الملك السعودي سلمان يستقبل الرئيس السوداني عمر البشير عند وصوله إلى الرياض في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2015.
يسلّط التقارب الإقليمي الأخير بين المملكة العربية السعودية والسودان الضوء على تبدّل في الجيوسياسة السعودية على مستوى المساعدات. فعقب الإعلان عن وقف إرسال رزمة مساعدات عسكرية كبرى إلى لبنان في نهاية شباط/فبراير الماضي، منحت الرياض مساعدات عسكرية بقيمة 5 مليارات دولار للخرطوم، ما أشار إلى تغيّر في تحالفات نظام عمر البشير الذي كان مواليًا لإيران لفترة طويلة.
سياسات المساعدات الخارجية السعودية
منذ اندلاع الانتفاضات العربية التي بدأت في أواخر عام 2010، كانت المساعدات الخارجية (خصوصًا العسكرية منها) الأداة الأبرز في إطار سياسة المملكة العربية السعودية الإقليمية. ونظرًا لازدهار قطاع النفط في أوائل القرن الواحد والعشرين، استطاعت المملكة استثمار قسم من الفائض في ميزانيتها في السياسات الخارجية، فاختارت زبائن لها وأقامت ولاءات على أساس إقليمي. وعزّز هذا النوعُ من الاستراتيجيات قدرة الأنظمة الملكية في الأردن والمغرب ودول مجلس التعاون الخليجي على الصمود وشجع على قيام الثورة المضادة في مصر.
لكن مع هبوط أسعار النفط الذي تبع ذلك، يجب أن تعيد السعودية النظر في سياسات المساعدات الخارجية الخاصة بها. وبسبب انخفاض العائدات، ستُجبَر المملكة على أن تصبح أكثر انتقائية في تخصيصها الاستيراتيجي للمساعدات الخارجية. إلّا أنّ قرارات الرياض لا ترتبط بالتخفيضات الثابتة لإنفاقها، بل توجّهها بشكل رئيسي الاعتباراتُ الجيوسياسية في إطار التنافس السعودي-الإيراني للهيمنة على الشرق الأوسط وخارجه. وهذا ما يفسّر إلغاء الرياض للمساعدات الخارجية للقوات المسلحة اللبنانية في حين تُوقّع المملكة على اتفاقات بمبالغ طائلة مع المغرب والسودان.
السودان بين إيران والمملكة العربية السعودية
تشهد العلاقات السعودية-السودانية حالة انتعاش منذ عام 2015 بسبب التئام في المصالح. ففي الواقع تهدف المملكة إلى بناء جبهة سنّية محكمة عسكرية بالتحديد في وجه إيران، في حين يتزايد قلق النظام السوداني من جهة أخرى إزاء أمن الميزانية والعزل في المنظومة الدولية الناجم عن العقوبات. فبالنسبة للحكومات الاستبدادية مثل الحكومة السودانية، يُعتبر أمن الميزانية أمرًا أساسيًّا لأنه يعني أمن النظام. وكان تحالف السودان وإيران قويًّا لعقود، إذ ساعدت طهران الخرطوم مثلًا على إجراء تدريب عسكري وبناء مجمّع عسكري-صناعي محلي للأسلحة الصغيرة والذخائر، ما أسهم في النهوض بدور الجيش في الاقتصاد الوطني. وفي المقابل، قدّم النظام السوداني أسلحة إلى مجموعات ثورية صديقة لإيران في أفريقيا والشرق الأوسط، أبرزها المجموعات الحوثية في اليمن، التي تحارب القوات التي تدعمها المملكة العربية السعودية.
