بعد شهر من القتال المرير بين إسرائيل وحركة حماس في غزة، تبدو الاحصائيات مروعة، والمضاعفات الإقليمية والعالمية للحرب مقلقة، ومن المرجح أن تبقى آثارها مهيمنة على العلاقات الدولية لوقت طويل. خسائر إسرائيل هي أكثر من 1400 قتيل معظمهم من المدنيين، يضاف إليهم عشرات القتلى من العسكريين منذ بدء اجتياح غزة. الخسائر الفلسطينية تزيد عن عشرة آلاف قتيل، أكثريتهم العظمى من المدنيين، بينهم 4 آلاف طفل، جراء الغارات والقصف الإسرائيلي ضد الأماكن المكتظة بالسكان المدنيين، مثل مدينة غزة ومخيم جباليا وغيرها، ما أدى إلى اتهام منظمة هيومان رايتس واتش لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب، وصفت منظمة اليونيسيف غزة بأنها أصبحت “مقبرة لآلاف الاطفال”.
أما المضاعفات السياسية والاقتصادية الإقليمية والعالمية للحرب، فإنها تبدأ بالتغييرات التي ستقلب السياسات والتوازنات داخل إسرائيل وفي أوساط الفلسطينيين رأسًا على عقب خلال القتال وبعد صمت المدافع، وكيف سترغم الحرب الولايات المتحدة على تخصيص موارد أكثر واهتمام أكبر للشرق الأوسط، وهي المنطقة التي قال مستشار الأمن القومي جيك سوليفان قبل أسابيع من الحرب أنها “هادئة الآن أكثر من أي وقت مضى منذ عقود”، مدعياً أن “انضباط” إدارة الرئيس بايدن في الشرق الأوسط ” سوف يحرر الموارد لاستخدامها في معالجة الأولويات الدولية الأخرى”. الحرب في غزة نسفت جميع هذه التوقعات.
حين بدأ الرئيس بايدن ولايته في مطلع 2021، كان يأمل بتخفيف الحضور الأميركي في الشرق الأوسط ليتفرغ أكثر لمواجهة التحدي الصيني الصاعد في شرق آسيا تحديدًا والعالم عمومًا. ولكن طموحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التوسعية، أثرت سلبًا على هذه السياسية حين قرر قبل عام ونصف غزو أوكرانيا. والآن تجد إدارة بايدن نفسها في مواجهة حربان تحتكران قدراتها ومواردها، الأمر الذي يقلق حلفائها في الشرق الأوسط، وفي منطقتي المحيطين الهادئ والهندي، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وتايوان والفليبين.
قبل هجوم حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كان رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو يواجه معارضة داخلية قوية ضد محاولاته فرض تغييرات جذرية على النظام القضائي في إسرائيل، رأى العديد من الإسرائيليين أنها ستقوض الحريات السياسية والمدنية، ما أدى إلى تنظيم تظاهرات شعبية حادة ضد سياساته. كشف هجوم حركة حماس اخفاقًا سياسياً واستخباراتياً هائلًا لا يمكن لنتنياهو أن يتهرب من تحمل مسؤوليته، على الرغم من أنه حاول ذلك عندما تهرب من الاعتراف بمسؤوليته كما فعل بعض المسؤولين الأخرين في حكومته. وهناك شبه اجماع في الأوساط السياسية والاعلامية في إسرائيل أن أيام نتنياهو في الحكم بعد توقف القتال سوف تكون معدودة.
