على مدار العام ونصف العام الماضيين، تحولت الحرب في اليمن إلى صراع منخفض الحدة، تخللته بعض الاشتباكات الدورية التي لم تُحدث ما يكفي لتغيير خطوط السيطرة. يحتفظ الحوثيون – وهم ميليشيا تنتمي إلى مذهب الزيدية الشيعية – بالسيطرة على المرتفعات الشمالية، وهو ما فعلوه تمامًا منذ استيلائهم على العاصمة صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014. ويخضع الجنوب لسيطرة تحالف من القوات التابعة لمجلس القيادة الرئاسي التي تحارب الحوثيين أحيانًا، وتحارب بعضها بعضًا أحيانًا أخرى. فلا الحوثيون ولا مجلس القيادة الرئاسي قادرين على فرض إرادتهم على بقية البلاد. وقد أجرت المملكة العربية السعودية محادثات مباشرة مع الحوثيين في الأشهر الأخيرة، ويبدو أنها تتطلع أكثر من أي وقت مضى لإيجاد مخرج من اليمن.
وهذا يطرح سؤالاً مهمًا: كيف سيبدو اليمن بعد الحرب؟ إذا قُدر للحرب أن تنتهي اليوم، فإن النتيجة المرجحة ستكون تقسيم اليمن إلى يمن شمالي يحكمه الحوثيون، ويمن جنوبي تحت سيطرة مجلس القيادة الرئاسي. لكن السؤال هو: هل تتوفر القدرة للحوثيين أو لمجلس القيادة الرئاسي على حكم دولة ناجحة تتمتع بالسلام والاستقلال؟ تتناول هذه السلسلة المكونة من جزأين التحديات التي تواجه الطرفين في سعيهما للانتقال من الحكم في زمن الحرب إلى الحكم في زمن السلام.
طوال فترة طويلة من العقد الماضي، ومنذ سيطرة الحوثيين على صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014، كانوا يُعدون لليوم الذي ستحكم جماعتهم اليمن. وفي عام 2016، أبدت الجماعة نوعًا من المرونة من خلال شراكتها مع خصمها القديم، الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وتشكيل المجلس السياسي الأعلى الهادف إلى حكم شمال اليمن بشكل مشترك. وليس من المستغرب ألا يدوم التحالف بين صالح والحوثيين لفترة طويلة. في ديسمبر/كانون الأول 2017، انشق صالح عن الحوثيين، وبعد أيام قليلة أعدمته الجماعة أثناء محاولته الهروب من صنعاء.
على الرغم من أن المجلس السياسي الأعلى قد ظل موجودًا بعد وفاة علي عبد الله صالح، واحتفظ حزبه “المؤتمر الشعبي العام” بنصف مقاعد المجلس، فقد حكم الحوثيون صنعاء بصورة فعلية دون معارضة منذ ديسمبر/كانون الأول 2017. وقد قامت الجماعة بإجراء تعديلات على أجهزة المخابرات، وشكلت بنية بديلة للسلطة من خلال النظام الإشرافي، ومراجعة البنية الضريبية، وأعادت كتابة الكتب المدرسية الحكومية.
وقد تم إجراء معظم هذه التغييرات مع الأخذ بعين الاعتبار هدفًا قصير المدى وآخر طويل المدى. على المدى القصير، أراد الحوثيون ضمان نجاتهم الفورية من الحرب التي يخوضونها ضد السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وحكومة اليمن المعترف بها من قبل الأمم المتحدة. وعلى المدى الطويل، كان الحوثيون يضعون حجر الأساس لتشكيل دولة زيدية بزعامتهم.
من الواضح أن الحوثيين قد نجوا، وقد كسبوا الحرب بطرق عديدة؛ ما يزالون يحتفظون بالعاصمة التي استولوا عليها في عام 2014، ولم يتخلو طوعًا عن السلطة في الشمال، لا توجد أي طريقة واضحة تجبر الحوثيين على قبول أي نوع من اتفاقيات تقاسم السلطة التي من شأنها الحفاظ على اليمن الموحد. ولكن على الرغم من كل النجاح الذي حققه الحوثيون خلال الحرب، فليس من الواضح ما إذا كان بإمكانهم التحول إلى حكومة فعالة. وعندما تنتهي الحرب أخيرًا، سيواجه الحوثيون ثلاثة تحديات مترابطة – سياسية وحكومية واقتصادية – من شأنها أن تحدد بقاء الدولة الزيدية في الشمال من عدمه.