وإنّ سياسة التحالف لعبةٌ بمستويين خاضعة لتفاعلات الساحتين الدولية والمحلية. ولهذا السبب، دفع انهيار الاقتصاد السوداني وتصاعد الاستياء الشعبي الرئيسَ البشير إلى التحوَل من طهران إلى الرياض طالما أنّ هناك فرصة جيوسياسية سانحة. وفي الوقت عينه كانت السعودية توسّع نطاق جهودها الدبلوماسية في أفريقيا. ومنذ أن نال جنوب السودان الغني بالنفط استقلاله عام 2011، انخفض إنتاج النفط في الخرطوم من 540 ألف برميل في اليوم إلى 100 ألف برميل. وأتت الحرب الأهلية في جنوب السودان في فترة 2013-2015 لتزيد الطين بلة. وينفق النظام السوداني 70 في المئة من ميزانيته على الوظائف الأمنية والعسكرية، شأنه شأن عدد من الحكومات الاستبدادية الأخرى.
لذلك، اضطرّ النظام إلى استبدال عائدات موارد الطاقة المحلية بمساعدات خارجية للاستمرار. وفي 2015، أغلقت الخرطوم المراكز الثقافية الإيرانية فيها، مُدينةً محاولات طهران بنشر المذهب الشيعي. ثمّ فسخ السودان علاقاته الدبلوماسية مع إيران بعدما هوجمت مواقع دبلوماسية سعودية في طهران ومشهد عقب إعدام المملكة العربية السعودية رجل الدين الشيعي والناشط نمر النمر. فضلًا عن ذلك، بدأ السودان بالتقرب من نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر، وكذلك بتأييد الحكومة الليبية التي تدعمها المملكة ومقرها طبرق.
الحرب اليمنية تغيّر موازين اللعبة
والأهمّ في هذا السياق انخراط الخرطوم العسكري في الأزمة اليمنية الذي شكّل عاملًا غيّر موازين اللعبة في العلاقات السعودية-السودانية. ففي صيف 2015، علقت الميليشيات الموالية للحوثيين والفصيلة المؤيدة لحكومة الرئيس هادي المدعومة من الائتلاف الذي تقوده المملكة العربية السعودية في مأزق صعب في اليمن. فبسبب رفض مصر وباكستان الانضمام إلى القوات البرية في الائتلاف حينئذٍ، افتقرت السعودية القوة البشرية العسكرية ذات الخبرة في مكافحة التمرد والقادرة على القتال في عدن وتعز. ووفقًا للائتلاف، أرسل السودان 6 آلاف جندي على الأقل (من القوات البرية والوحدات الخاصة) إلى اليمن للانضمام إلى وحدات حرس الرئاسة الإماراتي، وأُرسلت طائرتا “سوخوي 24م” على الأقل إلى قاعدة الملك خالد الجوية في المملكة العربية السعودية. وفي خلال اجتماع عُقد مؤخرًا، شددّ وزير الخارجية السعودي عادل الجبير أمام نظيره السوداني على مساهمة الخرطوم في الحرب اليمنية. وشارك السودان أيضًا في “مناورات رعد الشمال” العسكرية المكثفة التي قادتها المملكة العربية السعودية في حفر الباطن وانضمّ إلى التحالف الإسلامي الذي أطلقته المملكة.
ويرتكز التقارب السعودي-السوداني على اتفاق غير رسمي على “المال مقابل الخدمة البديلة”، أي تقديم الرياض مساعدات مالية-عسكرية خارجية للخرطوم مقابل انخراط الجنود السودانيين المباشر عسكريًّا في عمليات خارج البلاد. وعزّز هذا الاعتماد العسكري المتبادل أيضًا العلاقات الاقتصادية والمشاريع المشتركة بين السودان والمملكة العربية السعودية إلى جانب دول عربية خليجية أخرى. ويشمل ذلك إنتاج الذهب السوداني واستثمار الموارد المعدنية في المياه الساحلية في البحر الأحمر حيث تتمتع السعودية بموقع مشترك مع السودان وهو مشروع “أطلانتس 2” المشترك. وفي 2015، وصل إلى بنك السودان المركزي مليار دولار من المملكة العربية السعودية، سبقه مبلغ 1.22 مليار دولار من قطر. واستضافت الرياض ملتقى الاستثمار السعودي السوداني، وأبوظبي ملتقى الاستثمار الإماراتي السوداني. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2015، تعهدت المملكة بتقديم 1,7 مليار دولار لبناء ثلاثة سدود في شمال السودان سيتم العمل على تشييدها في مهلة خمس سنوات، فضلًا عن 500 مليون دولار لمشاريع المياه والكهرباء واستثمار الأراضي الزراعية في شرق السودان.