وبغض النظر عمن سيحكم إسرائيل بعد الحرب، ربما بعد انتخابات نيابية تأتي بائتلاف جديد، فإن مضاعفات هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول واجتياح غزة سوف تؤثر على المجتمع الإسرائيلي اجتماعياً ونفسياً واقتصادياً أكثر مما اثّر عليه غزو لبنان في 1982. هذه التطورات بدورها سوف تقلص كثيرًا، وقد تجمد لوقت طويل، أي بحث جدي لأي تسوية مع الفلسطينيين. قبل الحرب، كانت الولايات المتحدة تعمل بجهد حثيث للتوصل إلى صفقة ثلاثية تؤدي إلى تسوية سلمية بين إسرائيل والسعودية برعاية وضمانات أميركية. تفاصيل هذه الصفقة الثلاثية كانت قيد نقاش طويل منذ أشهر، حيث كان الرئيس بايدن يوفد مبعوثيه إلى إسرائيل والسعودية لمتابعة الاتصالات والمباحثات. ويرى بعض المحللين أن من بين الأهداف التي أرادت حركة حماس أن تحققها من هجومها الذي كان يهدف إلى قلب المعادلة التي كانت تهيمن على العلاقة مع إسرائيل، هو نسف هذه المساعي لعقد صفقة ثلاثية اعتبرتها الحركة متعارضة مع مصالح الفلسطينيين.
بعد توقف القتال، سوف تترك القوات الإسرائيلية الغازية ورائها في معظم المناطق التي كانت مأهولة في غزة قبل الحرب أهرامات لا تحصى من الركام والأطلال، واقتصادًا مدمرًا كليًا، وربما ثلثي عدد سكان غزة دون مأوى ولا يمكنهم البقاء على قيد الحياة دون معونات إنسانية دولية لوقت طويل. عسكرياً وأمنياً، سيتسبب الاجتياح الإسرائيلي بنكسة شبه قاتلة لحركة حماس. حتى لو بقيت الحركة موجودة سياسيًا بشكل من الأشكال، فإنها ستكون ضعيفة للغاية بعد مقتل قادتها العسكريين، ووجود قادتها السياسيين في المنفى يحاولون التهرب من الاجابة على الأسئلة التي ستطرح عيلهم حول مسؤوليتهم الأخلاقية والقانونية حول ما جرى لغزة وسكانها.
المخاوف حول مصير الفلسطينيين في الضفة والقطاع سوف تزداد حدة مع استمرار القتال، نظرًا لأن مسألة “التطهير العرقي” للفلسطينيين وتهجيرهم بالقوة أصبحت مسألة تناقش علنًا في إسرائيل في الدوائر الحكومية والبرلمانية والاستخباراتية على خلفية صدور دراسات من أجهزة استخباراتية للمسؤولين الحكوميين تتضمن مقترحات حول تهجير الفلسطينيين إلى مصر أو إلى دول عربية أخرى، وهذا ما يفسر الموقف المصري والأردني الرافض بالمطلق لترحيل أي فلسطيني.
ادعاء نتنياهو أن إسرائيل تخوض الآن “حرب استقلال ثانية” فسره الكثيرون على أنه تهديد ضمني للفلسطينيين “بنكبة ثانية”. تهديد إسرائيل لسكان شمال غزة بالرحيل إلى الجنوب، وصور عشرات الآلاف من المدنيين من نساء وأطفال ومسنين يحملون ما يمكنهم حمله من ممتلكات شخصية، وهم يسيرون على أقدامهم باتجاه الحدود المصرية، ذّكر الكثيرين بصور مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين تم اقتلاعهم من أراضيهم وأُرغموا على اللجوء إلى الأردن وسوريا ولبنان خلال حربي 1948 و1967.
حتى الآن، المخاوف من توسع رقعة الحرب لم تتحقق، والاعتقاد السائد في أوساط المحللين هو أن معظم الأطراف المعنية، ومن بينها إسرائيل وإيران والميليشيات التي تدور في فلكها في المنطقة، إضافة إلى دول المنطقة الأخرى والولايات المتحدة، لا تريد التورط في حرب مدمرة سوف تكون مضاعفاتها السياسية والاقتصادية وكلفتها البشرية عالية للغاية، وسوف تتسبب بأزمة اقتصادية ومالية عالمية. حتى الآن، الاشتباكات بين إسرائيل وحزب الله على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية لا تزال محدودة ومدروسة، وكذلك الغارات الأميركية ضد مواقع القوى الموالية لإيران في سوريا، والتي تقول واشنطن أنها تأتي في “إطار دفاعي”. إن الحرب في غزة، أظهرت من جديد أن قدرة إيران على تهديد التوازن الأمني الهش في المنطقة لا تزال قوية، ولم تضعفها أزماتها الداخلية ومشاكلها الاقتصادية.