تعد المشكلة السياسية بمثابة المشكلة الأولى والأوضح التي سيواجهها الحوثيون، وتتمثل في افتقار الجماعة إلى حلفاء محليين. احتاج الحوثيون لمساعدة صالح وحزب المؤتمر الشعبي العام التابع له من أجل الاستيلاء على صنعاء في عام 2014، واحتاجوا إلى المؤتمر الشعبي العام مرة أخرى في عام 2016 لتشكيل المجلس السياسي الأعلى. منذ وفاة صالح في عام 2017، ظل المؤتمر الشعبي العام بعيدًا عن الأضواء، وكان يتماشى في معظم الأحيان مع كل ما يأمر به الحوثيون، لكن بدأت الانقسامات تظهر على السطح مؤخرًا. في أواخر أغسطس/آب، أعرب صادق أمين أبو راس، رئيس المؤتمر الشعبي العام وعضو المجلس السياسي الأعلى، عن دعمه لليمنيين الذين شعروا بالإحباط بسبب عجز الحوثيين، وعدم رغبتهم في دفع الرواتب الحكومية كاملة. وفي معرض رده على أبو راس، اقترح محمد الحوثي، عضو المجلس السياسي الأعلى، أن يقوم الحوثيون بالاستيلاء على منازل وممتلكات أعضاء المؤتمر الشعبي العام، وبيعها لتغطية العجز في الميزانية.
اشتد الصراع بين المؤتمر الشعبي العام والحوثيين في الأسابيع الأخيرة. ولم يسافر أي من أعضاء المؤتمر الشعبي العام مع الحوثيين إلى السعودية في سبتمبر/أيلول لإجراء محادثات مباشرة حول إنهاء الحرب. وفي 27 سبتمبر/أيلول، قام الحوثيون متذرعين “بالتغيير الجذري” بإقالة الحكومة التي يقودها المؤتمر الشعبي العام، والتي يتزعمها رئيس الوزراء عبد العزيز بن حبتور أحد أعضاء المؤتمر الشعبي العام.
وقد اتبع الحوثيون نهجًا مماثلاً في التعامل مع تحالف قبائل حاشد، أكبر تحالف قبلي في اليمن. في كانون يناير/الثاني، عندما توفي رئيس التحالف صادق الأحمر، استخف الحوثيون بالعائلة، حيث لم يرسلو ممثل عنهم لحضور الجنازة. ربما يمكن اعتبار ذلك ضغينة يعود تاريخها إلى عقود من الزمن بسبب المعارضة المسلحة التي قامت بها عائلة الأحمر ضد الحوثيين في عامي 2005 و2006. ولكن بعد ذلك، خلال الصيف، بدأ الحوثيون يلمحون إلى أن الوقت قد حان لاستبدال حميَر، الأخ الأصغر لصادق، والذي تولى قيادة تحالف حاشد، والمضي قدمًا من دون عائلة الأحمر قاطبةً.
من الواضح أن الحوثيين يحاولون تحييد المنافسين المحليين المحتملين مع تعزيز سيطرة الجماعة أحادية الجانب على الشمال. وقد تعود هذه السياسة الاقصائية لتطارد الحوثيين بما يشبه إلى حد كبير الطريقة ذاتها التي اتبعها آخر حكام الزيديين في شمال اليمن، أئمة حميد الدين، في تقويض حكمهم في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
في عهد أئمة حميد الدين، كان تحالف قبيلتي حاشد وبكيل يوصف في كثير من الأحيان بأنهما “جناحا” الإمامة. ومن دون دعمهما، لم يكن من الممكن للإمامة أن تؤدي وظيفتها. وقد تم وضع هذه المقولة على المحك في عام 1959 عندما قام إمام زيدي بإعدام أحد أفراد عائلة الأحمر، التي كانت آنذاك، كما هو الحال الآن، تقود تحالف حاشد. وبعد ثلاث سنوات، تمت الإطاحة بأئمة حميد الدين في ثورة دعمها تحالف حاشد بقوة.
لتوطيد حكمهم، اعتمد الحوثيون على دعم كل من المؤتمر الشعبي العام وتحالف حاشد. إذا قام الحوثيون باستبعاد هاتين الجماعتين فقد ينتهي بهم الأمر بوضع أشبه ما يكون بوضع أئمة حميد الدين: دون شعبية ودون دعم.
