا تتعلق بالنزاع في كشمير، على أهمية الأمن الاقتصادي لتحقيق السيادة الوطنية، الأمر الذي يستلزم الابتعاد عن الجغرافيا السياسية إلى الجغرافيا الاقتصادية. باختصار، قد يكون لتطور العقيدة الاستراتيجية في باكستان، والذي يبرز أهمية الاقتصاد، أثر على بعض الاعتبارات، الضيقة الأفق، فيما يتعلق بكشمير، وذلك على الرغم من سيطرة كشمير بقوة على الأفق الاستراتيجي. لم تعد باكستان قادرة على تحمل سياسات المواجهة، وأصبحت أكثر تقبلاً للحوار مع الهند بوساطة إماراتية.
بالنسبة للإمارات، فإن هذه المبادرة الدبلوماسية مع الهند وباكستان تضيف وزناً آخر لغطاء قوتها الناعمة بعد إنجاز اتفاقيات إبراهام مع إسرائيل، وتمثل بداية انحراف إيجابي آخر عن تدخلاتها العسكرية المثيرة للجدل في ليبيا واليمن. كما يساعد هذا المشروع الإماراتي أيضاً في إقناع واشنطن بأهمية الإمارات كشريك إقليمي لضمان أهداف السياسة الخارجية الأمريكية المهمة التي تضمن بقاء جنوب آسيا مستقراً وآمنًا.
وفي غضون ذلك، ما تزال أفغانستان بالنسبة للإمارات تمثل بؤرة توتر ساخنة رئيسية في المنطقة. وعلى الرغم من جهودها وعقدها لاجتماع بين الولايات المتحدة وطالبان بترتيب مع باكستان، إلا أن الإمارات لم تتمكن من ممارسة المستوى نفسه من النفوذ أو الأهمية السياسية، الذي مارسته بشكل ملحوظ، في الصراع اليمني. ويعزى ذلك بشكل أساسي إلى إصرار أبوظبي والرياض على إشراك ممثلين عن الحكومة الأفغانية في المحادثات بين الولايات المتحدة وطالبان، الأمر الذي رفضته طالبان وتحولت بدلاً من ذلك إلى الحوار مع الولايات المتحدة في قطر. لذلك بقيت عملية السلام الأفغانية من صلاحيات قطر، وسيكون الموقع الجديد للحوار الداخلي بين الأفغان هو تركيا، وهي منافس إقليمي آخر للإمارات.
يمكن أن يكون لنهاية اللعبة الأفغانية وانسحاب القوات الأمريكية في نهاية المطاف تداعيات ليس فقط على الدول المجاورة لأفغانستان بشكل مباشر، وإنما أيضاً على دول الخليج. وسيؤدي تشكيل حكومة مؤقتة جديدة إلى رحيل الحكومة الأفغانية الحالية وزعمائها الصوريين، الذين يمثلون نقاط الاتصال الرئيسية مع أبوظبي والرياض. إن تطوراً من هذا القبيل إلى جانب ظهور نظام سياسي تهيمن عليه طالبان في أفغانستان قد يكون عرضة للانفتاح على كل من إيران والإسلاميين السياسيين من مختلف التوجهات، في حين ستفقد الرياض وأبوظبي نفوذهما التقليدي. وهذا سيعني بشكل أساسي أن جميع المساهمات الإماراتية في تنمية أفغانستان والحفاظ على استقرارها منذ 11 سبتمبر/أيلول كشريك في تحالف الولايات المتحدة سوف تذهب أدراج الرياح. ويمكن للاستبعاد من العملية السياسية الأفغانية الحالية أن يؤثر على التصورات المتعلقة بالجهود الإماراتية لترسيخ نفسها كلاعب لا غنى عنه في الوساطة أو في صياغة التطورات في جنوب آسيا، سواء داخل المنطقة أو في واشنطن. ومع ذلك، فإن من شأن إعادة تأهيل الارتباط السياسي والاقتصادي مع باكستان وزيادة المشاركة مع مختلف أصحاب المصلحة في أفغانستان أن يمنح الإمارات بعض النفوذ في الملف الأفغاني، ما سيعزز علاقتها بهذا الصراع أيضاً.
إن التغييرات على رقعة الشطرنج السياسية في جنوب آسيا تعبر عن الحسابات الاستراتيجية المتطورة لكل من الهند وباكستان، وتعرض في الوقت نفسه تأثيراً صينياً أكبر على ديناميكيات الأمن الإقليمي. وسواء كانت هذه التطورات تشير إلى تغيير هيكلي في الخطوط السياسية العامة في جنوب آسيا أم مجرد فصل آخر في قصة طويلة من المناورات الإقليمية من أجل النفوذ والمزايا الاستراتيجية، فمن شبه المؤكد أن الإمارات ستواصل بذل الجهود السياسية والاقتصادية، سعياً لتحقيق طموحاتها الخاصة للتأثير والنفوذ، من أجل أن تلعب دوراً في تعزيز السلام والاستقرار في جنوب آسيا على المدى البعيد.