استمرار القتال، واستمرار إدارة الرئيس بايدن بتوفير الغطاء الديبلوماسي لإسرائيل في الأمم المتحدة، والغطاء السياسي لرفضها لوقف إطلاق النار، حتى ولو كان مؤقتا، سوف يعمق من مشاعر الاستياء في أوساط الرأي العام العربي، وفيما يسمى بـ “الجنوب العالمي”، وفي أوروبا، وحتى في دول أميركا اللاتينية. ومع اقتراب القتال من نهاية شهره الأول، شهد العالم ازديادًا ملحوظًا للتظاهرات المناوئة لاجتياح غزة، ولرفض إسرائيل وقف إطلاق النار، والتي عمت مدن آسيا والعالمين العربي والإسلامي، والعواصم الأوروبية والعاصمة الأميركية واشنطن وغيرها من المدن الأميركية، ومدن أميركا اللاتينية، وكانت آخرها تظاهرة ضخمة في مكسيكو سيتي في المكسيك.
فور هجوم حركة حماس ضد جنوب إسرائيل، وبعد الكشف عن أن معظم ضحايا هذا الهجوم كانوا من المدنيين، حظيت إسرائيل بتعاطف شعبي أميركي (ودولي) أولي ظل قوياً وملحوظًا خلال الأسبوع الأول الذي تبع السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ولكن هذا التعاطف الأولي بدأ ينحسر مع ازدياد شراسة وعنف ووحشية القصف الإسرائيلي للمدنيين الفلسطينيين، وأمرهم بمغادرة منازلهم، والارتفاع الهائل في عدد الضحايا من الأطفال، وهذا ما أظهره استطلاع للرأي أجرته مؤخرا جامعة ميريلاند.
الاجتياح الإسرائيلي لغزة، والدمار الذي سيخلفه، والعدد الهائل للخسائر البشرية المدنية، والتهديد الضمني والعلني بالتسبب بنكبة جديدة، سوف يؤثر سلبًا على علاقات إسرائيل بمصر والأردن، الذي سحب سفيره من إسرائيل. وحتى الدول الموقعة على اتفاقات إبراهام، ومن بينها البحرين التي اضطرت أيضًا إلى سحب سفيرها من إسرائيل.
استمرار إدارة الرئيس بايدن برفض وقف إطلاق النار بحجة أنه يخدم مصلحة حركة حماس كما تدعي إسرائيل، ومطالبته بإعلان عن توقف مؤقت للقتال لإيصال المساعدات الإنسانية إلى المدنيين في غزة واجلاء الجرحى والإفراج عن الرهائن، تسبب بمشاكل لواشنطن مع حلفائها الأوروبيين والعرب الذين يريدون وقف إطلاق نار سريع. كما خلق بدايات توتر في العلاقة مع نتنياهو الذي يصر حتى على رفض أي وقف إطلاق نار مؤقت لا يصاحبه الافراج عن الرهائن الإسرائيليين. ومنذ الارتفاع المخيف في عدد ضحايا القصف الإسرائيلي في غزة، وازدياد أعمال العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية على أيدي المستوطنين، والولايات المتحدة تطالب إسرائيل – في الاتصالات الخاصة – وفي التصريحات العلنية بضرورة احترامها لقوانين الحرب لجهة حماية أرواح المدنيين، واتخاذ جميع الاجراءات الضرورية لمنع تعريضهم لأخطار غير مبررة.
وفي الأيام الماضية، برز خلاف جديد بين الطرفين، حين أعلن نتنياهو في مقابلة مع شبكة التلفزيون الأميركية أي بي سي أن إسرائيل يجب أن تسيطر على الوضع الأمني في غزة إلى أجل مفتوح بعد انتهاء القتال، لضمان عدم حدوث هجوم مماثل لهجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ولكن واشنطن سارعت بلسان وزير الخارجية بلينكن إلى القول إنها تعارض عودة إسرائيل لاحتلال قطاع غزة، وكررت موقفها القائل بأن الحل هو في إقامة دولة فلسطينية تضم الضفة الغربية وغزة. ويتوقع بعض المحللين أن يضطر الرئيس بايدن إلى اتخاذ موقف علني ومباشر من مسألة فرض هدنة مؤقتة للأهداف الانسانية، حتى ولو أدى ذلك إلى شرخ في العلاقة مع نتنياهو.