السعوديون يتجهون نحو “دفاع مبني على الطائفية”
إلى جانب السودان، بدأت دول القرن الأفريقي كلها تتحالف مع الرياض في سياق “الحرب الباردة” الشرق أوسطية القائمة بين المملكة العربية السعودية وإيران. ووطّدت المملكة كذلك علاقاتها بجيبوتي والصومال، وقطع كلّ من هذين البلدين روابطه بإيران في كانون الثاني/ يناير. وفي اليوم نفسه الذي أعلن فيه الصومال قطع العلاقات، نُقل أنّه تلقّى تعهدًا من المملكة للحصول على مساعدات بقيمة 50 مليون دولار منها. ونظرًا للروابط العابرة للحدود في المنطقة، ستشكّل المنطقة الثانوية التي تضمّ مضيق باب المندب وخليج عدن وشرق أفريقيا عاملًا أساسيًّا أكثر فأكثر لاستقرار شبه الجزيرة العربية، وذلك بهدف كبح الشبكات الجهادية وعودة القرصنة المحتملة في المياه الصومالية واليمنية. وتقع عدن وسط هذه العقدة الأمنية الإقليمية، ولا يمكن تأمين استقرار اليمن إذا كانت عدن خارجة عن السيطرة.
وكما برز في حالة السودان، يسهم تخصيص السعودية مساعدات عسكرية في إنشاء علاقات من الاعتماد المتبادل بين كفيل وعميل في المنطقة العربية، مبنية ضمنيًّا على مبدأ الشرطية السياسية. وتصمّم المملكة العربية السعودية نمط “دفاع مبني على الطائفية” في المنطقة العربية، معززةً الائتلافات الأمنية (مثل الائتلاف الإسلامي) والاتفاقات الثنائية المبنية على الخطوط الطائفية، لكن لأهداف معادية لإيران ومرتبطة بسياسة القوة. وتستثني خطة دفاعية كهذه البلدان ذات المجتمعات غير المتجانسة حيث تؤدي إيران دورًا أساسيًّا (كما في لبنان والعراق)، ما يرسّخ الانقسامات الداخلية. وفي هذه الاستراتيجية التي لا ربح فيها والمحفوفة بالمخاطر، لا تزال المساعدات الخارجية تؤدي دورًا حاسمًا بالنسبة للرياض، وأيضًا للخرطوم لكن لأسباب عملية.
إليانورا أرديمانيي محللة دولية للعلاقات في الشرق الأوسط مع التركيز على اليمن ومنطقة مجلس التعاون الخليجي. وهي كذلك محللة خاصة بالخليج في “مؤسسة كلية دفاع حلف شمال الأطلسي (الناتو)” ومساهمة في “معهد أسبن” في إيطاليا. وفي رصيد أرديمانيي أيضًا كتاب “الأزمة اليمنية: أصلها والعوامل المغيّرة لموازين اللعبة فيها وآثارها الإقليمية”The Yemeni Conflict: Genealogy, Game Changers and Regional Implications لـ”معهد دراسات السياسات الدولية” (إسبي) في ميلان، قسم التحاليل (سيُنشر قريبًا). وهي حائزة على شهادة ماجستير في الدراسات الشرق أوسطية من كلية الدراسات العليا في الاقتصاد والعلاقات الدولية (أسيري) في ميلان.