التحدي الثاني الذي يواجهه الحوثيون هو كيفية الانتقال من كونهم ميليشيا حرب عصابات تحارب بارتياح في تمرد طويل الأمد إلى حكومة فاعلة. استفاد الحوثيون، طوال فترة الحرب، من تأثير شعار “الالتفاف حول العلم”. وبوضع أنفسهم كرأس الحربة في التصدي لحملة القصف السعودية-الإماراتية المشتركة، حصل الحوثيون على تصريحٍ للحكم. كانت الجماهير المحلية على استعداد للتغاضي عن أخطاء الحوثيين وتجاوزاتهم السياسية ما دامت الطائرات السعودية والإماراتية تقصف أهدافًا في شمال اليمن، ولكن مع تراجع القصف، تضاءل أيضًا صبر الجماهير المحلية على تكتيكات الحوثيين.
لم يخضع الحوثيون للمساءلة قط. بدأت الجماعة في الثمانينيات، بتشكيل معسكرات صيفية تهدف إلى تعريف الشباب اليمني بتعاليم الزيدية التقليدية، وتدريبهم على كيفية الدفاع عن العقيدة. كان الحوثيون، ولفترة طويلة من العقدين الماضيين، في حالة حرب، في البداية مع حكومة صالح، والآن مع السعودية وحلفائها المحليين. إن تغيير عقليتها من جماعة تحت الحصار وعلى وشك الانقراض سياسيًا، وهو ما يشعر به الحوثيون منذ بداية تأسيس الجماعة، إلى عقلية تهتم بالتفاصيل اليومية للحكم سيكون أمرًا صعبًا عليهم. ولم يظهر الحوثيون سوى القليل من الرغبة في قبول الانتقادات. وفي ظل غياب عدو خارجي لمحاربته، فإن الحوثيين قد يحتاجون للبحث عن عدو خارجي.
التحدي الثالث، وربما الأهم، الذي يواجهه الحوثيون في إنشاء دولة مستقلة في الشمال هو التحدي الاقتصادي. الحوثيون ببساطة لا يملكون الموارد المالية اللازمة لدعم الحكومة ودفع الرواتب، والاستثمار في البنية التحتية، وإعادة الإعمار التي ستكون ضرورية في سيناريو ما بعد الحرب. كما أن الجماعة لا تسيطر على حقول النفط والغاز التي تسمح لها بجني الأموال في الأسواق العالمية. إن إدراك الحوثيين لهذا الأمر هو ما دفعهم إلى حد كبير لشن هجمات متتالية على مأرب منذ عام 2020. ولكن كان الحوثيون يخفقون في تحقيق ذلك كل مرة، حيث كانت القوة الجوية السعودية تثبت أنها حاسمة. أما الآن وقد اقتربت الحرب من نهايتها كما يبدو، فإن الحوثيين قد أصبحوا في وضع صعب؛ فالجماعة تسيطر على الأرض، ولكنها لا تملك الموارد المالية اللازمة للحفاظ عليها. وبطبيعة الحال، يمكن للحوثيين دائمًا القيام بمحاولة أخرى على مأرب بعد الانسحاب السعودي، ولكن من شبه المؤكد أن ذلك سيؤدي إلى تجدد الضربات الجوية السعودية.
حتى لو تمكن الحوثيون من التغلب على مشاكلهم السياسية المتمثلة في افتقارهم للحلفاء المحليين وتعلموا كيفية الحكم، فلن يتمكنوا من إقامة دولة ناجحة دون أُسس اقتصادية متينة. قبل الحرب، كان النفط والغاز يشكلان ما يقارب 90% من صادرات اليمن، ولا يسيطر الحوثيون على أي منهما حاليًا. وهذا يعني أن الحوثيين سوف يعتمدون على الضرائب المحلية، من السكان الذين يعانون أصلاً من ارتفاع الضرائب وانخفاض الرواتب، أو قد يمدون يدهم للصدقات من حلفائهم الدوليين. في الوقت الراهن، ليس لدى الحوثيين علاقات إلا مع إيران ونظام الرئيس السوري بشار الأسد، ويفتقر كلاهما للوضع الاقتصادي الذي يسمح لهما بالمساهمة كثيرًا في دولة الحوثيين المستقبلية.
على الأرجح، بمجرد اكتمال المفاوضات في نهاية المطاف، سيتم تقسيم اليمن، وسينتهي الأمر بتحمل الحوثيين لمسؤولية دولة في شمال اليمن. لكن هذا لا يعني أن الجماعة ستكون قادرة على إدارة أمور الدولة أو حتى الاحتفاظ بها. وسرعان ما يكتشف الحوثيون أن الفوز في الحرب كان الجزء السهل.
إن الآراء الواردة هنا هي آراء خاصة بالكاتب أو المتحدث ولا تعكس بالضرورة آراء معهد دول الخليج العربية في واشنطن أو موظفيه أو مجلس إدارته.