وفي الأيام الماضية، برزت معارضة في الكونغرس في أوساط المشرعين الديموقراطيين، للسلوك العسكري الإسرائيلي المناوئ لقوانين الحرب، وطالب عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الرئيس بايدن بالعمل على فرض وقف لإطلاق النار. ووجدت الحملة الانتخابية للرئيس بايدن نفسها في مواجهة معارضة متزايدة لدعم الاجتياح الإسرائيلي لغزة في أوساط الناخبين العرب والمسلمين، إضافة إلى عدد متزايد من الناخبين الشباب والطلاب والمسلمين والأميركيين من أصل أفريقي في عدد من الولايات المحورية، التي يحتاجها بايدن للفوز في ولاية ثانية. ولوحظ أن التظاهرات المعادية لاجتياح غزة، بمن فيها تظاهرة في واشنطن في الأسبوع الماضي، أصبحت تجذب إليها أعداد كبيرة من الأميركيين الذي يقولون إنهم لن يصوتوا لبايدن في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
ومن بين الظواهر المقلقة للحرب بين إسرائيل وحركة حماس، هو ظاهرة العداء للسامية والعداء للمسلمين التي برزت إلى السطح بوجهها البشع في الأسابيع الماضية، في عواصم عديدة لدول ديموقراطية يفترض أنها تحترم التعددية السياسية والأثنية والدينية، ومن بينها الولايات المتحدة. خلال التظاهرات العديدة المناوئة لاجتياح غزة التي شهدتها عشرات الجامعات الأميركية، كانت هذه التظاهرات تواجه أحيانا تظاهرات مؤيدة لإسرائيل، وكانت تؤدي أحيانا إلى مناوشات خلقت أجواء متوترة أدت أحيانا إلى تعليق التحصيل العلمي تفادياً للعنف. وتقوم الشرطة حالياً بالتحقيق في مقتل مواطن يهودي مسّن خلال اشتباك بين تظاهرتين مؤيدة ومناوئة لإسرائيل في كاليفورنيا. تحدث المسؤولون في مكتب التحقيقات الفيدرالي (الأف بي آي) وفي المنظمات اليهودية عن ارتفاع في عدد التهديدات لليهود بنسبة وصلت إلى حوالي 400 بالمئة في الأسابيع الماضية، وهذا رقم غير مسبوق. وسارع بعض الأميركيين اليهود إلى اقتناء الأسلحة النارية للدفاع عن أنفسهم في مؤشر آخر على حالة التوتر التي خلقتها الحرب في غزة. أدت المشاعر المعادية للمسلمين خلال بداية الحرب إلى قيام رجل مسنّ مؤيد لإسرائيل بطعن وقتل طفل أميركي من أصل فلسطيني عمره ست سنوات. ولا يكاد يمر يوم دون تقارير تتحدث عن تهديدات أو تحرشات تطال المواطنين اليهود والمسلمين على السواء.
جميع هذه الظواهر والمضاعفات السلبية للحرب من الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة مرشحة للتفاقم أكثر إذا استمر القتال لوقت أطول، أو إذا أدى إلى تهجير الفلسطينيين من غزة أو الضفة الغربية. وهذا يمثل تحديا ملحًا وآنيا للرئيس بايدن، خاصة وأنه وفّر لإسرائيل فور بدء القتال الدعم الأخلاقي والسياسي والعسكري غير المشروط تقريبًا، ما ساهم في إيصال غزة وسكانها إلى هذا الوضع الإنساني الكارثي.
إن الآراء الواردة هنا هي آراء خاصة بالكاتب أو المتحدث ولا تعكس بالضرورة آراء معهد دول الخليج العربية في واشنطن أو موظفيه أو مجلس إدارته.